نشرت مجلة “تايم” الأمريكية مقالا للمؤرخ في مجال الأمن والاستخبارات وكاتب تاريخ وكالة “أم أي فايف” البريطانية كالدر والتون، حثّ فيه الغرب على النظر في مرحلة ما بعد حكم فلاديمير بوتين والتحضير لها.
وقال الأستاذ بكلية كيندي للقانون والحكم بجامعة هارفارد إن الأخبار الأخيرة عن محاولات اغتيال ضد الرئيس الروسي بوتين أثارت سؤالا: ما هي روسيا التي ستظهر بعده؟ وربما كان مغريا التفكير في أنه لو قتل بوتين أو أطيح به من الحكم، عبر انقلاب داخل القصر، فستتخلص روسيا من قيود الديكتاتورية وتعيد تطبيع علاقاتها مع الغرب والمضي نحو الطريق الديمقراطي، لكن هذا تفكير غير صحيح؛ فالتاريخ يشير إلى إمكانية ضئيلة لحدوث هذا في روسيا. والضامن الأكيد الذي يمنع روسيا من الإصلاح بناء على الخطوط الديمقراطية، هي مؤسساتها الأمنية والاستخباراتية. فقد ظلت كي جي بي والوكالات الأمنية التي جاءت بعدها صانعة الملوك في المسار الحيوي بمرحلة ما بعد الاتحاد السوفييتي. وظلت قوة الأجهزة متماسكة في وقت جاء فيه حاكم للكرملين وذهب، ولا يوجد ما يدعو إلى القول إن هذه الأجهزة لن تفعل الأمر نفسه.
وروسيا فعليا، هي خدمات أمنية ترتبط بها الدولة، فالوكالات الأمنية الثلاثة: الخدمات الاستخباراتية الفدرالية (أف أس بي) والخدمات الاستخباراتية الخارجية (أس في أر) ووكالة الاستخبارات العسكرية (جي أر يو) تتمتع بتأثير واسع. وحكم بوتين خلال العقدين الماضيين معتمدا على “رجال القوة” (سيلفوك) ممن لديهم خلفية وتدريب في وكالة كي جي بي (وكالة الاستخبارات في العهد السوفييتي). وتقدر نسبة هؤلاء الرجال في حكومة بوتين بـ 77%، وهذا حسب تقدير في عام2019. وبحسب تقدير قريب لمحطة سي آي إيه في موسكو، فإن “الأغلبية الطاغية” للتكنوقراط في الحكومة جاؤوا من هذه الأرضية، وبوتين ليس بالضرورة الأكثر تشددا بينهم. ولو جرى التخلص من بوتين، فسيقفز آخر مثل نيقولاي بارتروشيف في مجلس الأمن الروسي ويسيطر على الحكم، ولن يتغير أي شيء.
والأمر نفسه ينطبق على سيلفوك آخر وهو وزير الدفاع سيرغي شويغو أو الكسندر بوترونيكوف، مدير الاستخبارات الفدرالية. ولو وصل أي منها إلى رأس السلطة فالأمور ستزيد سوءا. وربما كان لديهما مواقف واضحة أكثر من بوتين، إلا أن الأخير أفضل للغرب منهما، والمقولة هنا “الشيطان الذي تعرفه” تنطبق على حال روسيا.
وفي مرحلة ما بعد الاتحاد السوفييتي، قاد الحكومة الروسية بوريس يلتسين، الذي كان يأمل بدفن كي جي بي. وسُلط الضوء على هذه المرحلة عندما وصلت الدولة الأمنية مرحلة تحول ولكنها فشلت، كما تظهر أوراق جديدة كشف عنها للمخابرات الخارجية البريطانية أم أي6. وكتب مدير مكتبها في موسكو جون سكارليت، إن يليتسين يمارس نوعا من الرقابة السياسية على الخدمات الاستخباراتية من خلال التشريعات. وكتب سكارليت إن نجاح هذه الجهود أو فشلها يعتمد على توقف قادة الكرملين من التدخل في الوكالات الاستخباراتية، ولم يكن سكارليت متفائلا.
قامت إستراتيجية يلتسين على الفصل بين عمل كي جي بي التي كانت مسؤولة عن الخدمات الداخلية والخارجية، وقسمها إلى جهازين واحد هو أف أس بي للخدمات الداخلية/الفدرالية والثاني أس في أر للخدمات الخارجية. وكان يلتسين يريد دفن كي جي بي، إلا أنها عادت ونظمت نفسها من جديد داخل التقسيم الجديد. وتبادل ضباط كي جي بي السابقين بالملفات وحتى العملاء في الغرب، ودخلوا بطريقة سلسة في الخدمات الجديدة، سواء أف أس بي أو أس في أر.
وقال منشق سابق عن كي جي بي إن كتب التدريب والإرشاد ظلت تستخدم في مقرات كي جي بي القديمة في لوبيانكا لكن بدون صفحات الشيوعية. وكان أول مدير للخدمات الخارجية هو يفغيني بريمكوف، وجعل نفسه شخصا لا يمكن الاستغناء عنه ليلتسين، كما حدث مع الخدمات الفدرالية التي قادها عام 1998 بوتين نفسه.
استخدم بوتين ماضيه كثيرا في كي جي بي، وأطلق على نفسه “تشكيست” تشريفا لشرطة لينين السرية “تشيكا” التي سبقت كي جي بي. واحتفظ بتمثال نصفي لمؤسس تشيكا فيلكس ديرجنسكي “فيلكس الحديدي” في مكتبه.
ومهم لماضي بوتين أيضا عمله في سانت بطرسبرغ بداية التسعينيات من القرن الماضي، مركز القوة للمافيا الروسية. وكانت وظيفة بوتين في حكومة المدينة فرصة للدخول في عالم المدينة السري. وفي نهاية العقد الأخير من القرن الماضي اختار يلتسين بوتين الذي كان مغمورا في قيادة أف أس بي، واختاره خليفته.
لم يكن بوتين على قائمة الاستخبارات البريطانية عام 1998 ضمن الخلفاء المحتملين ليلتسين. وفعل هذا على أمل أن يكون بوتين معه لطيفا حال مغادرته السلطة، وكان يلتسين محقا.
وعندما سيطر بوتين على الكرملين، تماهت المافيا مع الاستخبارات الروسية. وقاد منذ ذلك الحين دولة أمنية ومافيا. وتقوم أف أس بي بعمليات تبييض أموال لبوتين والمتعاونين معه من الأوليغارش.
إن الأمر ليس متعلقا بعدد من الأشخاص الفاسدين، ولكن يجري الأمر على قاعدة واسعة ومتعفنة. وقبل أن يصبح بورتينكوف مديرا لأف بي أس كان مديرا لدئراتها الاقتصادية، حيث كانت الرابطة بين المافيا الروسية وابتزاز الدولة. وستظل المنظومة التي أقامها بوتين بعده، وأي ثورة أو عملية اغتيال ناجحة يجب أن تأخذ معها كل النظام القديم الذي أقامه. ولن تختفي أف أس بي بدون قتال، ومن غير المحتمل كما حدث في عام 1991 عندما تحورت وظلت.
وفي الوقت الذي يعيش فيه أعداء بوتين في السجون، فإن أحسن خيار متوفر لدى الولايات المتحدة هو التحضير لمعركة تغيير طويلة داخل روسيا. ولن يأتي نجاح القوى الديمقراطية إلا بعد معركة طويلة، حتى بمساعدة من الغرب والناتو، إلى جانب إستراتيجية لإضعاف قوة روسيا الاستخباراتية وخطة عظيمة لاحتواء روسيا، تقوم على حقيقة غير مريحة: لدى الغرب مشكلة روسية وليس فقط مشكلة بوتين.
القدس العربي