بعد تصويت البرلمان العراقي على أضخم موازنة عامة في تاريخ البلاد، والخلافات السياسية التي أحاطت بها، تتزايد التساؤلات في شأن المرحلة المقبلة وما إذا كانت ستشهد بداية انهيار “ائتلاف إدارة الدولة” المشكل لحكومة محمد شياع السوداني، خصوصاً مع تشعب الخلافات داخل الكتل السياسية المشكلة للائتلاف.
ومثل إقرار الموازنة العامة لثلاثة أعوام نقطة الشروع الأولى في ظهور حجم الخلافات السياسية بين أطراف “ائتلاف إدارة الدولة”، خصوصاً مع الحديث المتزايد عن انقلاب “الإطار التنسيقي” على تفاهمات تشكيل الحكومة مع الكتل السنية والكردية، بحسب مراقبين، ويبدو أن المرحلة المقبلة تنذر باحتمال قرب انفراط عقد هذا التحالف وبداية أزمات كبرى تنتظر حكومة حلفاء طهران في العراق، إضافة إلى تزايد الحديث عن إشكالات داخلية بين كتل “الإطار التنسيقي” نفسها.
إقليم كردستان “خط الموت”
ولعل هذا التحالف الهش، على حد وصف مراقبين، والذي انبثق على أثر انسحاب زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر واستقالة نوابه، العام الماضي، سيواجه تحديات كبرى خلال الفترة المقبلة، خصوصاً مع عدم إيفاء الجماعات الموالية لإيران بالتزاماتها إزاء اشتراطات أطراف الائتلاف من خارج “الإطار التنسيقي”، وتعطي التصريحات الأخيرة لزعيم “الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني انطباعاً بأن حدة الخلافات بين الحزب وأطراف رئيسة داخل الائتلاف وصلت إلى حدود غير مسبوقة، وهو ما ينذر ببداية أزمات سياسية قد تدوم طويلاً.
وفي أول رد فعل على إمرار الموازنة العامة للبلاد، وجه بارزاني، أمس الأحد، رسالة شديدة اللهجة قال فيها “مؤسف جداً ما حدث في الأيام القليلة الماضية في مجلس النواب العراقي من محاولات غير مسؤولة وغير دستورية تهدف لتعميق المشكلات وانتهاك الحقوق المشروعة للشعب الكردستاني”. وأضاف بيان بارزاني “يدرك الجميع أن هناك حوارات أدت إلى اتفاقات بناءة بين الأطراف المكونة لتحالف إدارة الدولة لإزالة العوائق وحل الإشكاليات، فالحكومة الاتحادية العراقية وحكومة إقليم كردستان قد توصلتا إلى اتفاق جيد وإيجابي لحل المعضلات، من أجل توطيد دعائم الاستقرار في البلد وخدمة الناس، إلا أن ما فعلته بعض الأحزاب السياسية، وللأسف، من جحود وإنكار وبطريقة غير مسؤولة بهدف تقويض كيان إقليم كردستان، إلا أن محاولاتهم باءت بالفشل وأهملت”. وتابع أن ما حدث في الأيام القليلة الماضية في البرلمان العراقي “أزال القناع وكشف عن الوجه الحقيقي للأطراف الشوفينية ومساوماتها ومن لا يحترمون عهودهم وتواقيعهم، إنهم لا يحترمون الدستور”.
وختم بارزاني بيانه قائلاً “نعارض وبشدة أي محاولة متهورة تسعى إلى التجاوز وتقويض كيان إقليم كردستان، فبالنسبة لنا، إقليم كوردستان ليس خطاً أحمر فحسب، بل هو خط الموت أيضاً، فإما كردستان أو الفناء”.
مقدمة صراع أوسع
ولا تتوقف الخلافات بين أطراف “ائتلاف إدارة الدولة” عند حدود الخلافات حول الموازنة العامة للبلاد، إذ تم تشكيل هذا الائتلاف بشكل سريع لإنهاء أزمة تشكيل الحكومة العراقية، في أكتوبر (تشرين الأول) 2022، وهو ما يدفع مراقبين للإشارة إلى أن الخلافات ستتصاعد عند كل أزمة خصوصاً مع عدم تشكيل الائتلاف على أساس استراتيجي.
ورأى رئيس مركز “التفكير السياسي” إحسان الشمري أن الخلافات السياسية بين أطراف “ائتلاف إدارة الدولة” بدأت مبكراً حتى قبل إقرار الموازنة، مبيناً أن ما حفز تلك الخلافات على الظهور في هذا التوقيت هو “الانقلاب على الاتفاقات السياسية، فضلاً عن اقتراب موعد الانتخابات المحلية، والتي فرضت اصطفافات سياسية جديدة”. وأضاف الشمري أن ما يجري الآن لا يمثل سوى “مقدمة لصراع سياسي أوسع خلال الفترة المقبلة، خصوصاً مع بدء مرحلة إعادة توزيع المناصب العليا على أساس المحاصصة”.
ولا يمثل إقرار الموازنة العامة للبلاد سوى “نقطة الشروع في ظهور الخلافات السياسية بشكل واضح إلى العلن”، بحسب تعبير الشمري الذي يشير إلى أن الائتلاف الحاكم “هش ومرحلي، وسيتعرض بعد إقرار الموازنة إلى اهتزازات كبيرة”. ولفت الشمري إلى مسار آخر سيسهم في تعقيد مسار الصراعات السياسية في المرحلة المقبلة، يتعلق بما سماه “صراع الزعامة” داخل أروقة “الإطار التنسيقي”، مبيناً أن هذا الصراع الذي لا يبدو حتى الآن ظاهراً، إلا أنه سيمثل “منطلقاً لبدء خلافات كبيرة داخل التحالف الشيعي، خصوصاً مع محاولة السوداني أخذ مساحة أكبر في الزعامة السياسية”.
ولعل إدراك السوداني أن “ائتلاف إدارة الدولة” لن يستمر طويلاً هو الذي دفعه خلال الفترة الماضية إلى “توسيع دائرة نشاطه السياسي مع بعض القوى البرلمانية المستقلة”، بحسب الشمري الذي لفت إلى أن “طبيعة لقاءات السوداني الأخيرة تعطي انطباعاً بأنه يحاول تحصين نفسه بكتلة برلمانية ساندة”.
صراع الزعامة في “البيت الشيعي”
ولا تبدو الأجواء داخل “الإطار التنسيقي” للقوى الشيعية مختلفة عما يدور من خلافات مع الكتل الكردية أو السنية، إذ يبدو أن الخلافات داخل “الإطار” بدأت بالتصاعد نتيجة “صراع الزعامة” داخل الكتلة الشيعية الكبرى، فضلاً عن المخاوف من احتمال أن يقوم السوداني بتحركات لتدعيم رصيده السياسي خلال المرحلة المقبلة، بحسب مراقبين، وتعطي كل تلك المعطيات تصوراً عن شكل المرحلة المقبلة لحكومة محمد شياع السوداني.
ورأى الباحث والمتخصص في الشأن العراقي مصطفى ناصر أن الخلافات داخل “ائتلاف إدارة الدولة” يمكن وسمها بـ”الصراع المصلحي الاستراتيجي”، مبيناً أن ما جرى خلال الفترة الماضية هو “انقلاب على الاتفاقات التي يفترض أنها استراتيجية انبثقت عنها حكومة السوداني”.
ويبدو أن ما يجري خلال المرحلة الحالية دق ناقوس الخطر لكل من كتلة “الحزب الديمقراطي الكردستاني” وكتلة “تقدم” التي يتزعمها رئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي. وقال ناصر إن تحركات “الإطار التنسيقي” تؤكد مخاوف الكتلتين السنية والكردية من “الانقلاب على الضمانات التي تم تقديمها لتشكيل الحكومة”. وأضاف أن محاولة أطراف الإطار التنسيقي الانقلاب على الاتفاقات المبرمة بين السوداني و”الحزب الديمقراطي الكردستاني”، فضلاً عن دفع “الإطار” أطرافاً سنية معارضة للحلبوسي لمحاصرته سياسياً، تمثل “نقطة الشروع الأولى نحو بدء مرحلة متشعبة من الخلافات السياسية ربما هي الأكبر منذ حكومة المالكي الثانية 2010-2014”.
ولا يبدو أن مساحة الصراع في الفترة المقبلة ستتوقف عند حدود الخلافات بين “الإطار التنسيقي” والكتلتين السنية والكردية. ولفت ناصر إلى أن “الأطراف الرئيسة داخل الإطار التنسيقي متخاصمة ومتصارعة في ما بينها”، مشيراً إلى أن الفترة المقبلة ربما تشهد تطورات كبرى داخل التحالف الشيعي الأبرز حالياً.
ولعل ما يجعل تصاعد الصراعات داخل أروقة “الإطار التنسيقي” محتملاً بشكل كبير خلال الفترة القليلة المقبلة هو “كون المالكي الذي يعد رأس الهرم في الإطار عملياً لم يعد قادراً على إدارة الازمات”، كما عبر ناصر الذي بين أن هذا الأمر جاء بدفع من أطراف رئيسة داخل “الإطار التنسيقي”. وأشار أيضاً إلى مسار آخر ربما يسهم بزيادة تعقيد المشهد السياسي داخل أروقة القوى الشيعية، يتمثل بـ”طموح السوداني تشكيل كيان سياسي أو كتلة انتخابية”، مبيناً أن آخر ما تبحث عنه زعامات “الإطار التنسيقي” في الفترة الحالية هو “انبثاق تيار جديد يزاحمها في الانتخابات المقبلة”.
اتفاقات هشة
ولا تخلو الساحة السياسية السنية هي الأخرى من الخلافات، خصوصاً مع الدعم الواضح الذي توفره كتل “الإطار” لشخصيات سنية مناوئة لرئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي، والذي كان طرفاً رئيساً في الاتفاقات السياسية التي مررت حكومة السوداني.
ورأى المتخصص في العلوم السياسية عصام الفيلي أن الخلافات داخل “ائتلاف إدارة الدولة” ستستمر طويلاً، لأن هذا الائتلاف “لم ينبثق على أساس تفاهمات سياسية، بل نتيجة ظروف طارئة تلت انسحاب التيار الصدري”.
ويعد تشريع الموازنة العامة مثالاً واضحاً لـ”هشاشة الاتفاقات التي بني على أساسها هذا الائتلاف”، كما عبر الفيلي الذي أشار إلى أن ما يرجح كفة بداية موسم طويل من الصراعات السياسية هو أن “أطرافاً رئيسة داخل ائتلاف إدارة الدولة لديها إشكالات عميقة مع الإطار لم يتم حسمها حتى الآن”. ولفت الفيلي إلى أن تحرك قوى شيعية رئيسة داخل “الإطار التنسيقي” باتجاه دعم شخصيات سنية تتعارض مع الحلبوسي، وعلى رأسها رافع العيساوي يعطي تصوراً واضحاً عن “الأزمات السياسية المتشعبة التي تنتظر حكومة السوداني خلال الفترة المقبلة”.
وعلى رغم كون “البيت السني” أكثر هدوءاً من البيتين الشيعي والكردي، بحسب الفيلي، فإن “تشعب الزعامات والطبقات الاجتماعية داخله يجعل من السهل إيجاد ثغرات لضرب الحلبوسي”، مضيفاً أن دعم “الإطار التنسيقي” شخصيات سنية لا يتوقف فقط على محاولات إضعاف الحلبوسي، بل يمثل أيضاً “محاولة ابتزاز لأي تفاهمات أكبر بين الحلبوسي والحزب الديمقراطي الكردستاني”. وختم الفيلي أن قرب موعد الانتخابات المحلية “سيعجل من بداية صراع سياسي واسع ليس فقط على مستوى ائتلاف إدارة الدولة، بل داخل المكونات نفسها”.