أعادت إيران افتتاح سفارتها في الرياض، وستعيد الرياض افتتاح سفارتها في طهران بعد عيد الأضحى. وتفعيل التبادل الدبلوماسي تطور مهم في مسار المصالحة الإيرانية-السعودية بعد الاتفاق الذي رعته الصين، لكن ملفات العلاقة الإشكالية والصعبة ما زالت قائمة، والطريق إلى حلها سيكون صعبًا ويقتضي نجاحه تقديم تنازلات من قبل الطرفين. وقد يكون ما حدث في القاعة التي استضافت المحادثات عند زيارة وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، طهران مطلع هذا الأسبوع مثالًا حيًّا على هذه الإشكالية، فالقاعة التي اعتادت الخارجية الإيرانية أن تستقبل ضيوفها فيها تحتوي على صورة لقائد فيلق القدس، الجنرال قاسم سليماني، الذي اغتالته الولايات المتحدة الأميركية مطلع العام 2020، وكانت ستظهر في خلفية الصورة لعبد اللهيان وابن فرحان، ويبدو أن الوفد السعودي طالب بتغيير مكان الاجتماع وهو ما استجابت له طهران، مرجعة التغيير لـ”أسباب فنية”.
إن عودة العلاقات الدبلوماسية بين إيران والسعودية وزيارة وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، إلى طهران، ودعوة إبراهيم رئيسي لزيارة السعودية، حلقات أخرى تضاف إلى مسار تطبيع العلاقات بين طهران والرياض، ولا يمكن الاستهانة بالأثر الذي سيتركه ذلك على مجمل العلاقات في المنطقة خاصة مع ما للدولتين من أثر وتأثير في غرب آسيا، ومكانتهما المحورية في مجال الطاقة.
وقد تنجح الدولتان في إرساء معادلة جديدة في العلاقة لحاجتهما الماسة إلى ذلك، ولكن الإشكاليات التي من الممكن أن تعيد التوتر في أية لحظة لا تزال قائمة مما يؤشر إلى مسار صعب قادم، ولعل أبرز هذه الإشكاليات ما نضعه في النقاط التالية:
أولًا: طبيعة نظام الحكم والفلسفة السياسة التي تحكم الأنظمة في المنطقة فيها اختلافات جوهرية لا يمكن التقليل من شأنها، ولذلك فإن جزءًا من الحوار يجب أن ينصرف إلى إمكانيات التعايش بين هذه الأنظمة والقبول بالاختلافات في إطار أمني مشترك يضمن مصالح الجميع، وهنا تبرز مشكلة المصالح المتضاربة.
ثانيًا: العلاقات الخارجية ومجموع التحالفات؛ وهناك فروق تكاد تكون جذرية في بناء التحالفات وتعيين الأصدقاء والأعداء ولا يمكن بأي حال من الأحوال تجاهل أثر العامل الخارجي على مسار علاقة البلدين وخاصة الموقف من الولايات المتحدة الأميركية.
ثالثًا: تعريف المصالح والدور الذي تريده كل دولة، من الواضح أن التباين على هذا الصعيد واضح للعيان ولا يمكن استبعاد أو إسقاط أثر الاختلاف في الأولويات لكل طرف في المعادلة، وارتباط ذلك بمعادلة أولويات الدول ذات المصالح الاقتصادية والسياسية الكبيرة في المنطقة.
ويبدو أن الأمن هو مطلب وملف ضاغط في العلاقة سواء الأمن بمفهومه العسكري -وهنا يبرز ملف اليمن ملفًّا ضاغطًا بالنسبة للسعودية- أو بمفهومه الاقتصادي -وهنا يبرز ملف العقوبات ملفًّا ضاغطًا بالنسبة لإيران-. وبسبب التشعبات المرتبطة بذلك، وهي تشعبات ضاغطة، فالأمر يقتضي تفكيرًا بصياغة مرجعيات ضابطة لحل هذه المسائل، وإدارة المختلف عليه من خلال الطرق السياسية والدبلوماسية بمعايير تقبل بها أطراف العلاقة. ولا يكفي الرهان على العامل الاقتصادي لجعل هذا التقارب مختلفًا عن المحاولات السابقة. صحيح أن المنطق الاقتصادي يحفز كلتا الدولتين على التهدئة ومعالجة التوتر، بالنظر إلى أن حجم الناتج المحلي الإجمالي لدول مجلس التعاون من المتوقع أن يصل خلال العام الجاري (2023) إلى 2.1 تريليون دولار؛ وفق أرقام قدمها عبد العزيز العويشق، الأمين العام المساعد للمجلس في افتتاح مؤتمر الحوار العربي-الإيراني، ومع ذلك يبقى الاقتصاد متأثرًا بالإشكاليات السابقة التي أشرنا إليها.
وفي المسار الأمني للعلاقة، سيبقى ملف النفوذ الإقليمي لإيران يطل برأسه بين الفينة والأخرى، والعقبة المهمة هنا أن لا إيران مستعدة للتخلي عن أوراقها الرابحة ومنها نفوذها الإقليمي ولا السعودية مستعدة للقبول به، والسؤال يطرح هنا عن إمكانيات التسوية أو الحل.
بالتأكيد لن تتخلى إيران عن حلفائها من الميليشيات المنتشرة في العراق وسوريا واليمن، وأماكن أخرى لكن موضوع الميليشيات مرتبط بشكل كبير بالحالة السياسية وتصاعد مستويات التهديد. فإذا ضمنت جماعة أنصار الله حصة سياسية معتبرة في التسوية السياسية في اليمن، فسيكون هذا حلًّا مناسبًا جدًّا لإيران. وبالنسبة لسوريا، إذا نضج الحل السياسي، فهذا يعني أن الميليشيات الإيرانية في سوريا والعراق ستدخل في حالة من الكمون؛ مما يجمد الحالة دون حلول جذرية لها.
ولا تقل مسألة الموقف من القضية الفلسطينية وبالارتباط بذلك الموقف من الاحتلال الإسرائيلي والعلاقة مع إسرائيل أهمية عما سبق كمحدد لنجاح أو فشل مسار التقارب السعودي-الإيراني، فالمواقف على هذا الصعيد متباينة وفي الوقت الذي تؤكد فيه إيران موقفها الرافض للتطبيع مع إسرائيل، تخرج تسريبات وإشارات على أن السعودية قد تقبل بتسويات ونظام علاقات تكون إسرائيل جزءًا منه. ولذلك، فإن إسرائيل والموقف منها سيكونان على الدوام عاملين مؤثرين في مستقبل العلاقة السعودية-الإيرانية. وقد تكون إيران بتقاربها مع السعودية قد حيدت هذا العامل لبعض الوقت دون أن يسقط من المعادلة بالكامل.
وفي الوقت الذي تنظر فيه إيران إلى القواعد العسكرية الغربية في منطقة الخليج كتهديد ومعيق لعلاقات جيدة بين إيران وجيرانها، لا يشاركها الجيران هذا الموقف.
تحاول إيران تعزيز مشاركة الجوار في مسارها التفاوضي مع الغرب، وتقوم قطر وعُمان بدور على صعيد نقل الرسائل بين طهران وواشنطن خاصة في مجال تبادل السجناء، ومؤخرًا دخلت أبو ظبي على هذا الخط واستضافت مشاورات دبلوماسية بين كبير المفاوضين الإيرانيين، علي باقري، ونظرائه الألمان والفرنسيين والإنجليز. ويبدو أن إيران تسعى لتوسيع مظلة الأدوار الدبلوماسية التي تقوم بها دول الإقليم، بغية تعزيز العلاقة معها.
وعودة إلى الأمن والاقتصاد مدخلين للتقارب، فنجاح ذلك يفتقر إلى خريطة طريق وبرنامج عملي يتم فيه وضع جدول زمني وأهداف واضحة، وتأتي معضلة اليمن في رأس القائمة حيث الحاجة إلى حل سياسي قابل للاستمرار.
وقد تحتاج السعودية وإيران إلى بناء آلية خاصة للحوالات المالية لتجاوز إشكالية نظام الـ”سويفت” المتأثرة بالعقوبات، وفق الأرضية التي أنشأتها إيران مع الصين، والتي تقوم على الاستفادة من العملات المحلية والوطنية.
وكما أن العقوبات هي ملف ضاغط فإن تعثر المفاوضات بشأن برنامج إيران النووي هي ملف ضاغط أيضًا، وفشل المحادثات يعني تغييرًا في العقيدة الأمنية لإيران والاتجاه نحو خيارات غير مرغوبة، وهو ما يعني دخول المنطقة في سباق نووي. ولذلك فإن من مصلحة أمن المنطقة تفعيل الخيارات الدبلوماسية بشأن الملف النووي الإيراني.
قد تشكِّل ملفات سوريا والعراق ولبنان ملفات للتعاون بين البلدين بغية تحقيق الاستقرار وإخراج هذه البلدان من أزماتها السياسية والاقتصادية ولكن ذلك لن يكون سهلًا وقد لا يتجاوز تسويات في الحدود الدنيا، تخفض حدة التوتر بين البلدين بشأن هذه الملفات دون أن تسهم بحلول ملموسة ومستمرة لها.
هناك أصوات متفائلة تقارب هذه القضية بوعود بالرخاء والمشاريع الاقتصادية الضخمة، وهو أمر ليس بمستحيل، ولكن المحددات السابقة والحديث عن السعي إلى “التوازن الإستراتيجي” تجعلنا متحفظين في رسم حدود ما يمكن أن يصل إليه التقارب السعودي-الإيراني الذي من الممكن أن يترجم إلى علاقات اقتصادية قوية، وعلاقات ثقافية وتبادل تجاري واسع وانفتاح غير مسبوق بين البلدين، وهذا سيكون له تأثير على مجمل المنطقة ولكنه قد لا يتجاوز الحدود الدنيا، بمعنى “السلام البارد” وسفارات مفتوحة في كلتا العاصمتين، أو أن يكون في حدود متوسطة لا تصل معها العلاقة إلى مستويات الصراع لكنها تحافظ على حدٍّ من التنافس.
إن الحاجة ستدفع البلدين إلى إدارة حالة التنافس بينهما وتخفيض مستوى النزاع. وسيبقى التنافس قائمًا لكن مستوى الصراع بين البلدين سينخفض؛ فقد اختبرت طهران والرياض في مرحلة من المراحل، وصول الصراع إلى مستويات خطرة كان لها تأثيرات على مجمل دول المنطقة.
مركز الجزيرة للدراسات