يحاول المسلسل التركي «تشكيلات»، الذي تم نقله للعربية باسم «المنظمة»، أن يشرح التحديات، التي تواجه العاملين في المجال الاستخباراتي عبر تسليط الدور بشكل درامي على التحديات الأمنية، التي تواجهها تركيا، والتي تتنوع ما بين إرهاب الإسلام الراديكالي، المتمثل بتنظيم «الدولة الإسلامية» وإرهاب الانفصاليين اليساريين الأكراد، مروراً بالمشكلات، التي يولدها التنافس الإقليمي والرغبة في تحجيم تركيا وإضعافها، عبر تشويه صورتها وخلق تعقيدات سياسية وأمنية في داخلها وهو الهدف، الذي تشترك فيه دول غربية مع دول أخرى في المحيط.
النقطة الأقوى في السرد الدرامي، التي جعلت المسلسل يحظى بمشاهدة عالية منذ عرضه الأول في عام 2021، كانت تركيزه على الجانب الإنساني لضباط المخابرات، فبالإضافة إلى كونهم ظهروا بمظهر المتفرغين لخدمة بلادهم، ولو على حساب عائلاتهم ومشكلاتهم الحياتية الشخصية، فإن التركيز تم من خلال الحبكة على تنوع خلفياتهم، بين القوة الجسدية، والعبقرية في علوم الحاسوب والتحليل.
حاول المسلسل كذلك شرح العلاقة، التي يمكن أن تجمع المخابرات مع جهات أخرى في الدولة كوزارة الخارجية والدفاع، خاصة مركز التحكم بطائرات «بيرقدار» المسيرة، التي باتت تلعب دوراً مهماً وحاسماً في الصراعات العسكرية، وفي تحييد الإرهابيين.
اللجوء إلى بث رسائل عبر الأعمال الدرامية أمر معتاد، لكن الفارق يكون في القدرة على الجمع بين تمرير الرسالة والإمتاع، حتى لا يشعر المتلقي بأنه إنما يستمع إلى محاضرة، أو يشاهد عملاً هو أقرب للوثائقي من كونه مسلسلاً ترفيهياً. النجاح في ذلك يحتاج تمرساً كبيراً وخبرة، كما حدث بوضوح في حالة «تشكيلات». حاول المنتج أن يجيب من خلال السياق الدرامي على أسئلة راهنة حول التدخل العسكري التركي في سوريا والعراق وحول أسباب وجود احتقان وتنازع مع اليونان وغير ذلك من القضايا الراهنة.
على الرغم من أن المسلسل لم يدعِ أنه يستند إلى وقائع حقيقية، أو أنه يرغب في توثيق عمليات حدثت بالفعل، إلا أن الأكيد هو أنه لم يبتعد كثيراً عن الواقع، فلم يكن ظهور دولة المجر، على سبيل المثال، كحليف وصديق لتركيا عشوائياً، فالمجر، التي تتعاطى بالفعل مع تركيا بشكل مختلف عن جاراتها الأوروبيات تعتبر عند الكثيرين جزءاً من «العالم التركي». في ما يتعدى الحبكة الفنية، يبقى هناك تشابه آخر حول طبيعة دور الاستخبارات، وكيف أن دور رئيسها بات يتجاوز المنظور التقليدي، الذي تسند فيه هذه المهمة إلى شخصية أمنية بحتة، أو عسكرية يكون همها إبقاء الأمور تحت السيطرة، بما يحمله هذا التعبير من محمولات تشير إلى استخدام الكثير من العنف والقليل من إعمال الفكر والتدبير.
مهمة جهاز الاستخبارات التركي وضع المعلومات عقب دراستها وتحليلها أمام صانع القرار، وبذلك يكون أقرب لعمل معامل التفكير من كونه مؤسسة تحتاج لخلفية أمنية أو عسكرية
يذكر تعيين إبراهيم قالن (مولود في عام 1971 ) رئيساً للمخابرات التركية ضمن الطاقم التنفيذي الجديد بكل ذلك، فقد جاء خلفاً لهاكان فيدان ذي الخلفية العسكرية، الذي قاد العمل الاستخباراتي محققا نجاحات مختلفة منذ عام 2010. كانت على رأس هذه الأعمال جهوده في مكافحة التجسس والنجاح في تفكيك عدد من شبكات العملاء من دول مختلفة. كان فيدان، كردي الأصل، مفاوضاً للانفصاليين الأكراد (بي كاكا)، كما كان معروفاً بدوره الأمني القوي وبقربه من الرئيس أردوغان، الذي كان يثق بتقديراته بشكل كبير، ما جعل منه، مع حرصه على البعد من الأضواء، أحد أهم الشخصيات السياسية التركية. كان تأثير فيدان كبيراً، لدرجة أن الصهيوني إيهود باراك أطلق تصريحا عبّر فيه عن قلقه من أدواره المتعاظمة، التي قد تكون معادية للمصالح الإسرائيلية. لم يكن فيدان، وزير الخارجية في التشكيل الوزاري الحالي، غريباً عن العمل الدبلوماسي، فبخلاف مرافقته للرئيس أردوغان، أو لوزير الخارجية في رحلات خارجية لعواصم مهمة، شارك في حوارات وتفاوض معلن أو مخفي مع مجموعة كبيرة من الأطراف المهمة لتركيا، كالدول الغربية أو الكيان الإسرائيلي أو حتى سوريا.
في مقابل ذلك فإن قالن المستشار السابق للعلاقات الخارجية والمتحدث الدبلوماسي، ليس غريباً عن المسائل الأمنية، فكثيرا ما يصعب الفصل بين العمل الخارجي في شقيه الدبلوماسي والأمني. في الحالة التركية، ذات الخصوصية بحكم الموقع والتحديات، يبدو واضحاً كيف تحدد التهديدات الأمنية مسار العلاقات مع الدول المختلفة. تركيا ليست مثالا غريبا في هذا، بل على العكس، نجدها تشترك في ذلك مع دول كثيرة قررت إحداث تشبيك بين ما كان كثير من الناس يعتبرونه عوالم منفصلة. لعل المثال الأوضح لهذا التشبيك هو مؤسسة الاتحاد الأوروبي، التي قررت، منذ إنشاء «المفوضية الأوروبية» وإقرار «معاهدة أمستدردام» في عام 1997، تكليف مسؤول واحد بمهمة ممثل الاتحاد للأمن والعلاقات الخارجية، وهو المنصب، الذي يشغله حاليا وزير الخارجية الإسباني السابق جوزيف بوريل. لم يكن قدوم قالن من عالم الدبلوماسية، الذي شغل فيه منصب المستشار والناطق الرسمي، هو الشيء الوحيد، الذي أثار اهتمام المتابعين، ولكنهم تساءلوا أيضاً عن إمكانية نجاح رجل معروف باهتماماته الأدبية وحبه للموسيقى والفلسفة والتاريخ في نطاق عالم الاستخبارات. صحيح أنه ليس لقالن خبرة سابقة في العمل الأمني المباشر، فالرجل المتخرج من قسم التاريخ في جامعة إسطنبول، والذي تخبر سيرته الذاتية عن حصوله على دراسات عليا في الفكر الإسلامي والفلسفة من ماليزيا، وعلى الدكتوراه من جامعة جورج واشنطن العريقة، يبدو بخلفية غير تقليدية لشغل منصب المسؤول الأول عن العمل الاستخباراتي. الحقيقة أن قالن لم يكن بعيدا تماما عن مسائل الأمن القومي، وهو الذي شارك بشكل فاعل في محادثات رفيعة وصياغة اتفاقات مهمة مع دول مثل روسيا والولايات المتحدة وفنلندا والسويد، وهي دول يصعب فصل التعامل الدبلوماسي معها عن التعاطي الأمني. إن الحديث عن مدى مناسبة قالن لشغل منصبه الجديد يعتمد على فهم المتحدثين لطبيعة دور المخابرات. هناك كثيرون يقصرون هذا الدور على التجسس الداخلي ومتابعة المعارضين السياسيين والمشاركة في قمعهم، وربما يعود ذلك لما يحملونه في أذهانهم من صورة وتجارب حول رؤساء المخابرات ولغيرهم من الضباط المسؤولين عن الأمن. في كثير من بلدان الجنوب تكون هذه الصورة صحيحة، لأن الأجهزة الأمنية توجه بالفعل هناك كثيرا من وقتها وميزانياتها وجهودها البشرية نحو الخطر الداخلي، الذي يعني بشكل حصري، مهددات النظام الحاكم. ذلك يكون، في أوقات كثيرة على حساب الاهتمام بالأخطار المحدقة بالأمن القومي، من قبيل متابعة تحركات الدول، التي تبحث عن فرص للتدخل، أو لاستغلال الموارد، أو تلك التي تسعى لتجنيد عملاء رفيعين في الجهاز البيروقراطي من أجل خدمة مصالحها. بالنسبة للدولة التركية فإن مهمة جهاز الاستخبارات مختلفة، فهو الجهاز، الذي يجب أن يضع أمام صانع القرار المعلومات المناسبة عقب دراستها وتحليلها. يكون عمل رجل الاستخبارات بهذا أقرب لعمل معامل التفكير من كونه مؤسسة تحتاج لخلفية أمنية أو عسكرية. بهذا يكون قالن، المفكر والكاتب والمحاضر الجامعي، الذي كتب كثيرا عن العلاقة التركية مع الغرب مناسباً جدا لهذا المنصب. بالنسبة لقالن، فالمنصب الجديد هو مجرد موقع مختلف لخدمة البلاد، وكعادة رجال الدولة لم يتردد في تعبيره عن الجاهزية لخدمة بلاده من أي موقع، أو كما عبر هو في تغريدة: «سأواصل العمل من أجل تركيا قوية وآمنة ومستقلة».
القدس العربي