شاهد من يتابعون الأوضاع الفرنسية مقطع فيديو قصيرا يصور قيام عنصر في الشرطة بقتل مراهق من أصل جزائري ـ مغربي من المسافة صفر وخلال عملية «تدقيق مروري» لدورية من شرطيين على دراجتين ناريتين، لا أكثر. سقطت الادعاءات الأولى للسلطات الفرنسية حول أن الشاب حاول دهس العنصر مما اضطره لقتله «دفاعا عن النفس» بعد أن تم تداول الفيديو المذكور وهو يظهر بوضوح أن الفتى القتيل ناهل مرزوقي، ابن الـ17 عاما، لم يكن يشكل أي خطر على الشرطي، وأن عنصر الأمن هدّده بالقتل ونفذ تهديده بطلقة مباشرة في الصدر.
عملية الاغتيال الواضحة تلك، التي قام بها شخص وظيفته المكلف بها هي حماية أرواح الناس، وضمان أمن الأفراد وللمجتمع، كشفت بوضوح العنصرية العميقة الممأسسة التي تختزنها السلطات الفرنسية، على أشكالها، والأمنية منها على وجه الخصوص، وهو الأمر الذي تعاني منه الأقليات القومية والدينية عموما، والمواطنون من أصول شمال أفريقية مسلمة بشكل خاص، وينعكس على مجالات الحياة كافة، بحيث نرى تعبيراته في السياسات الداخلية والخارجية، وفي القوانين التي يقرها البرلمان، وفي الأحكام التي يصدرها القضاء، وتطارد هذه العنصرية حتى الرياضيين وأشكال اللباس وحتى المأكل!
فجرت هذه الواقعة الفظيعة مشاعر القهر بين العرب والسود المتراكمة متحولة إلى احتجاجات كبيرة ومواجهات مع الشرطة في عدة مدن في منطقة باريس لم تتوقف حتى اليوم، كما شملت أعمال شغب وتخريب مقرات إدارات عامة.
واجهت السلطات الفرنسية المحتجين بالاعتقالات (875 شخصا ليل الخميس ـ الجمعة فحسب) وكان ملاحظا أن أعمار أغلب الموقوفين تتراوح بين 14 و18 (أي بعمر الشاب المغدور) كما كان مثيرا انتقال الاحتجاجات من فرنسا إلى بلجيكا، حيث أوقفت الشرطة مساء الخميس 63 شخصا بينهم 47 قاصرا.
أظهر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ما اعتبره البعض استخفافا بالجريمة التي حصلت، وبالأحداث التي تبعتها، فذهب لحضور حفل للمغني البريطاني ألتون جون، وأخذ صورا تذكارية معه مبتسما، وهو ما جعل بعض الصحف البريطانية تعلّق بأن ماكرون يحتفل مع ألتون جون وفرنسا تحترق.
طلبت وزارة الداخلية، التي يقودها الوزير الشهير بتعليقاته المثيرة للجدل حول ثقافة المسلمين، جيرالد دارمانان، خلال اجتماع وزاري الخميس إلى «تغيير العقيدة» لتكون «أكثر هجومية» وتمت تعبئة 40 ألفا من قوات الشرطة والدرك، فيما أعلنت رئيسة الوزراء «درس كل الخيارات» بما فيها إعلان حالة الطوارئ.
تتكرر حادثة القتل بسبب عدم الانصياع لأوامر الوقوف بشكل أو آخر كل عام (13 شخصا قتلوا لهذا السبب العام الماضي) وتمثل هذه الحادثة جزءا من مشهد أعم وأكبر لخلل سياسي فرنسي كبير يعبّر عن نفسه بالتعاطي مع العرب والسود بعقلية المستعمر، التي يتم تدويرها تحت شعارات «الدفاع عن العلمانية» و«حرية الرأي» لكنها في كثير من الأحيان أشكال من العنصرية الممأسسة والإسلاموفوبيا وغطرسة الأوروبي المتفوق، التي يواجهها الفرنسيون أحيانا بشكل سلمي (كما حصل في المسيرة البيضاء قبل أيام) أو بأنواع الاحتجاج العنيف الذي تقابله السلطات بعنف أكبر.
أثار صدور مرسوم رئاسي جزائري الجدل مؤخرا بإعادته ترديد مقطع محذوف من النشيد الوطني يتضمن جملة «يا فرنسا إن ذا يوم الحساب» والحقيقة أن على فرنسا الرسمية نفسها أن تعيد الحساب بنفسها، وأن تستجيب للفكرة التي التقطها مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان حول الواقعة الأخيرة، حين اعتبرت المتحدثة باسمه ما حصل «فرصة للبلاد لتعالج بجدية المشكلات العميقة المتعلقة بالعنصرية والتمييز العنصري في إنفاذ القانون».
القدس العربي