مع موسم كل صيف يعيد العراقيون اكتشاف أزمتهم المستمرة مع المياه، في وقت تكتفي فيه الحكومات العراقية المتعاقبة بالمتابعة من دون أن تتخذ إجراءات فعالة لتغيير هذا الوضع الذي يجعل الأمن المائي العراقي على المحك.
ولم يكن لدى العراق ما يكفي من المياه لتلبية جميع احتياجاته الاقتصادية منذ سنوات. وغالبا ما يضطر في الصيف لقطع مخصصات المياه للزراعة التي تحتاج ما يقرب من 80 في المئة من إمدادات البلاد، حيث تكون مستويات المياه في الأنهار منخفضة حينها. ويبقى الأرز المعروف بحاجته إلى المياه المتضرر المعتاد.
وهناك أسباب متعددة لهذا الوضع بعضها داخلي من خلال غياب الرؤية في كيفية التحكم بالمياه، وبعضها جغرافي يتعلق بانطلاق الأودية من دول الجوار.
ويتلقى العراق أكثر من 90 في المئة من مياهه من خارج حدوده. وتأتي ثلاثة أرباع المياه التي تصل أراضيه عبر الأنهار التي تنبع من تركيا مباشرة أو تلك القادمة من تركيا عبر إيران، وتصل إلى حوالي 11 في المئة من إيران و5 في المئة من سوريا. وهذا الوضع يقوض اعتماد العراق على مصادر خارجية لأمنه المائي.
وتستهلك تركيا كميات من مياه هذه الأنهار العابرة للحدود أكثر من إيران. وتأثرت بذلك التدفقات عبر نهر الفرات إلى العراق. لكن تأثير الاستخدام الإيراني كان ضارا للغاية على بعض أجزاء العراق، وخاصة شرق كردستان ومحافظتي ديالى والبصرة.
ولم يقتصر التراجع على حجم المياه المتدفقة إلى العراق من تركيا وإيران، بل تضررت جودة المياه أيضا. ويعدّ هذا مهمّا لعدم القدرة على استخدام المياه عند بلوغها درجة ما من التلوث. وكان عدم الكفاءة في استخدام المياه في العراق من أسباب أزمة المياه المتزايدة الأخرى.
◙ تراجع الأمن المائي في العراق سيصبح أكثر خطورة في المستقبل
◙ تراجع الأمن المائي في العراق سيصبح أكثر خطورة في المستقبل
ويبدو أن تراجع الأمن المائي في العراق سيصبح أكثر خطورة في المستقبل. ويمكن ذكر ستة أسباب رئيسية لذلك.
أول هذه الأسباب هو أن استخدام تركيا للمياه من نهري دجلة والفرات سيزداد مع استمرار مشروع جنوب شرق الأناضول. وستشهد المنطقة القفزة التالية في الاستخدام التركي للمياه العابرة للحدود عند انطلاق تشغيل مخططات الري المرتبطة بسد الجزرة على نهر دجلة خلال السنوات القليلة المقبلة.
السبب الثاني يكمن في أن الاستخدام الإيراني سيزداد أيضا، حيث لم تستنفد البلاد بعد الإمكانات الكاملة لاستخدام المياه التي لا تزال تتدفق إلى العراق.
ثالثا، ستعني إعادة الإعمار في سوريا، عند حدوثها، استخدام المزيد من المياه من نهر الفرات وبدرجة أقل من نهر دجلة.
رابعا، سيؤدي الري المتزايد في بلدان المنبع (تركيا وسوريا وإيران) إلى تقويض جودة المياه أكثر.
خامسا، ويخص وحش التغير المناخي الذي يلوح في الأفق. وتشير التوقعات إلى أن تدفق الأنهار التي تدخل العراق قد تشهد انخفاضا بنسبة 20 – 30 في المئة بحلول 2050. كما أن درجات الحرارة المرتفعة تعني خسائر أكبر في المياه التي ستتبخر بنسق أعلى، بينما ستطلب المحاصيل المزيد من الري مع شح الأمطار.
سادسا، سيؤدي النمو السكاني وإعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية في العراق إلى زيادة في الطلب. وستكون المنافسة أشد على كميات المياه الأقل.
فماذا يمكن أن يفعل العراق لمواجهة كل هذا؟
يرى غريغ شابلاند، الباحث في السياسة والأمن والموارد في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أن العراق لا يمكنه فعل الكثير لإجبار جيرانه في المنبع بالسماح بتدفق المزيد من المياه إلى أراضيه على أساس دائم. وأعلنت تركيا من جهتها عن استعدادها للتفاوض مع العراق ولكن بشروطها الخاصة. وتمكّنت بغداد من إقناع أنقرة بتزويدها بالمزيد من المياه في أوقات النقص الحاد، لكن كان عليها الطلب بأدب. ويبقى مثل هذا التدبير مؤقتا ويترك السيطرة الكاملة على تدفق نهري دجلة والفرات إلى العراق في يد تركيا.
ورفضت إيران حتى وقت قريب التعامل مع العراق بأيّ طريقة جادة بشأن قضية المياه العابرة للحدود. ولا يستطيع المرء بعد أن يجزم ما إذا كان التغيير الواضح في المواقف الذي أظهره وزير الطاقة الإيراني علي أكبر محرابيان خلال مؤتمر المياه في بغداد تقدّما إيجابيا أم مجرد كلمات جوفاء.
وقد يكون العراق قادرا على تقديم حوافز لتركيا وإيران لنيل صفقات المياه. ويعدّ قمع جماعات المعارضة الكردية في العراق من أكثر ما تقدره أنقرة وطهران. لكن هذا يبقى في مجال أربيل وليس بغداد، وسيجد القادة الأكراد العراقيون أنه من المستحيل سياسيا العمل ضد إخوانهم الأكراد. وبدلا من ذلك، يمكن لبغداد أن تعرض على تركيا النفط والغاز بسعر مخفض. ومن المحتمل أن تقبل أنقرة هذا ليكون إجراء مؤقتا حتى يتعافى الاقتصاد التركي من أزماته الحالية.
ويعتقد شابلاند في تقرير لموقع عرب دايجيست، أنه ليس للعراق أيّ خيار عسكري، فهو أضعف من تركيا وإيران في هذا المجال. كما اخترقت إيران النظام السياسي العراقي لدرجة أنه لا يمكن لأيّ حكومة عراقية اتخاذ إجراءات ضد طهران بخصوص المياه أو أيّ مسألة أخرى.
وقد تبدو المسارات القانونية جذابة. لكن تركيا وإيران لم تنضمّا إلى اتفاقيات الأمم المتحدة ذات الصلة. ولا توجد اتفاقيات تغطي الحوض بأكمله أو حتى ثلاث دول من الدول المتشاطئة الأربع. ولم يكن التهديد الذي وجهه وزير المياه العراقي آنذاك بأخذ إيران إلى محكمة العدل الدولية بشأن المياه في 2021 مدعوما من حكومة بغداد واتضح أنه مجرد كلام.
العراق لا يمكنه فعل الكثير لإجبار جيرانه في المنبع بالسماح بتدفق المزيد من المياه إلى أراضيه على أساس دائم
ويصل الوضع بسرعة إلى نقطة اللاعودة. ويعني هذا أن تركيا وإيران ستقيمان قريبا جميع السدود وشبكات الري التي تريانها منطقية من الناحية الاقتصادية. ولن يكون العراق حينها قادرا على اتخاذ إجراءات تتجاوز محاولة إقناع تركيا وإيران بتشغيل سدودهما بطرق تضمن مستوى معينا من التدفق في الأنهار المشتركة. ولم تظهر حتى الآن أيّ علامة على استعداد البلدين لتقديم مثل هذه الضمانات. ومن المحتمل أن تعطي أنقرة وطهران الأولوية لاحتياجاتهما الخاصة على حساب احتياجات العراق خلال سنوات التدفق المنخفض.
ونظرا لاحتمال انخفاض التدفقات من دول المنبع في المستقبل، يبقى تحسين كفاءة الزراعة المروية من أكثر الأشياء فعالية التي يمكن للعراق الحرص عليها لتعزيز أمنه المائي. ويوجد حتما مجال واسع للتحسين، حيث لم تتقدم تقنيات الري العراقية كثيرا منذ العصر السومري. وتوجد مع ذلك عقبات هائلة في طريق هذا النهج، وخاصة الافتقار إلى القدرة بين المسؤولين في كل من الحكومة المركزية وحكومات المقاطعات، والخلل الحكومي وعدم الاتساق وتجذّر الفساد المستشري.
وسيكون العراق قادرا على إنقاذ نسبة من قطاعه الزراعي إذا نجح في مواجهة هذه التحديات. وإذا لم ينجح فستواجه آفاقه الزراعية ضعفا أكبر بعد أن كانت أراضيه يوما ما من المناطق الخصبة. ويمكن أن يخلق انعدام الأمن المائي تراجعا للأمن الغذائي.
صحيفة العرب