على الرغم من بدء انسحاب إسرائيل من مخيم جنين مساء 4 يوليو الجاري (2023)، في اليوم الثاني من الهجوم الذي بدأ في 3 من الشهر نفسه، فإن خروج القوات والآليات الإسرائيلية من المخيم لا يسدل كلمة النهاية على المشهد. وعلى العكس من ذلك، يطرح مشهد الانسحاب الإسرائيلي، وحديث الانتصار لدى الأطراف المعنية، العديد من التساؤلات حول التطورات القادمة وانعكاساتها على تفاصيل القضية الفلسطينية وفرص التسوية السلمية.
تساؤلات مؤهلة بدورها لطرح بدايات جديدة على صعيد السلطة الفلسطينية، والوضع في الضفة الغربية، ودور الفصائل الفلسطينية المقاومة في الضفة الغربية بصفة عامة وفي مخيم جنين بصفة خاصة. كما تطرح العملية العسكرية الإسرائيلية ضد جنين، والتي اعتبرت العملية الأكبر منذ اجتياح الضفة الغربية في عملية السور الواقي خلال الانتفاضة الثانية عام 2002، تساؤلات أخرى على المستوى الإسرائيلي الذي ربط العملية بتحقيق الأمن للشعب الإسرائيلي، وهى تساؤلات تدور حول العلاقة بين استهداف المخيم وإشكاليات الداخل الإسرائيلي، وتقييم العملية العسكرية، والحكومة ودورها، عندما تواجه إسرائيل عملية جديدة في الداخل، وهو الأمر الذي لم يتأخر وتمت مواجهته في تل أبيب قبل الإعلان عن الانسحاب.
وبهذا، في حين اتسق إعلان الانسحاب من المخيم مع المخطط المعلن من قبل إسرائيل، والذي استهدف أن تكون العملية العسكرية في جنين، أو “بيت وحديقة” كما أطلق عليها بشكل متردد إسرائيلياً، سريعة وفي حدود المطلوب، فإنه جاء متناقضاً مع الأجواء التي صاحبت عملية الدهس والطعن التي وقعت في تل أبيب، والتي تبنتها حركة المقاومة الإسلامية- حماس، وتهديدات إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي، للحركة، ودعوته الجميع إلى حمل السلاح، بما عبر عن توجه محتمل لتصعيد تناقض بدوره مع الإعلان عن بدء الانسحاب.
من جانب آخر، ظهر التناقض واضحاً في حسابات الأطراف المختلفة، ومعها التصورات المستقبلية، في ظل الحديث المتكرر عن تحقيق الأهداف من العملية العسكرية إسرائيلياً، والانتصار على صعيد إسرائيل والفصائل الفلسطينية. وفي هذا السياق، حرصت إسرائيل على تأكيد تحقق أهداف العملية العسكرية في جنين، وخاصة على صعيد استهداف ما تعتبره “البنية التحتية للإرهاب”، وكذلك استهداف عناصر المقاومة، والتصدي لفرصة تحول المخيم إلى بؤرة للعمليات التي تستهدفها.
من جانبها، اعتبرت المقاومة الفلسطينية، وخاصة “كتيبة جنين” التابعة لسرايا القدس- الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، أن الصمود في مواجهة الهجمات الإسرائيلية، وخاصة في ظل حجم القوات والآليات المشاركة في الهجوم، وتغييب قيمة عنصر المفاجأة، ومحدودية التوغل الإسرائيلي داخل المخيم، والدعم الشعبي للمقاومة، و”وحدة الساحات” التي تحققت عبر مشاركة العديد من الفصائل في التصدي للهجوم الإسرائيلي، تمثل عوامل انتصار للمقاومة وخيار المقاومة، في مواجهة إسرائيل وخيار التسوية السياسية.
وتطرح الهجمات الإسرائيلية على مخيم جنين، وتأكيد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن العملية العسكرية في جنين لم تنته، وأنها ليست عملية واحدة فقط، ولكنها سوف تستمر بوصفها “بداية لموجة عمليات بمناطق أخرى في الضفة الغربية”، العديد من التساؤلات حول التطورات المباشرة وغير المباشرة في جبهة الضفة الغربية، التي تؤكد إسرائيل أنها أصبحت خارج سيطرتها وخارج سيطرة السلطة الفلسطينية في ظل تزايد المقاومة الفلسطينية. كما تطرح المزيد من التساؤلات حول التطورات على مستوى السلطة، والتسوية السياسية ومستقبلها، والانعكاسات المحتملة على الداخل الإسرائيلي. وبعيداً عن كل ما سبق من ملفات، تطرح اللحظة على الساحة الفلسطينية تساؤلات مباشرة حول الدولة وقواعد الاشتباك، بوصفها قضايا متداخلة تنعكس التطورات فيها على مجمل التطورات الفلسطينية، والعلاقات الفلسطينية- الإسرائيلية، ومستقبل التهدئة والتصعيد ليس في جنين والضفة الغربية فقط، ولكن في غزة والإقليم.
جنين والاستيطان والدولة الفلسطينية
ساعدت العملية العسكرية في جنين، وتهجير ٤ آلاف فلسطيني تقريباً من سكان المخيم من قبل الجيش الإسرائيلي خلالها، في إعادة الحديث عن خيار التسوية السياسية ومستقبل الدولة الفلسطينية إلى الواجهة، ومعه الحديث عن دور السلطة، وغيرها من القضايا المهمة التي تفرض نفسها على اللحظة والمستقبل.
وأعادت الهجمات الإسرائيلية على جنين، وما ارتبط بها من سياسات استهداف للبنية التحتية مع التهجير، الحديث فلسطينياً عن أن ما يحدث في المخيم هو جزء من سياسة إسرائيلية أكبر تهدف إلى تفريغ مناطق في الضفة من الوجود الفلسطيني بشكل يصب بدوره في القضاء على فرص وجود دولة فلسطينية مستقلة وقابلة للحياة وعاصمتها القدس الشرقية. وساهم في تلك الرؤية السياق السابق على الهجوم الإسرائيلي على مخيم جنين، وخاصة الإعلان عن مخططات استيطانية جديدة، وتعديلات تختصر الخطوات المطلوبة فيما يتعلق بالاستيطان، وتصريحات نتنياهو عن الدولة الفلسطينية.
وفيما يتعلق بالمخططات الاستيطانية، وافقت إسرائيل في 26 يونيو الفائت (2023) على بناء أكثر من 5 آلاف وحدة استيطانية جديدة في الضفة الغربية، وهي المخططات التي أُعلن عنها بعد أيام من تسهيل الموافقة على الاستيطان من خلال قرار مجلس الوزراء الإسرائيلي الصادر في 18 يونيو الفائت، والذي منح وزير المالية اليميني المتطرف بتسلئيل سموتريتش صلاحية التخطيط للبناء في مستوطنات الضفة الغربية بما يساهم في تسهيل وتسريع عملية توسيع المستوطنات، وإضفاء الشرعية على بعض البؤر الاستيطانية بأثر رجعي.
من جانب آخر، ساهم نشر الإعلام الإسرائيلي لما جاء في حديث نتنياهو خلال جلسة مغلقة للجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست في 26 يونيو الفائت عن الدولة الفلسطينية في تأزيم الوضع الفلسطيني، والحديث عن وجود مخططات أبعد في السياسات الإسرائيلية القائمة تتجاوز الحديث عن تحقيق الأمن إلى تغيير الأوضاع على الأرض بما يمس بشكل كبير فرص التوصل إلى دولة فلسطينية مستقلة. وفي حديثه، أكد نتنياهو أنه يجب العمل على “اجتثاث فكرة إقامة الدولة الفلسطينية، وقطع الطريق على تطلعات الفلسطينيين لإقامة دولة مستقلة لهم”. كما يساهم ما نشر من حديث نتنياهو عن أهمية بقاء السلطة من أجل مصلحة إسرائيل، وإمكانية دعم السلطة اقتصادياً من أجل تحقيق تلك المصالح، في زيادة أسباب النقد الفلسطيني للسلطة، والإضرار بصورتها، وعلاقتها بغيرها من الفصائل. وبشكل عام، يساهم حديث نتنياهو في إضعاف قيمة وأهمية الحديث عن المسار السياسي أو حل الدولتين في ظل عدم وجود نية حقيقية لدى إسرائيل، وفقاً لتلك التصريحات، في التوصل إلى النهاية المفترضة لمسار أوسلو ممثلة في الدولة الفلسطينية المستقلة والقابلة للحياة وعاصمتها القدس الشرقية.
وبهذا، ساهمت التطورات المباشرة، والسياسات المتبعة من حكومة نتنياهو، وما قبلها، على صعيد الاستيطان وعمليات الاغتيال والاعتقال، واستهداف المنازل الفلسطينية في القدس الشرقية، وعمليات الاقتحام والتهويد في المسجد الأقصى، في ربط الهجوم الإسرائيلي على مخيم جنين، والحديث عن وجود مخططات لتنفيذ عمليات مماثلة في الضفة الغربية باسم “محاربة الإرهاب”، في تقديم كل ما يحدث بوصفه جزء من سياسة كبرى تتمثل في القضاء على فرص الدولة الفلسطينية، والسيطرة الإسرائيلية على الأراضي المخصصة لإقامة تلك الدولة في الضفة الغربية، وترسيخ فكرة المستوطنات القابلة للحياة والدولة الفلسطينية غير القابلة للتحقق.
قطاع غزة وقواعد الاشتباك القائمة
طرحت العديد من التساؤلات خلال الهجمات الإسرائيلية في المخيم عن تفعيل قواعد الاشتباك القائمة ودخول غزة على خط الأحداث. وتربط قواعد الاشتباك الأساسية، التي تم وضعها خلال الأحداث السابقة على حرب غزة الرابعة في مايو ٢٠٢١، بين الأوضاع في القدس والمسجد الأقصى من جانب وقطاع غزة من جانب آخر، وتؤكد أن التصعيد الإسرائيلي في القدس والمسجد الأقصى يرتب الرد من غزة.
وتطورت القاعدة الأساسية عبر الوقت، وشملت ضمن أسباب الرد من القطاع كلاً من استهداف مخيم جنين واغتيال الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية. ورغم عدم تفعيل التطورات التي حدثت على قواعد الاشتباك في الواقع، رغم التهديد بذلك في عدد من المرات بما فيها مرحلة تدهور الحالة الصحية للأسير هشام أبو هواش خلال إضرابه عن الطعام اعتراضاً على اعتقاله الإداري ما بين نهاية ديسمبر 2021 وبداية يناير 2022، فإن القاعدة نفسها ظلت قائمة وهو الأمر الذي يفهم في إطاره الإعلان عن إيصال إسرائيل رسائل إلى حماس والجهاد الإسلامي مع بدء هجومها على مخيم جنين لعدم تدخل القطاع في الأحداث.
ورغم القواعد القائمة التي تؤهل لدخول غزة على خط التطورات لما يحدث في مخيم جنين، ورغم استهداف المخيم والأضرار التي حدثت على المستوى الإنساني والمادي، وترحيل المواطنين، ظلت جبهة غزة هادئة خلال الأحداث، مع استمرار انعقاد غرفة العمليات المشتركة للفصائل، والتأكيد على الاستعداد للرد وفقاً للتطورات. ورغم التساؤلات التي طرحت عن غياب غزة، وحماس تحديداً، وعدم تفعيل قواعد الاشتباك، فإن ما حدث يتسق مع التطورات السابقة، حيث لا تتجه الفصائل لتفعيل قواعد الاشتباك مباشرة، وتحتفظ لنفسها بتفسير الأحداث وتوقيت تفعيل قواعد الاشتباك، مع ترك مساحة للتواصل غير المباشر مع إسرائيل، ومحاولة الضغط عليها من خلال التهديد بالرد من غزة بما يعني توسيع جبهات المواجهة وإرباك حسابات إسرائيلية الأمنية. وضمن العديد من الاعتبارات، تدرك الفصائل أن الإعلان عن تفعيل قواعد الاشتباك من شأنه استهداف القطاع من إسرائيل، والدخول في جولة جديدة من التصعيد سواء تم في صورة تصعيد مقيد أو حرب مفتوحة.
وفي حين ظلت غزة هادئة خلال العملية الإسرائيلية في المخيم، فقد دخل القطاع جزئياً على تطورات الأحداث وسط عملية الانسحاب الإسرائيلي من المخيم عبر مجموعة من الصواريخ التي أطلقت من القطاع تجاه مستوطنات غلاف غزة، وتفعيل القبة الحديدية، واستهداف بعض المواقع التابعة لحركة المقاومة الإسلامية- حماس من قبل الجيش الإسرائيلي.
وتطرح الصواريخ التي أطلقت من القطاع والرد الإسرائيلي المحدود المتبع في الحالات المماثلة، احتمال عدم التصعيد بما يتجاوز تلك الجولة السريعة، وإن توقفت التطورات الفعلية على تعامل ورد فعل الفصائل. وفي ظل عدم تحمل الفصائل الفلسطينية، بما فيها حماس وحركة الجهاد الإسلامي، لعملية إطلاق الصواريخ، يظل من المحتمل أن تكون الصواريخ التي أطلقت من القطاع من أطراف أخرى بعيدة عن تلك الفصائل، وخارج الرغبة في دخول غزة في مواجهة جديدة، وهو ما حدث من قبل. بدورها، تعد عمليات الاستهداف الإسرائيلية ضد ما تعبر عنه بأنه أهداف عسكرية تابعة لحركة حماس، بوصفها الطرف المسئول عن القطاع، ردود فعل كافية من جانب إسرائيل ما لم يتم إطلاق المزيد من الصواريخ وإعلان فصائل القطاع بشكل واضح عن عملية استهداف جديدة من القطاع.
بالمقابل، في حين تم انتقاد حماس لعدم الرد من غزة، طرح وجود حماس في ساحة الضفة الغربية وتل أبيب تساؤلات أكبر حول وجود قواعد اشتباك جديدة، وحضور مختلف للحركة في مرحلة جنين وما بعدها.
حماس وقواعد الاشتباك الجديدة في الضفة
رغم أن عمليات الدهس والطعن لا تعد بذاتها، كما ترى بعض الأصوات، مبرراً كافياً للتصعيد الإسرائيلي الواسع المدى، إلا أن تراكم تلك العمليات، والتفاصيل الخاصة بها على صعيد المنفذ أو المكان المستهدف والخسائر الإسرائيلية البشرية، تساهم في تشكيل رد الفعل الإسرائيلي المؤهل بدوره لتبرير تنفيذ عمليات واسعة. ويتزايد احتمال تصعيد الرد الإسرائيلي في حالة الربط بين العمليات المنفردة وفصائل المقاومة الفلسطينية في غزة أو في الضفة الغربية، باعتبار أن مثل تلك العلاقة تساهم في إيجاد عدو واضح يمكن استهدافه إسرائيلياً من أجل استيعاب الضغوط الداخلية المتعلقة بالقدرة على توفير الأمن والحماية، على عكس المنفذ المنفرد الذي يتحرك بمفرده أو ضمن مجموعة صغيرة للغاية، ودون فصيل يمكن استهدافه أو إنجاز يمكن الحديث عنه بعد اغتياله أو اعتقاله.
في هذا السياق، تكتسب عملية تل أبيب، التي حدثت في 4 يوليو الجاري، وقبل الإعلان عن بدء الانسحاب من مخيم جنين، أهميتها من حدوثها في تل أبيب وخلال العملية العسكرية في جنين والتي حشد لها ما يصل إلى ألف جندي، وبمشاركة برية وجوية واسعة، وتصور ما يمكن أن تؤدي إليه عملية في داخل المخيم من ردود فعل فلسطينية لا تستبعد حدوث عمليات داخل إسرائيل، وما يرتبط بتلك الأوضاع من إجراءات أمنية مشددة لم تمنع من تنفيذ العملية.
بالإضافة إلى أن العملية تم تبنيها من قبل حماس التي أكدت في تصريحاتها أن العملية “رد أوّلي” على ما حدث في جنين، بشكل يؤكد على دخول الحركة على خط المواجهة المباشرة في الداخل الإسرائيلي، إلى جانب حضور كتائب عز الدين القسام- الجناح العسكري للحركة، في المواجهة على صعيد مخيم جنينمع سرايا القدس- الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي وغيرها من الفصائل، بشكل يطرح تساؤلات عن دور حماس في التطورات القادمة في الضفة الغربية. وأدت تلك الأوضاع إلى بروز أصوات في إسرائيل عن قاعدة اشتباك جديدة من قبل حماس تتمثل في “الرد على الدم بالدم”، أو الرد على التصعيد في جنين بالتصعيد في تل أبيب.
وفي هذا السياق، عبرت إسرائيل من خلال تأكيدها على استهداف أن تكون العملية سريعة عن إدراك واضح بمخاطر إطالة أمد الهجمات في جنين. وتجاوزت المخاطر من إطالة الهجمات ضد جنين التعرض لنقد دولي متزايد في حالة زيادة الخسائر البشرية الفلسطينية، واحتمال حدوث نقد إسرائيلي داخلي في حالة زيادة الخسائر ضمن الجنود، والمخاطرة بتوسيع جبهات المواجهة من جنين إلى غزة، مع فرص تصعيد تتجاوز الساحة الفلسطينية وتجعل إسرائيل في مواجهة حرب متعددة الجبهات تردد فيها الحديث عن حزب الله بصور مختلفة خلال الأحداث.
بدورها، تعبر عملية تل أبيب عن تطور مختلف عن قواعد الاشتباك القائمة منذ عام 2021، تطور يحمل في داخله فرص تأسيس قاعدة جديدة تتوقف على مساحة حركة حماس في القطاع في مرحلة ما بعد عملية جنين، وتتمثل تلك القاعدة في تجنب التصعيد من القطاع، وبالتالي تجنب فرص الحرب في القطاع، مع التصعيد من داخل الضفة وفي الداخل الإسرائيلي رداً على التصعيد الإسرائيلي في أي ساحة من ساحات المواجهة في الضفة الغربية أو القدس الشرقية والمسجد الأقصى، بما يمثل تغيراً مهماً في السياسات التي تتبعها حماس، ويعيد تشكيل المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية على أسس جديدة في مرحلة ما بعد عملية جنين.
ومن شأن قاعدة الاشتباك الجديدة، في حال تثبيتها، زيادة فرص المواجهات في الضفة الغربية التي ترى إسرائيل أنها خارج السيطرة بسبب تراجع دور السلطة الفلسطينية، ووجود جيل جديد من المقاومين يمثل نواة الجيل الذي كان عليها مواجهته في مخيم جنين، والذي يشكل جزءاً أساسياً من كتيبة جنين، ودور الفصائل الفلسطينية المقاومة في دعم وتسهيل العمليات ضدها. وبرؤيتها تلك، تتجاوز إسرائيل التعامل مع الأسباب الحقيقية لعدم الاستقرار القائم والممثلة في الاحتلال والقيود المفروضة على السلطة الفلسطينية، وغياب فرص الدولة الفلسطينية المستقلة وتآكلها في الوقت الذي يزداد فيه دور اليمين المتطرف والاستيطان.
تساهم العديد من التطورات في تعقيد المشهد الفلسطيني، وإن كانت الهجمات الإسرائيلية ضد مخيم جنين جزء من تفاصيل التصعيد الإسرائيلي، والسياسات الأكثر تطرفاً التي تتبعها الحكومة القائمة، وأحد التطورات المهمة في مشهد التصعيد القائم، إلا أنه لا ينفصل عن الحديث الإسرائيلي عن استهداف فكرة الدولة الفلسطينية، وتعامل نتنياهو مع اجتثاث الفكرة بوصفها الهدف المطلوب تحقيقه وليس الوصول إلى تلك الدولة وتسوية الصراع. تتشابك تلك الأبعاد بدورها مع العديد من المواقف التي يعبر عنها أعضاء الحكومة الإسرائيلية القائمة فيما يتعلق بتصورهم للدولة الفلسطينية، والحقوق الفلسطينية، وما يمكن أو لا يمكن التفاوض حوله بشكل يغلق الباب أمام المسار السياسي، ويفرض ضغوطاً على السلطة الفلسطينية والقوى الدولية والإقليمية المعنية بالتسوية السلمية.
أوضاع تفرض تحديات تتجاوز مشهد الانسحاب من جنين، وتتجاوز التعامل معه بوصفه مشهد النهاية، وتطرح تساؤلات مهمة حول ما بعد جنين، وما بعد سياسات الاستيطان، وزيادة دور سموتريتش وبن غفير، وما بعد تصريحات نتنياهو عن الدولة الفلسطينية، والدعم الأمريكي للسياسات الإسرائيلية في مخيم جنين، والقدرة على حماية الشعب والحق الفلسطيني وتجاوز الهدف الإسرائيلي الساعي إلى اجتثاث الدولة الفلسطينية.
في النهاية، تطرح الأوضاع على هامش الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة العديد من التساؤلات حول المستقبل، وهي تساؤلات لا تتوقف عند الخسائر البشرية والمادية وإعادة إعمار المخيم، رغم أهميتها وضرورة التعامل معها، ولكنها تمتد إلى خريطة الاستهداف الإسرائيلية، أو بنك الأهداف الإسرائيلية في الضفة الغربية ما بعد جنين، وردود الفعل الفلسطينية، وقواعد الاشتباك وتطورها، والسلطة ودورها، والمقاومة وحضورها، وربما الأكثر أهمية القدرة على استعادة زخم الدولة الفلسطينية من بين مخططات اليمين الإسرائيلي الحاكم والوقوف في مواجهة الاستيطان من أجل إنقاذ إمكانية تحقيق الفكرة التي يعمل نتنياهو على تجاوزها وردهما تحت ركام أنقاض مخيم جنين وغيره من المناطق، وتحت الوحدات الاستيطانية، والجهود التهويدية.