المناخ: العالم يتجه إلى الكارثة بعيون مغمضة

“شارون” عاصفة حرارية أدت إلى ارتفاع غير مسبوق في درجات الحرارة. لا نتحدث هنا عن العراق، أو منطقة الخليج العربي، أو شمال أفريقيا فقط، بل عن أوروبا، حيث تشهد إسبانيا وإيطاليا واليونان ارتفاعا كبيرا في درجات الحرارة مستمرا على مدى أيام، دمر المحاصيل الزراعية، وأجبر بعض الدول على إغلاق مناطق أثرية في وجه السياح الذين باتوا يبحثون عن أماكن يستظلون بها من أشعة الشمس.

هل هناك رسالة أكثر وضوحا من درجات الحرارة المسجلة خلال الأيام الأخيرة من الصين وصولا إلى الولايات المتحدة ومرورا بأوروبا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بأن البشرية قد فشلت في وقف تزايد انبعاثات غازات الدفيئة وتأثير الاحترار على المناخ؟

في الحقيقة لم تجن البشرية من الجهود المبذولة سوى ملف من الفشل يزداد سمكه يوما إثر يوم.

في عام 1992 وفي الفترة ما بين 3 – 14 يونيو جرى الاتفاق على أول معاهدة للحد من انبعاثات غازات الدفيئة، وقعت عليها 154 دولة في مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالبيئة والتنمية، المعروف بشكل غير رسمي باسم قمة الأرض، والذي عقد في ريو دي جانيرو بالبرازيل، وهدفت المعاهدة إلى تثبيت تركيز غازات الدفيئة في الغلاف الجوي عند مستوى يمنع التدخل الخطير للإنسان في نظام المناخ.

◙ هناك نقطة ضوء واحدة، هي سحب ثاني أكسيد الكربون من الهواء، واستخدام تقنيات تعديل الإشعاع الشمسي لتبريد الأرض. ولكن هذا لن يتم قبل دراسة مخاطر هذه التقنيات وفوائدها بشكل دقيق

بعد خمس سنوات، في عام 1997، جرى التوقيع على اتفاقية أخرى في مدينة كيوتو اليابانية من قبل ممثلين عن 192 دولة. تلزم الاتفاقية الدول الصناعية بتحمل مسؤوليتها التاريخية عن المستويات الحالية من غازات الدفيئة، وتطالبها بخفض انبعاثاتها.

أما آخر معاهدة جرى الاتفاق عليها للتخفيض من الانبعاثات فهي اتفاقية باريس التي وقعت عليها 196 دولة في مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالمناخ في 12 ديسمبر 2015. ودخلت الاتفاقية حيز التنفيذ في 4 نوفمبر 2016. هدفت المعاهدة إلى الحفاظ على ارتفاع درجة الحرارة العالمية لهذا القرن أقل من درجتين مئويتين، بُغية الحد من ارتفاع درجة الحرارة إلى 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية.

هل أثمرت هذه الاتفاقيات عن نتائج إيجابية؟ ندع الأرقام تتحدث وحدها:

اتفاقية كيوتو طالبت دول العالم بخفض انبعاثاتها بمقدار 5 في المئة عن مستويات عام 1990 بحلول عام 2012. نحن الآن في عام 2023، ماذا حدث خلال هذه الفترة؟

نسبة غازات الدفيئة في الجو تزايدت بشكل كبير منذ عام 1990 وحتى عام 2022. ووفقا للمنظمة العالمية للأرصاد الجوية، زاد تأثير الاحترار على المناخ بسبب غازات الاحتباس الحراري بنسبة 47 في المئة في هذه الفترة، مدفوعا بشكل أساسي بزيادة ثاني أكسيد الكربون، الذي بلغ تركيزه في الغلاف الجوي أكثر من 415 جزءا في المليون في عام 2019، وهي نسبة أعلى بـ45 في المئة من مستويات ما قبل الثورة الصناعية، ومن المتوقع أن تستمر هذه الاتجاهات في عام 2023 وما بعده.

المساهمة الوحيدة لهذه المؤتمرات والقمم التي يحرص المسؤولون على المشاركة فيها هي ذر الرماد في العيون، والمساهمة في زيادة تلوث الأرض، بتنقلاتهم على طائرات خاصة، وإقامتهم بالفنادق الفاخرة، هم وفرق العمل التي ترافقهم.

في الحقيقة السياسيون، سواء من الدول الصناعية الكبرى أو من الدول الفقيرة، من مصلحتهم لدواع انتخابية، التملص وعدم الالتزام بالمقترحات الصادرة عن تلك القمم.

لن نحتاج إلى خبراء لنحدد أسباب الاحتباس الحراري، فهي واضحة للجميع، والحلول أيضا واضحة، يمكن حصرها بما يلي:

− استخدام طاقة أقل في المنازل والمكاتب والمصانع، وترشيد استخدام الكهرباء والوقود الأحفوري.

− الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية والرياح والمياه.

− تقليص البصمة الغذائية، والحد من استهلاك اللحوم والألبان والمنتجات الحيوانية، والاستعاضة عنها بالخضروات والفواكه والحبوب.

− استخدام وسائل النقل العام أو الدراجات أو المشي قدر الإمكان.

− الحد من إهدار الموارد الطبيعية وغير المتجددة.

ستة إجراءات واضحة، الالتزام بتطبيقها يكاد يكون مستحيلا. لماذا؟

لنأخذ فقط التنقل؛ حركة الطيران وحدها تتسبب بانبعاث 918 مليون طن من الغازات سنويا، هذا في عام 2018، بالطبع اليوم الرقم أكبر بكثير. ولكن هذا ليس كل شيء، فالطيران لا يصدر فقط ثاني أكسيد الكربون، بل أيضا غازات وجزيئات أخرى مثل بخار الماء وأكسيد النيتروجين والهيدروكربونات والهالات والكبريت والجزيئات السوداء. هذه الملوثات تؤثر على المناخ بطرق مختلفة، مثل تشكيل سحب على ارتفاع عال وتغير خصائص سحب المستوى المتوسط وتغير التوزيع الجغرافي للأوزون.

السفر بالطيران يكون عادة لسببين، إما للسياحة والترفيه، أو التنقل لضرورات العمل. هذا إلى جانب، بالطبع، الطيران العسكري. وكلها أمور عامل الوقت فيها مهم، وهو ما يحول دون إيجاد بديل للنقل الجوي.

النقل البحري، لا يقل ضررا عن الطيران، فهو إلى جانب الضجيج الصادر عنه الذي يتسبب في اضطرابات نفسية وإجهاد وهروب وتغير في سلوك الحيوانات البحرية، ويؤثر على التوازن البيئي والتنوع البيولوجي في المحيطات، يتسبب أيضا بنسبة انبعاثات من ثاني أكسيد الكربون تصل إلى ضعفي حجم الانبعاثات الصادرة عن الطيران.

مازلنا في النقل. حركة السيارات تتسبب هي الأخرى بانبعاثات كبيرة. وفقا لتقرير لمنظمة الصحة العالمية، فإن السيارات تصدر حوالي 406 مليارات طن من غاز ثاني أكسيد الكربون سنويا، وهي مثل الطيران تصدر غازات وجزيئات دقيقة أخرى تؤثر على المناخ وصحة الإنسان بشكل سلبي، ويقدر عدد الذين يموتون سنويا بسبب تلوث الهواء الخارجي بــ3.7 مليون شخص.

يحق لنا بعد هذا كله أن نتساءل: هل كانت آلهة الأوليمب الإغريقية محقة في لعنتها التي حلت على برومثيوس لإهدائه الإنسان أول شعلة للنار، لم ينطفئ لهيبها إلى اليوم، ملحقا بالبشرية كوارث نجهل حتى الآن كيف ستكتب نهايتها؟

بسبب النار أيضا، تعلم الإنسان، الذي كان بالفطرة والغريزة نباتيا، طهو اللحوم، وانتقل إلى الصيد، ومن الصيد انتقل إلى تربية الحيوانات والطيور.

الأضرار المترتبة على وسائل النقل تبدو متواضعة إذا ما قورنت بتربية الحيوان. فهي تساهم بنسبة انبعاثات في غازات الدفيئة تعادل نسبة الانبعاثات عن الطيران والنقل البري معا. هذا إضافة إلى مخاطر أخرى أشد ضررا بالبيئة والإنسان نشير إلى بعضها:

غاز الميثان، وهو أحد أخطر غازات الدفيئة، أكثر قدرة على امتصاص الحرارة من ثاني أكسيد الكربون بـ28 مرة.

أكسيد النيترات، ينتج من استخدام الأسمدة في زراعة العلف، وتبلغ قدرته على امتصاص الحرارة 156 ضعف ثاني أكسيد الكربون.

تربية الحيوانات تستهلك كميات كبيرة من المياه والأراضي والعلف، وهي بذلك تساهم في تدهور التربة وفقدان التنوع البيولوجي ونشر الأمراض والأوبئة.

إضافة إلى ذلك تربية الحيوانات تتعارض مع العدالة الاجتماعية، وتزيد من فجوة الثروة والفقر، وتحرم دولا فقيرة من مصادر غذائها ومواردها.

من يعتقد أن في هذا الكلام مبالغة ليتوقف قليلا وينظر إلى ما يحدث في العالم؛ أزمات المياه بفعل الاحترار قضت على الثروة الحيوانية والنباتية في كثير من الدول، التي باتت تواجه اليوم أزمة غذائية حادة.

قارئ هذا الكلام غالبا يعيش في دولة من تلك الدول.

ولكن، لماذا يعتبر الوصول إلى حل أمرا صعبا إن لم يكن مستحيلا؟ أليست معرفة السبب، كما يقال، نصف العلاج؟

نعم، ولكن ليس في قضية الانبعاثات الغازية. على الأقل حتى هذه اللحظة.

◙ آخر معاهدة جرى الاتفاق عليها للتخفيض من الانبعاثات فهي اتفاقية باريس التي وقعت عليها 196 دولة في مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالمناخ في 12 ديسمبر 2015

إلى وقت قريب كان يقال إن بلدا مثل السودان قادر على إطعام سكان الدول العربية جميعًا. السودان اليوم عاجز عن إطعام أهله.

لا شيء يدعو إلى التفاؤل.

لقد وصلت البشرية في تطورها إلى طريق مسدود. فهي لن تستغني عن وسائط النقل، ولن ترفع وجبات اللحوم عن موائد الطعام.

هناك نقطة ضوء واحدة، هي سحب ثاني أكسيد الكربون من الهواء، واستخدام تقنيات تعديل الإشعاع الشمسي لتبريد الأرض. ولكن هذا لن يتم قبل دراسة مخاطر هذه التقنيات وفوائدها بشكل دقيق.

عيون العالم في الفترة من 6 إلى 17 نوفمبر 2023 مسلطة على دولة الإمارات العربية المتحدة التي تستضيف مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (كوب 28) تحت شعار “الابتكار من أجل كوكبنا” وهو يرمز إلى رؤية الإمارات للابتكار كقوة دافعة للتغيير والتحول نحو اقتصاد أخضر وصديق للبيئة.

هل سيأتي الحل من إكسبو دبي حيث سيعقد كوب 28، أم أن أوراقا أخرى ستضاف إلى الملف؟

نأمل أن ينجح كوب 28 بفرض حلول ملزمة على الجميع، لأن الفشل في ذلك سيعني: إما حربا، لا أحد يرغب فيها، تعيد للعالم توازنه، أو أن يحل الذكاء الاصطناعي محل البشر، وترث الروبوتات الأرض من بعدهم.

ما لم تتخذ خطوات ثورية عاجلة، فإن العالم يتجه إلى الكارثة مغمض العينين.

العرب