في جَدَل العلاقات التركية الإيرانية

في جَدَل العلاقات التركية الإيرانية

من المُتوقّعَ أن تنتهي أعمال إنشاء مصنع طائرات بيرقدار التركية في أوكرانيا خلال هذا الشهر يوليو/تموز، وعلى الرغم من أن هذا العمل ابتدأ في الصيف الماضي، إلا أن الاتفاق الخاصّ به كان قد أُبرم في عام 2019، قبل الحرب بوقت لا بأس به، تعود أهمية ذلك بالنسبة إلى تركيا إلى عدة مستويات: الاقتصادية/التجارية أولاً ثمّ السياسية والنفوذ، وكذلك لأن الاستثمار بذاته يمتلك ميزة شخصية مهمة، لكون من يملكه هو صهر اردوغان. تحلّ تركيا في المركز الثالث عالمياً في تطوّر تلك الصناعة، بعد الولايات المتحدة وإسرائيل، ولديها حالياً طلبات تصنيع من أكثر من 22 دولة. والمنافس الأوّل لها على كلّ حال هو إيران، التي تطير مسيّراتها من نوع «شاهد- 136» و»مهاجر- 6» في سماء أوكرانيا انطلاقاً من الجهة الروسية؛ في مقابل بيرقدار- 2 و»آقنجي» من الجهة الأوكرانية. ربّما كان أهمّ ما يميّز تلك الإيرانية كونها» كاميكاز» أي «انتحارية» وربّما «استشهادية».
هذه المقالة معنية بأوجه اللقاء والافتراق بين إيران وتركيا، من وجهة نظر سورية. وهما بلدان إسلاميّان أخذا يلعبان دوراً في السياسة الدولية، انطلاقاً من تلك الإقليمية بالطبع، لا يسجّل التاريخ الحديث صداماتٍ بين البلدين منذ بضعة قرون، أيّام السلطان سليم الأوّل العثماني والشاه إسماعيل الصفوي. أوّل ما يخطر على البال ممّا قد يفرّق بينهما هو الصراع الشيعي السنّي، الذي أخذ في الدخول على المشهد منذ الثورة الإسلامية في إيران، التي لم تخفِ كثيراً نواياها في تصدير ثورتها، كأيّة ثورة «أممية» وأيديولوجية معاصرة أو آفلة، وكانت أوّل ثمراتها حرب السنوات الثماني الطاحنة التي خاضتها إيران الخميني مع عراق صدّام، الذي ورث توكيل السنّة/ العثمانيين بمعظم خيوط السلطة من أيام السلطنة إلى أيّام نهضة «القومية العربية» من الهاشميين إلى حزب البعث، على حساب الأكثرية «الشيعية/الفارسية المحرومة». تتمدّد إيران بكلّ أسلحتها الأيديولوجية/المذهبية، والحربية، والسياسية والاقتصادية في أكثر من مكان، خصوصاً في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن، وبأشكال متعدّدة ومبدعة وفاعلة. تتوجّه أيضاً إلى السعودية باعتبارها رأس الحربة السنّية، وإلى الأقليات الشيعية فيها وفي دول الخليج الأخرى.. وفي أماكن أخرى من العالم. جمعتها مع تركيّا مصلحة مشتركة أمام السعودية مثلاً، تفترق حين تظهر آثار «التصدير» التركي أيضاً إلى أقاليم المنطقة، في العراق وسوريا وليبيا والسودان وغيرها. مؤخّراً أخذ العامل السعودي بالتغيّر نحو المصالحة التي تتسابق عليها إيران وتركيا، ضمن أجواء الاسترخاء الظاهري الراهنة. تصدير الثورة – التوسّع والهيمنة – ذاك هو العامل الرئيس ويكاد يكون الوحيد وراء السلوك الإيراني العمليّ في سوريا مثلاً، مع العراق ولبنان بالطبع.. في أماكن أخرى قد يكون العامل الاستراتيجي وعامل زيادة الحصة والنفوذ وراء السلوك. مع تركيّا حزب العدالة والتنمية هنالك عامل أيديولوجي قوي أيضاً، يتجلّى في طموح «إخواني» لاستعادة الخلافة، يقل أو يكثر ظهوره في خلفية السياسة التركية، أو على الأقل لاستعادة محدّثة للنفوذ التركي في المنطقة. يصطدم الطموحان في كلّ تلك المواقع.

تشترك تركيا وإيران معاً في الشأن السوري من خلال مسار آستانة، الذي كان يضمّهما مع روسيا، إضافة إلى النظام السوري و»المعارضة»

يجتمع الطرفان على البراغماتية الغالبة، التي تذهب من الاقتصاد والتجارة و»التنمية» إلى المجالات الأخرى. في ذلك الحقل يمكن استكشاف البيادر. فحجم التبادل التجاري – الذي تلجمه العقوبات المطبّقة على إيران – يصل إلى أكثر من سبعة مليارات دولار، تقول الحكومتان إنهما تريدان زيادته إلى ثلاثين مليارا في الأعوام المقبلة. تعتمد تركيا في حصة لا بأس بها من حاجتها إلى الغاز والنفط على إيران، وتستثمر الثانية حصة محترمة من الاستثمار الأجنبي في الأولى.
تشترك الحكومتان معاً في الشأن السوري من خلال مسار آستانة، الذي كان يضمّهما مع روسيا، إضافة إلى النظام السوري و»المعارضة». بالحساب يكون النظام في جهة روسيا وإيران، و»المعارضة» بالطبع في جهة تركيا، لأنّها – على الأقل – تتوضّع وتستمرّ بالحياة في إسطنبول. مؤخّراً تمّ الاستغناء عن وجود تلك المعارضة إلى طاولة آستانة التي لن يبقى اسمها كذلك، وبقي نظام الأسد، وهذا يعني أن تركيا صارت – برغبتها- وحيدة مقابل الفرسان الثلاثة. تتخلّى بذلك عن إحدى أوراقها المهمة، لتعبّر إمّا عن انتهاء صلاحية تلك الورقة، أو عن مصلحة وورقة أُخريين، ربّما كان الاختراق والسبق في التطبيع مع حكومة الأسد من بينها؛ أم لعلّها «الحرب خدعة» واللعب بالورق بدوره خدعة، خصوصاً «البوكر»! تخوض إيران خامنئي صراعات متعدّدة الوجوه والأشكال، تتعقّد خصوصاً في سوريا، حيث هنالك الصراع مع إسرائيل، الموجود رسمياً في بنية النظام ومبرّرات استمراره؛ والصراع مع الغرب والولايات المتحدة خصوصا، التي تحاول وتعمل على قطع طريقها المقبل من إيران إلى سوريا، نحو الجنوب ونقاط التماسّ مع إسرائيل، ونحو لبنان لتدعيم هيمنة حزب الله وتدشين انتصاره النهائي، مروراً بالعراق على أكتاف بعض مكوّنات الحشد الشعبي. وتشكّل الولايات المتحدة عائقاً لها أمام تغلغلها شرق الفرات وشماله باتّجاه النفط والحبوب، بتحالفها – والتحالف الدولي لمحاربة الإرهاب – مع قوات سوريا الديمقراطية. في الوقت ذاته، يظهر نَزق آخر في الجانب التركي، لا يتعامل فقط مع المصالح الاقتصادية والسياسية الأشمل، بل يتوقّف عند جبهته مع الكرد، التي تشغل لديه مكاناً متقدّماً على غيره بين اهتماماته، يكاد يخرّب عليه تلك المصالح الاستراتيجية النظامية. لا تنفع هنا كلّ تأكيدات قسد ومسد على عدم استهدافهما لتركيا، وانشغالهما ببناء جسور نحو الداخل السوري. وعلى الرغم من اجتماع مصلحة الحكومتين ضدّ ما يُسمّى بالطموحات الانفصالية للكرد، إلا أن الفضاء الكردي العراقي يتقاسم اهتمامهما بين الطرفين البارزاني والطالباني (الحزب الديمقراطي والاتحاد الوطني) في حين لا ينطبق الشيء ذاته إلا جزئياً على الفضاء الكردي السوري، حيث يتقارب المجلس الوطني الكردي مع أنقرة في إطار الائتلاف الوطني- على الأقل- ويتقارب مجلس سوريا الديمقراطية مع التحالف الدولي والولايات المتحدة.. وليس لدمشق من ممرّ بينهما، على الرغم من مناورات شتّى تحاول اللعب على خيوط تربط ما بين الإدارة الذاتية وقنديل، بعضها حقيقي مؤسّس على الأيديولوجيا المتقاطعة، وكثير منها جارٍ تضخيمه. تحاول إيران النفاذ من طريق قنديل سلماً بالضغط على قوات سوريا الديمقراطية ومجلسها، لكنّها لا تفعل ذلك إلا بالنار والحديد، انطلاقاً من تمركزها العسكري واستيطانها في المنطقة التي تدور حول البوكمال/ القائم. يلتقي ذلك الضغط ويتواقت مع ذلك المقبل من الشمال التركي، الذي لا يفتأ يهدّد بالويل والثبور ولا يتوقّف عن التذكير من خلال مسيّراته التي تغتال وتنتقي كوادر خاصة في تلك المنطقة. وغير مفهوم تماماً جوهر الاستراتيجية التركية هنا: هل هو مجرّد مبالغة في موضوع «ضمان الأمن القومي»؟ أم معادلات داخلية تستمرّ ضرورتها حتى ما بعد مرحلة الانتخابات؟ أم استثناء في تنافر السياسات السورية مع إيران، يحسدها على علاقتها الطيبة مع نظام الأسد، ويجهد لاستدراك ما ضاع على تركيا حتى الآن، عن طريق استعجال التطبيع معه؟ أم هو تحضير غير مباشر لعملية عسكرية تتمحور حول تل رفعت، وترجع بالصراع المذكور (التركي- الإيراني) إلى حرارته الحقيقية؟ هنالك متغيّرات مهمة مقبلة غير معروفة المدى، قد يبدأ بها مؤتمر حلف الناتو الأخير وصفقاته، التي يكاد صخبها يخفي مماحكات مجلس الأمن والعناد الروسي الأخرق على تعقيد تمديد قرار وصول المساعدات الإنسانية إلى سوريا من شمالها الغربي. رغم ذلك، وللمفارقة، يبدو كأنه موسم العودة إلى دمشق، بخيراتها التي تناقصت ولم يحلّ محلّها إلا الخواء والكبتاغون، في هاوية تفتح عليها دولة تكاد طغمتها الحاكمة تبلغ بها إلى غاية فشلها ومنتهاه… وهنالك طرق أخرى إليها!

القدس العربي