كتبنا في السابق عن المواجهات الإيرانية – الأميركية في المنطقة بشكل عام، والمجابهة في بلاد الهلال الخصيب بنوع خاص. واستعرضنا مختلف الساحات خلال فترة إدارة أوباما إبان مرحلة الاتفاق النووي، إذ سلم العراق لهذه الميليشيات، وبعدها عندما غيرت إدارة ترمب السياسة الأميركية، وبدأت بمواجهتهم، وصولاً إلى اشتباكات سنة 2000، إلى عهد إدارة بايدن الذي مشى بالتهدئة مع هذه الجماعات للتوصل إلى إعادة التوقيع مع طهران.
السؤال اليوم، وبعد العلاقات الإيرانية – السعودية تحت رعاية صينية، واستطالة حرب أوكرانيا، واحتدام المعركة السياسية داخل أميركا، واستمرار المعارضة الشعبية داخل إيران، هل هناك دلائل على تصعيد المواجهة الإيرانية الميليشياوية مع القوات الأميركية في الهلال الخصيب من العراق إلى سوريا، فلبنان، والأردن، حيث وجود ميداني عسكري أميركي؟ الجواب نعم، وهذا ما نراه من واشنطن.
الاستراتيجية الإيرانية
المرحلة الأخطر التي واجهتها استراتيجية التوسع الإيراني كانت دون شك السنوات الأربع، فترة إدارة ترمب، عندما انسحب في 2018 من الاتفاق النووي، فأدركت طهران أن التموقع الأميركي تغير تجاهها. وفي 2019 انصدمت القيادة عندما وضعت واشنطن “الباسدران” (الحرس الثوري) على لائحة الإرهاب والعقوبات. ووصل القلق أعلاه لدى القيادة الإيرانية عندما انفجرت تظاهرات أكتوبر (تشرين الأول) 2019 ظناً منها أن إدارة ترمب ستدعم هذا الانفجار الشعبي وتحاول إسقاط النظام من الداخل والخارج. إلا أن ذلك لم يحدث في الخريف، فحرك سليماني قواته في العراق لتلحق ضرراً بالمراكز الأميركية، مما دفع بالقيادة الأميركية إلى الرد على الميليشيات، وصولاً إلى تصفية سليماني وقيادات من “الحشد” العراقي بداية 2020.
كان ذلك ليفجر حرباً شاملة من العراق إلى لبنان بين القوات الأميركية وتلك الميليشيات، إلا أن جائحة كورونا جمدت كل شيء في السياسات الدولية، بما فيه السياسة الخارجية الأميركية، فنجا النظام وتنفست قواته الصعداء في المنطقة.
أضف إلى ذلك الحملة الهائلة التي نظمتها معارضة أوباما – بايدن ضد ترمب في سنته الأخيرة لإخراجه من البيت الأبيض، مما أدى إلى شل التحرك الأميركي الاستراتيجي حيال الميليشيات.
ومع دخول بايدن وفريق أوباما إلى البيت الأبيض شعرت طهران بالطمأنينة لناحية تموقعها الإقليمي، إذ إنه في نظر الأخيرة، فالعودة إلى الاتفاق ستمنع حرباً أميركية شاملة على الميليشيات كما كانت شبه متوقعة تحت إدارة ترمب، لذا فقد أمنت طهران مصير المجمعات التابعة لها عبر العودة إلى المفاوضات. وجاء قرار إدارة بايدن بشطب الحوثيين من لائحة الإرهاب في 2021 كتأكيد لموقف البيت الأبيض الجديد. فتحركت القيادة الإيرانية لتؤيد الضغط العربي على شبكاتها عبر المبادرة الصينية لإطلاق العلاقات مع السعودية وأعضاء التحالف العربي، فقدمت تنازلات سمحت لها بأن تركز على أولويتها، وهي توطيد نفوذها في الهلال الخصيب.
الموقف العسكري الأميركي
تحت إدارة أوباما كان الشغل الشاغل للبنتاغون بين عامي 2009 و2012، تأمين انسحاب شامل من العراق، والاستعداد للانسحاب من أفغانستان. فبعد سنتين من خروج القوات الأميركية من العراق، سيطر “داعش” على أجزاء واسعة من سوريا والعراق، فارضاً على واشنطن إرسال قوة لتدمير هذا التنظيم الإرهابي.
وبسبب خوف طهران وبغداد من الدواعش المتقدمة عدل “المحور” موقفه من القوات الأميركية، فلم يهاجمها، بل تعاونت “الميليشيات الإيرانية” مع التحالف الدولي ضد “الخلافة الميليشياوية”. فخف الاشتباك مع أميركا، خصوصاً أن إدارة أوباما والنظام الإيراني كانا ينظمان “صفقة العصر” التي أغدقت المليارات على “الجمهورية الإسلامية”، مما أنهى تقريباً المواجهة بين البلدين. فركزت القوات الأميركية ثقلها على “داعش”، مما سمح للميليشيات الإيرانية، من “حشد” وغيره أن تتسلم الأراضي المحررة من أيادي التحالف الدولي تدريجاً.
إلا أن الخطط العسكرية الأميركية تغيرت بسرعة مع إعلان إدارة ترمب توجهها لمواجهة الميليشيات منذ بداية 2017، فعززت مواقعها وحذرت شبكات إيران من التقدم، وصولاً إلى المجابهة المباشرة، كما ذكرنا. إلا أن طهران قررت إنهاء الوجود الأميركي بطريقة أو بأخرى. وطورت هذا الهدف الاستراتيجي تحت إدارة بايدن.
البنتاغون من ناحيته، وبغض النظر عن توجيهات البيت الأبيض بعدم الاشتباك مع الإيرانيين، التي لا يزال ينفذها، إلا أنه اعتمد تموقعاً خاصاً على رغم مفاوضات الاتفاق، وهو “الدفاع عن المواقع الأميركية ضد أي معتدٍ”، بما فيه الميليشيات، مما وضع الأخيرة في موقع دقيق، إذ طلبت منها قيادتها أن “تضعف قوات الاستكبار الأميركي”، ولكنها قررت الدفاع عن نفسها.
ومن ناحية ثانية، فإن تخفيف دعم الحوثيين، ولو تكتيكياً، في اليمن سيسمح للحرس الثوري بالتركيز على ساحات الهلال الخصيب. كل ذلك دفع بوزارة الدفاع الأميركية إلى أن ترسم حدوداً حمراء حول مربعاتها في ثلاث دول هي العراق وسوريا، وإلى حد أصغر في لبنان، وتعزز قدراتها في دولة رابعة، وهي الأردن. أما القواعد في تركيا والخليج فتتبع استراتيجيات أخرى.
من هنا حدد البنتاغون مربعاته الأساسية كما يلي:
1- إقليم كردستان العراق كقواعد ثابتة، مع احتمال استعمال نقاط في الأنبار، بما فيها عين الأسد.
2 – منطقة “قوات شرق سوريا” في مواقع ونقاط عدة.
3 – منطقة التنف بين سوريا والعراق.
4 – نقطة في قاعدة حالات، شمال لبنان.
5 – منطقة دعم في شمال الاردن.
التحرك الإيراني الحالي
بناءً على الهدف الأبعد، أي السيطرة على الهلال الخصيب، وصولاً إلى البحر المتوسط، وبناءً على ضرورة إخراج القوات الأميركية من المنطقة، تبدو الحملة الميدانية ضد المربعات العسكرية أوضح مع الوقت.
فقوات “الحشد” العراقية تتمركز حول كردستان العراق من ناحية إيران والأراضي العراقية ككماشة موجهة ضد البيشمركة والوحدات الأميركية حول أربيل، وتحشد المشاة وتنصب الصواريخ، وهدفها قطع الإمدادات عنها مستقبلاً.
وفي سوريا تتقدم قوات “الجيش العربي السوري” من الغرب والجنوب باتجاه الحسكة، في كماشة مع تقدم “الحشد” والمجموعات الأخرى من محافظة نينوى باتجاه فك الارتباط بين المنطقتين الكرديتين في العراق وسوريا. كذلك يهدف “الباسدران” أن يعزل، ولاحقاً يزيل، مربع التنف العربي والأميركي.
أما في لبنان، فيسعى “حزب الله” إلى السيطرة على سلسلة جبال لبنان الغربية عبر قممها لإقامة جدار ناري ضد احتمال تحرك الأسطول السادس الأميركي، وقد يكون هناك تركيز على قاعدة حامات في شمال البلاد. أما الوجود الأميركي في الأردن، فسيكون له حساب آخر. الخريطة الهجومية الإيرانية على المربعات الأميركية باتت واضحة. والسؤال هو: ما هي الخريطة الأميركية المضادة؟
اندبندت عربي