نفّذت روسيا مؤخراً تهديدها المتكرر بتعليق مشاركتها في اتفاق تصدير الحبوب عبر موانئ البحر الأسود. وحتى صباح الاثنين الماضي الموافق 17 يوليو (تموز) الحالي، آخر يوم في الاتفاق، كانت كل المؤشرات تشير إلى تمديده، لكن الموقف تغير تماماً عندما تعرّض جسر يربط بين روسيا وشبه جزيرة القرم الأوكرانية التي ضمتها روسيا إليها للهجوم للمرة الثانية؛ مما أدى إلى مقتل شخصين.
ويبدو أن اتفاق الحبوب سيظل معلقاً خلال الأسبوعين المقبلين على الأقل حتى تنتهي القمة الروسية – الأفريقية المقرر عقدها في مدينة سان بطرسبرج الروسية يومي 27 و28 يوليو الحالي، وربما يستمر تعليق الاتفاق حتى يلتقي الرئيسان التركي والروسي في أغسطس (آب) المقبل.
حصاد حقول القمح في منطقة قريبة من العاصمة كييف (أ.ف.ب)
وتقول ألكسندرا بروكوبينكو، الباحثة غير المقيمة في مركز «كارنيغي روسيا – أوراسيا لأبحاث السلام» في تحليل نشره موقع «كارنيغي»: إن الأسواق لا تبدو مقتنعة بأن فترة تعليق الاتفاق ستكون طويلة. فموسكو هددت بالانسحاب من الاتفاق مرات كثيرة، لكن لم يتم التعامل مع أي منها بجدية. وفي كل الأحوال، فإن الكرملين يعتمد على شركائه بدرجة لا تجعل الانسحاب من الاتفاق بسيطاً بالنسبة له.
تم التوصل إلى الاتفاق بين روسيا وأوكرانيا بوساطة الأمم المتحدة وتركيا منذ عام؛ بهدف السماح بتصدير كميات الحبوب الأوكرانية التي تحتاج إليها أسواق العالم بشدة لوقف ارتفاع أسعار الغذاء العالمية. ووفقاً للجزء الأول من الاتفاق، تعهدت روسيا بعدم مهاجمة سفن الشحن التي تحمل الحبوب الأوكرانية من موانئ البحر الأسود، في حين تتولى تركيا والأمم المتحدة تفتيش حمولة السفن. في المقابل، يقضي الجزء الثاني من الاتفاق بإعفاء صادرات روسيا من المنتجات الزراعية والأسمدة من العقوبات الأمريكية والأوروبية.
ومنذ توقيع الاتفاق قبل عام تم تصدير نحو 32 مليون طن من الحبوب الأوكرانية تتراوح قيمتها بين 8 و9 مليارات دولار إلى دول كثيرة، منها الصين، وإسبانيا وتركيا.
وساهم الاتفاق في خفض أسعار الغذاء العالمية بنسبة 11.6 في المائة، بحسب مؤشر الأمم المتحدة لأسعار الغذاء.
ويعدّ الاتفاق بالنسبة لأوكرانيا مصدراً رئيسياً للعملة الصعبة، كما أنه أفرغ مخازن الحبوب الأوكرانية حتى تستوعب المحصول الجديد، ومنع الأسعار المحلية من التراجع.
وبعد ستة أسابيع بدا أن الكرملين يعيد النظر في الاتفاق، وشكا من عدم التزام الأطراف الأخرى بشروطه.
وتعترض روسيا رسمياً على عدم تصدير الحبوب الأوكرانية إلى الدول الفقيرة، رغم أن وجهة التصدير لم تكن جزءاً من الاتفاق. في الوقت نفسه، فإن الهدف الرئيسي لروسيا من الاتفاق كان إلغاء القيود على صادراتها من الحبوب والأسمدة. ورغم إعفاء الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي للمنتجات الزراعية والأسمدة الروسية من العقوبات، ما زالت الشركات الأوروبية مترددة في العودة إلى التعامل مع نظيراتها الروسية كالمعتاد.
كما أن روسيا غير راضية عن عدم إعادة ربط البنك الزراعي الروسي المملوك للدولة بنظام تسوية المعاملات المصرفية الدولية (سويفت) كما يقضي الاتفاق. وبدلاً من ذلك اقترحت الأمم المتحدة حلاً وسطاً يتمثل في ربط فرع تابع للبنك بنظام «سويفت».
ورغم القيود الغربية نجحت روسيا في تصدير 60 مليون طن من الحبوب إلى الأسواق الخارجية خلال السنة الزراعية المنتهية في 30 يونيو (حزيران) الماضي، وجنت أكثر من41 مليار دولار من هذه الصادرات.
ولا تبدو التوقعات بشأن عائدات الصادرات والمحصول الجديد أقل تفاؤلا من العام الماضي. فالمستودعات ما زالت مليئة بكميات قياسية من الحبوب، والمصدرون الروس تكيفوا مع العقوبات.
وتقول بروكوبينكو، الباحثة الزائرة في مركز النظام والحوكمة لأوروبا الشرقية وروسيا وآسيا الوسطى التابع للمجلس الألماني للعلاقات الخارجية: إن روسيا عندما وافقت على اتفاق تصدير الحبوب لم تكن تدرك مدى تزايد اعتمادها على الصين وتركيا. بل إن الصين وكأحد المستوردين الرئيسيين للحبوب الأوكرانية التي تم تصديرها وفقاً للاتفاق، أدرجت موضوع الاتفاق كبند منفصل في خطتها للسلام في أوكرانيا.
سفينة حبوب تدخل مضيق البسفور في 15 يوليو تخضع للتفتيش ضمن مبادرة البحر الأسود (رويترز)
ولا تريد موسكو إفساد علاقتها مع بكين التي أصبحت أكبر مستورد لمواد الطاقة الروسية وأكبر بائع للسلع الخاضعة للعقوبات الغربية في السوق الروسية.
الأمر نفسه يتكرر مع تركيا، فالصادرات التركية إلى روسيا خلال النصف الأول من العام الحالي تضاعفت إلى نحو 5 مليارات دولار، في حين صدّرت روسيا سلعاً إلى تركيا بقيمة 27.7 مليار دولار. وأصبحت أنقرة بالنسبة لموسكو ليس فقط مجرد مركز لوجيستي مهم، وإنما أيضاً «واحدة من عدد قليل من الدول التي تجري معها حواراً على مستوى رفيع»، بحسب اعتراف الكرملين مؤخراً.
وكما ترى بروكوبينكو، فإن استقرار أسعار القمح في السوق العالمية رغم إعلان روسيا تعليق مشاركتها في الاتفاق يشير إلى أن الأسواق لا تعتقد أن الحبوب الأوكرانية ستظل حبيسة داخل البلاد. كما أن تحذيرات السلطات الروسية من أن موانئ شمال غرب البحر الأسود أصبحت «منطقة خطيرة بشكل مؤقت» لم تنعكس بوضوح على الأسعار العالمية على عكس ما حدث في بدايات الحرب الروسية – الأوكرانية التي انطلقت في أواخر فبراير (شباط) الماضي.
في الوقت نفسه، استعدت أوكرانيا لانهيار الاتفاق، وتواصلت بشكل مستقل مع شركات النقل والتأمين وقدمت ضمانات لسلامة الشحنات. كما أسست كييف صندوق تأمين خاصاً لهذا الغرض برأسمال قدره 547 مليون دولار. ورغم ذلك؛ فإنه إذا لم تعد روسيا إلى الاتفاق في المستقبل القريب سترتفع الأسعار العالمية.
والواضح أن روسيا فشلت في توجيه الاتفاق لصالحها على مدى العام الماضي، في الوقت الذي لم تحسن فيه تقدير التغير في ميزان القوى. كان بوتين يتصور أن الاتفاق سيمنح بلاده نفوذاً على أوكرانيا والغرب، لكن ما حدث هو أن موسكو أصبحت مجرد شريك رسمي في الاتفاق. وفي حين يضع المراقبون مواقف الرئيس الروسي في الحسبان؛ لأنه لا يمكن التنبؤ بقراراته، فإن تهديداته لم تعد تؤخذ على محمل الجد.
وأخيراً، فالمتوقع زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لموسكو في الشهر المقبل لمناقشة ملف اتفاق الحبوب وملفات أخرى. ويتمتع أردوغان بنفوذ كبير لدى موسكو لإقناعها بالعودة إلى الاتفاق، إذا لم يكن قادة أفريقيا قد نجحوا في إقناعها بالعودة خلال القمة الروسية – الأفريقية المقررة أواخر الشهر الحالي.
الشرق الأوسط