دلالات التصعيد الدبلوماسي بين العراق والسويد

دلالات التصعيد الدبلوماسي بين العراق والسويد

دفع السلوك المتطرف الذي قام به سلوان موميكا، اللاجئ العراقى الأصل فى السويد، والذي تمثل فى حرق القرآن الكريم وتدنيسه مرتين متتاليتين خلال خلال شهرى يونيو ويوليو 2023 فى العاصمة السويدية، إلى جانب حرق العلم العراقى فى تعبير عن رفضه الانتماء لدولة المنشأ، عدداً من الحكومات العربية والإسلامية إلى تقديم مذكرات احتجاج لدى سفارات السويد لديها تطالب فيها بضرورة منع تكرار هذه الأفعال التى تنال من مقدسات المسلمين.

لكن رد فعل الحكومة العراقية كان أكثر حدة وتصعيداً على مستوى العلاقات الدبلوماسية مع السويد، وبلغ ذروته بقيام بغداد ومن خلال بيان رسمى صادر فى 20 يوليو 2023، بطرد السفيرة السويدية واستدعاء القائم بالأعمال العراقى إلى بغداد، وقيام السويد بسحب بعثتها الدبلوماسية جراء التظاهرات التى قام بها أنصار التيار الصدرى تحت مسمى “نصرة القرآن الكريم” بدعوة مباشرة من الزعيم مقتدى الصدر، وخلالها تم اقتحام مقر السفارة السويدية فى بغداد، ما اعتبرته الخارجية السويدية إخفاقاً من جانب الحكومة العراقية فى القيام بمسئوليتها تجاه حماية أمن البعثات الدبلوماسية على أراضيها، والتى أكدت بدورها أن اقتحام السفارة يعد “خرقاً أمنياً” وأنها – أى الحكومة العراقية – بصدد معاقبة المتسببين فى الاقتحام واتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة ضدهم.

تحذيرات وتجاهل
تعود حدة رد فعل الحكومة العراقية بالطبع إلى كون القائم بهذا التدنيس لأهم مقدسات الإسلام يحمل الجنسية العراقية بخلاف كونه يعتنق الديانة المسيحية، ما عُد من وجهة نظر البعض حضاً على الكراهية بين الأديان، وحضاً كذلك على العنف القائم على أساس دينى. بالإضافة إلى تجاهل ستوكهولم للتحذيرات التى قدمتها العراق فى أعقاب المرة الأولى التى حرق فيها موميكا المصحف الشريف، ورفضها كذلك تسليمه لبغداد لمحاكمته قانونياً باعتباره يحمل الجنسية العراقية، وأن الجرم الذى قام به يعاقب عليه القانون، متجاهلة بذلك ردود الفعل الإسلامية عامة، والعراقية خاصة الرافضة للتصرف الذى قام به موميكا، ما حدا ببغداد إلى دعوة دول عربية وإسلامية إلى اتخاذ خطوة مماثلة لما قامت به، كما طالبت الحكومة العراقية منظمة التعاون الإسلامى بعقد مؤتمر طارئ على المستوى الوزارى بهدف اتخاذ موقف إسلامى موحد فى مواجهة سياسات السويد الداعمة بصورة متكررة للتصرفات غير المسئولة التى يقوم بها أشخاص متطرفون ضد المقدسات الإسلامية، بدعوى حماية حرية التعبير، والعمل كذلك على مواجهة ظاهرة الإسلاموفوبيا حول العالم، واتخاذ الإجراءات اللازمة بشكل جماعى بهذا الشأن.

وتوالت ردود الفعل العراقية بموافقة البرلمان على قطع العلاقات الدبلوماسية مع السويد، وقيام هيئة الإعلام والاتصالات العراقية بسحب ترخيص شركة “إريكسون” السويدية للاتصالات العاملة فى العراق، واتجاه تيار الصدر من ناحية والإطار التنسيقى من ناحية ثانية إلى تنظيم مظاهرات فى المدن العراقية لإدانة الجريمة التى ارتكبها موميكا بحق المصحف الشريف.

متغيرات أخرى
ثمة من يفسر موقف بغداد وستوكهولم إزاء التصعيد الدبلوماسى المتبادل بينهما على خلفية تدنيس المصحف الشريف وفقاً لعدة معطيات منها:

1- صعود اليمين المتطرف فى أوروبا وتوليه السلطة فى عدد من بلدانها واستخدمه خطاباً سياسياً يقوم على كراهية الآخر المختلف عنه وكراهية الديانة الإسلامية تحديداً، واعتبارها مصدراً للإرهاب والتطرف على خلفية وجود تنظيم “القاعدة”، مروراً بأحداث 11 سبتمبر 2001، وصولاً إلى ظهور تنظيم الدولة “داعش” وما تلاه من تداعيات أمنية جمة على استقرار وأمن الدول، لاسيما بعد أن وفرت تلك الحكومات ومن بينها السويد ملاذاً آمناً لبعض اللاجئين العراقيين أمثال موميكا.

وهنا يفسر أحد الاتجاهات جريمة موميكا بحق المصحف الشريف باعتبارها رفضاً لكل ما هو إسلامى أصولى على خلفية الجرائم التى مارسها تنظيم الدولة “داعش” ضد بعض المكونات الاجتماعية التى تدين بديانات أخرى فى العراق، خاصة إذا ما علمنا أن موميكا كان يرأس مليشيا مسلحة لمواجهة “داعش” فى موطنه داخل العراق.

2- حالات اللجوء إلى الدول الأوروبية التى يقوم بها كل من تعرض فى دولته داخل المنطقة العربية للاضطهاد أو التمييز، لكونه ينتمى إما لديانة أو لطائفة أو لعرق مختلف، وفرت فى ظل مجموعة الحريات الديمقراطية فى دول أوروبا بيئة حاضنة لمن يرون أن حرية التعبير قيمة تسقط أمامها كل الخطوط الحمراء، بما فيها المتطرفين أمثال موميكا. لكن الحقيقة أن هؤلاء “يستغلون” هذه القيم من أجل توظيفها لخدمة أفكارهم المتطرفة أو سلوكياتهم العنيفة تجاه القيم والمقدسات الدينية وتحديداً الإسلامية منها، لاسيما وأن الإسلام يعد الديانة الثانية فى أوروبا والأكثر انتشاراً فيها.

لهذا يعد إحراق المصحف الشريف من قبل عراقى مسيحى على سبيل المثال، أحد أوجه شيوع الأيديولوجيا المعادية للإسلام والمسلمين الذين يتزايد أعدادهم فى أوروبا بشكل ملحوظ، سواء كان من يمارسون هذا العداء تجاه المسلمين أوروبيو المنشأ، أو كانوا لاجئين أو مهاجرين يدينون بديانات أخرى غير الديانة الإسلامية، والذين فروا من بلدانهم على وقع رفضهم وجود الإسلام الأصولى فى الحكم، أو فى الحياة الاجتماعية، أو كجماعة إرهابية متطرفة.

3- الخلفية المليشياوية التى كان ينتمى إليها موميكا فى قضاء الحمدانية إحدى أقضية مدينة الموصل بمحافظة نينوى العراقية. فبحسب مصادر انضم موميكا لمليشيا “كتائب بابليون” ورأس مليشيا “صقور السريان” خلال حرب تحرير الموصل من تنظيم الدولة “داعش”. وبعد تحرير الموصل أسس موميكا حزباً سياسياً صغيراً، لكنه واجه عقبات مما حدا به إلى طلب اللجوء إلى السويد وبعدها انضم موميكا لأحد الأحزاب اليمينية السويدية المتطرفة.

ومن هنا يمكن القول إن خلفيته العملية كقائد مليشيا فى العراق خلال مواجهة “داعش” وخلفيته السياسية كعضو فى حزب يمينى متطرف بالسويد يوفران تفسيراً حقيقياً لجريمته بحق القرآن الكريم.

عودة الصدر للظهور
لم يدع زعيم التيار الصدرى حدث الإساءة إلى القرآن الكريم يمر مرور الكرام، فهو الزعيم الدينى الذى يتمتع برصيد شعبى جارف لدى العراقيين، كما يتحكم فى تيار سياسى لديه القدرة على سرعة الانتشار فى ساحات الاحتجاج. وتدرج رد فعل الزعيم على تدنيس موميكا القرآن الكريم وحرقه، بداية من تحريك تياره للاحتشاد أمام السفارة السويدية، مروراً بمطالبة الحكومات والدول الاسلامية – خلال خطاب ألقاه فى 20 يوليو الجارى- وتحديداً السعودية وإيران بإبداء موقفيهما بشأن الحادثة، ومطالبة العالم بسن قانون يعتبر حرق القرآن الكريم جريمة إرهابية، وصولاً إلى اقتحام أنصاره السفارة السويدية، وهو ما دفع الولايات المتحدة إلى إدانة الاقتحام واعتباره “أمراً غير مقبول”.

وبالرغم من التحشيد الذى قام به تيار الصدر أمام السفارة السويدية إدانةً لتدنيس القرآن الكريم، فإن ثمة تحشيداً مماثلاً قامت به قوى الإطار التنسيقى المناهضة للصدر والمشاركة فى حكومة شياع السودانى الحالية، استهدف به الإطار عدم ترك ساحات الاحتجاح مفتوحة أمام تيار الصدر للولوج إلى الشارع العراقى مجدداً، حتى وإن لم تكن موجهة ضد الحكومة نفسها، باعتباره يمتلك قدرة على تحريك أى احتجاجات على اختلاف مسباباتها.

فى هذا السياق، اعتبرت قوى الإطار أن عودة ظهور الصدر وتحشيد تياره فى الشارع وتحديداً بالقرب من المنطقة الخضراء، حتى وإن لم يكن ضد الحكومة وسياستها، يستهدف من ورائه الصدر توصيل رسالة لقوى الإطار التنسيقي مفادها أنه بصدد العودة قريباً إلى المشهد السياسى العراقى، وأنه لايزال يمتلك القدرة على التحشيد وامتلاك زمام الاحتجاجات حال قرر العودة، أو قرر ما هو أبعد من ذلك كالمشاركة فى الانتخابات القادمة مثلاً.

وفى الآخير، يمكن القول إن موقف الحكومة العراقية القوى تجاه قيام المتطرف العراقى الأصل سلوان موميكا بتدنيس القرآن وحرقه فى السويد جاء على خلفية عدة معطيات، وأن ظهور الصدر وتياره مجدداً فى ساحات التأثير الجماهيرى بالقرب من المنطقة الخضراء، قد أكسب هذا الموقف زخماً شعبياً، لكنه فى الوقت نفسه أدخل حكومة شياع السودانى فى أزمة دبلوماسية حادة مع السويد، وأن إطلالة مقتدى الصدر الأخيرة قد تفتح المجال أمام إطلالات أخرى قادمة مستقبلاً.

مركز الأهرام للدراسات