خرافة الحياد

خرافة الحياد

مع احتدام التنافس بين الولايات المتحدة والصين تواجه دول أخرى وبشكل متزايد معضلة الانحياز إما لواشنطن أو بكين، فيما يفضل معظمها عدم الاضطرار إلى اختيار أي منهما، فعلى مدى العقود الماضية استفادت العواصم الأجنبية من الأمن والمزايا الاقتصادية التي حظيت بها نتيجة ارتباطها إما بالولايات المتحدة أو الصين، وتدرك هذه الدول أن الانضمام إلى كتلة سياسية اقتصادية متماسكة يعني التخلي عن منافع كبيرة قد تحصل عليها نتيجة علاقاتها بالقوة العظمى الأخرى.

في اجتماع لمنتدى منطقة المحيطين الهندي والهادئ عقد في بروكسل عام 2022، قال كبير الدبلوماسيين في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل إن “الغالبية العظمى من دول المحيطين الهندي والهادئ والدول الأوروبية لا تريد الانزلاق إلا فخ الخيار المستحيل”.

وفي سياق متصل أشار الرئيس الفيليبيني فرديناند ماركوس الابن عام 2023 إلى أن بلاده “لا تريد عالماً منقسماً إلى معسكرين [و] حيث سيتعين على الدول أن تختار جانباً تسانده”، وقد أعرب كثير من القادة عن مواقف مماثلة بمن فيهم نائب رئيس وزراء سنغافورة لورانس وونغ ووزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان آل سعود.

إذاً فالرسالة إلى واشنطن وبكين واضحة، “ما من بلد يريد أن يجبر على الاختيار بين القوتين”.

من هذا المنطلق سارعت الولايات المتحدة إلى طمأنة حلفائها بأنها توافقهم الرأي، وفي هذا السياق قال وزير الخارجية أنتوني بلينكين خلال مؤتمر صحافي في يونيو (حزيران) الماضي “نحن لا نطلب من أحد الاختيار بين الولايات المتحدة والصين”، وكذلك أصر وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن حين تحدث في “حوار شانغريلا” في سنغافورة على أن واشنطن لا “تطلب من الناس أو من البلدان الاختيار بيننا وبين بلد آخر”. وكرر المتحدث باسم البيت الأبيض جون كيربي النقطة نفسها في أبريل (نيسان) الماضي قائلاً “نحن لا نطلب من الدول أن تختار بين الولايات المتحدة والصين أو بين الغرب والصين”.

صحيح أن واشنطن لا تصر على أن يختار حتى أقرب شركائها بين “كل شيء أو لا شيء”، و”نحن مقابل هم”، فبالنظر إلى العلاقات القوية التي تربط جميع البلدان، بما في ذلك الولايات المتحدة، مع الصين، فمن غير المرجح أن تنجح أية محاولة لتشكيل كتلة متماسكة مناهضة للصين، وحتى الولايات المتحدة نفسها لن تنضم إلى مثل هذا الاصطفاف إذا تطلب الأمر قطع علاقتها الاقتصادية مع الصين، مما قد يكلفها ثمناً باهظاً.

لكن قد لا يكون من الممكن أن تستمر البلدان في الجلوس ببساطة على الحياد لفترة أطول، فعندما يتعلق الأمر بمجموعة من مضامير السياسة، بما في ذلك التكنولوجيا والدفاع والدبلوماسية والتجارة، فإن واشنطن وبكين في الواقع تجبران الدول الأخرى على الانحياز وتحديد موقفها، وبالتالي ستجد البلدان نفسها عالقة حتماً في تنافس بين القوتين العظميين، وسيطلب منها أن تخالف النهج الذي تتبعه بطريقة أو بأخرى.

في الحقيقة أن المنافسة الأميركية – الصينية سمة لا مفر منها في عالم اليوم، ويجب على واشنطن التوقف عن التظاهر بخلاف ذلك، لا بل ينبغي أن تعمل على جعل الخيارات الصحيحة جذابة قدر الإمكان.

إلى أي جانب تقف؟

مع اشتداد المنافسة بين الولايات المتحدة والصين خلال الأعوام الأخيرة، وجدت البلدان نفسها بشكل متزايد في وضع لا تحسد عليه يحتم عليها الاختيار، ففي عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب مارست الولايات المتحدة ضغوطاً كبيرة على حلفائها بهدف عدم السماح لشركة هواوي Huawei، عملاق الاتصالات الصيني، ببناء شبكات الجيل الخامس 5G الخاصة بها، وبطبيعة الحال كانت بكين ترغب في إبرام صفقات الاتصالات، وأعربت حكومات عدة بشكل خاص عن قلقها من أن حظر “هواوي” من شأنه أن يغضب الصين، ورداً على ذلك أبدت واشنطن صرامة أكبر وزادت الضغط حتى إن إدارة ترمب وصلت إلى حد التلميح لبولندا بأن عمليات نشر القوات الأميركية في المستقبل قد لا تنفذ إذا عملت وارسو مع “هواوي”.

واستطراداً حذرت الحكومة الأميركية ألمانيا من أن واشنطن ستحد من تبادل المعلومات الاستخباراتية إذا استقبلت برلين شركة “هواوي”، وبعد فترة وجيزة وعد السفير الصيني في ألمانيا بالانتقام من الشركات الألمانية إذا حظرت برلين شركة “هواوي”، وهكذا أصبح أكبر اقتصاد في أوروبا عالقاً بين أهم شريكين تجاريين له.

واستمرت هذه الديناميكية في عهد الرئيس الأميركي جو بايدن، إذ قدم قانون الرقائق والعلوم [“قانون خلق حوافز مفيدة لإنتاج أشباه الموصلات من أجل أميركا” المعروف اختصاراً باسم “تشيبس” CHIPS] الذي اقترحته الإدارة حوالى 50 مليار دولار من الإعانات الفيدرالية للجهات الأميركية والأجنبية التي تصنع أشباه الموصلات في الولايات المتحدة، شرط أن يمتنع أولئك المصنعون من إبرام أية “صفقة كبيرة” من أجل توسيع قدرتهم على تصنيع الرقائق في الصين لمدة 10 أعوام.

وفي وقت لاحق من ذلك العام فرضت إدارة بايدن من جانب واحد ضوابط تصدير على أشباه الموصلات المتطورة المستخدمة في الصين في مجال الحوسبة الخارقة [سوبر كمبيوتينغ]، وفي البداية لم تكن هولندا واليابان، وهما الدولتان الرئيستان الأخريان اللتان تصدران معدات تصنيع الرقائق إلى الصين، طرفين في النهج الجديد، لكن سرعان ما طلب منهما إرفاق القيود المفروضة بحدود خاصة بهما، وبحلول أوائل عام 2023 خضعتا لضغوط الولايات المتحدة وفعلتا ذلك.

واستمرت الأفعال وردود الفعل منذ ذلك الحين، وبعد أشهر من القيود الأميركية انتقمت بكين من الولايات المتحدة من خلال منع استخدام أشباه الموصلات التي تصنعها شركة “ميكرون” الأميركية في مشاريع البنية التحتية الصينية الرئيسة، ثم طلبت واشنطن على الفور من كوريا الجنوبية التي يدير صانعو الرقائق فيها منشآت كبرى لتصنيع الرقائق في الصين معروفة بـ “فابس”، ألا تسد أي نقص في الإمدادات.

بدورها فرضت بكين قيوداً على تصدير المعادن الرئيسة المستخدمة في تصنيع أشباه الموصلات، وفي وقت إعلانها اتخاذ هذه الخطوة نددت وسائل الإعلام الرسمية الصينية بهولندا، إحدى الدول التي تستخدم هذه المعادن.

مع اشتداد التنافس بين الولايات المتحدة والصين ستكثر المعضلات التي لا مفر منها

وفي الواقع فإن تلك الألاعيب التي تسيطر عليها عقلية الفوز على حساب الآخرين لا تقتصر على القرارات الاقتصادية، ففي عام 2021 علمت الولايات المتحدة أن الصين تقوم ببناء مرفق ميناء في الإمارات العربية المتحدة، فقامت إدارة بايدن التي ساورها القلق من أن تعتزم بكين بناء قاعدة عسكرية هناك، بالضغط على أبوظبي من أجل وقف المشروع. وبحسب ما ورد فقد حذر بايدن رئيس الإمارات الشيخ محمد بن زايد من أن الوجود العسكري الصيني في الإمارات من شأنه أن يضر بشراكة بلديهما.

وهكذا أوقفت أبو ظبي البناء الصيني، لكن الوثائق المسربة التي نشرت في صحيفة “واشنطن بوست” في الآونة الأخيرة أشارت إلى أن العمل على المنشأة قد استؤنف، ورداً على ذلك تعهد السيناتور الأميركي الديمقراطي عن ولاية كونيتيكت كريس مورفي والذي يترأس اللجنة الفرعية للشرق الأوسط التابعة للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، بمعارضة بيع طائرات مسلحة من دون طيار إلى الإمارات العربية المتحدة. وأضاف رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ بوب مينينديز أنه “يتعين على أصدقائنا في الخليج أن يقرروا، لا سيما في المسائل الأمنية، أي جهة يريدون اللجوء إليها، وإذا كانت الصين فأعتقد أن هذه مشكلة كبيرة”.

وتتخذ البلدان في منطقة المحيطين الهندي والهادئ خياراتها الخاصة أيضاً، ففي عام 2017 عرضت واشنطن منظومة الدفاع الصاروخي “ثاد” THAAD على كوريا الجنوبية وسط توترات متزايدة مع الشمال، وكان من المقرر نصب الصواريخ على الأرض التي قدمتها مجموعة “لوت” العملاقة الكورية الجنوبية، وحذرت بكين سيول من قبول نشر المنظومة الصاروخية خوفاً من أن يسمح رادارها للولايات المتحدة بتتبع التحركات العسكرية داخل الصين. وأصرت بكين على أنها “لا تستطيع فهم أو قبول” نشر الصواريخ، وحذر سفير الصين في سيول من أن السماح بنصب منظومة “ثاد” يمكن أن يدمر العلاقات بين البلدين، بيد أن سيول تابعت نشر صواريخ “ثاد”، وبالتأكيد اتخذت بكين خطوات انتقامية فمنعت المجموعات السياحية الصينية من السفر إلى كوريا الجنوبية، وأغلقت متاجر لوت في الصين، وحرم الفنانون الكوريون الجنوبيون من التأشيرات وأزيلت الأعمال الدرامية الكورية الجنوبية من شبكة الإنترنت في الصين، ولا تزال بعض الإجراءات الاقتصادية القسرية قائمة حتى اليوم، والأمر سيّان بالنسبة إلى نظام الدفاع الصاروخي.

على واشنطن أن تظهر حضوراً والتزاماً أكبر

وكما سبق وذكرنا فلقد أُجبرت الحكومات على القيام بخيارات تنطوي على كلف حقيقية وكانت تفضل لو حظيت بخيار تجنبها، ومع اشتداد التنافس بين الولايات المتحدة والصين فستزداد المعضلات التي لا مفر منها صعوبة، ومن المرجح أن تتمحور أسوأ المعضلات حول الجهود المبذولة من أجل فصل سلاسل التوريد التكنولوجية وحمايتها، وفي هذا الإطار أشارت إدارة بايدن إلى رغبتها في التفوق على الصين في تطوير وإنتاج أشباه الموصلات والحوسبة الكمومية والذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية والصناعة البيولوجية وتقنيات الطاقة النظيفة، ومن أجل القيام بذلك ستحتاج واشنطن إلى بناء القدرات المحلية في كل المجالات والحد من قدرة الصين على التقدم والتفوق، وهكذا فإن البلدان ذات القدرات المتخصصة في تلك المجالات ستصبح عالقة في الوسط بين بكين التي تريد هذه التقنيات وواشنطن التي تريد الحد من وصول الصين إليها.

وعلى نحو مماثل سينطبق مبدأ الكسب على حساب خسارة الطرف الآخر في تحركات بكين الرامية إلى زيادة وجودها العسكري الدولي خارج الإمارات العربية المتحدة، وسبق أن أقامت الصين قاعدة عسكرية في جيبوتي ومنشأة في كمبوديا، وبحسب ما ورد فقد سعت إلى إنشاء مرافق إضافية في غينيا الاستوائية وجزر سليمان وفانواتو وأماكن أخرى، ومثلما فعلت واشنطن في الإمارات فهي ستقف أيضاً في وجه أهداف الصين وتضغط على دول أخرى لكي تجعلها ترفض عمليات البناء والانتشار الصينية، وستكون لعبة الشد والجذب تلك حادة بشكل خاص في جزر المحيط الهادئ حيث يمكن للقوة العسكرية الصينية الموسعة أن تقيد حرية الحركة البحرية الأميركية، وبالفعل تتنافس واشنطن وبكين على ولاءات دول جزر المحيط الهادئ على رغم أن المنافسة في دول مثل جزر مارشال وميكرونيسيا وبابوا غينيا الجديدة قد أسفرت حتى الآن عن حرب مزايدات بدلاً من سلسلة من الخيارات القسرية.

هل من الأفضل الانحياز للولايات المتحدة؟

يجب على الولايات المتحدة أن تسهل على الدول تأييدها في القضايا الأكثر أهمية، ومن المفترض أن تبدأ واشنطن بتقديم بدائل عملية ومنطقية لما تقدمه الصين، فتهديدات الولايات المتحدة مثلاً بمنع الدول من تبادل المعلومات الاستخباراتية إذا استخدمت شركة “هواوي” التي زودت شبكة الجيل الخامس الشاملة بكلفة أقل من أي شيء يمكن أن يقدمه الغرب، كانت غير فعالة، وفي المقابل عندما عملت واشنطن مع الحلفاء لتوفير بدائل معقولة بدأت تلك الدول تعيد النظر، بخاصة وأن الصين أصبحت أكثر عدوانية.

ويذكر أن الجهود المبذولة من أجل اعتماد التنويع بعيداً من الإمدادات الصينية في مجالات تشمل العناصر الأرضية النادرة والألواح الشمسية وبعض المواد الكيماوية لن تكون مجدية إلا إذا حظيت البلدان بمصادر أخرى متاحة بكلفة معقولة، وفي الواقع لا تستطيع الولايات المتحدة تقديم بدائل لكل ما تصنعه الصين أو تفعله، وفي معظم الحالات لا تحتاج إلى القيام ذلك. وعوضاً من ذلك يجب على واشنطن تحديد المجالات التي تشكل أكبر تهديد للأمن القومي والتعاون بسرعة مع الشركاء من أجل تطوير البدائل، وكذلك يتعين على الولايات المتحدة أن تسعى قدر الإمكان إلى تجنب مطالبة الدول بإضعاف علاقاتها الاقتصادية مع الصين.

في بعض الأحيان سيكون القيام بذلك أمراً لا مفر منه، كما هو الحال عندما تنظم واشنطن مثلاً تحالفاً في مجال إنتاج أشباه الموصلات أو تدفع الحكومات الأخرى إلى فرض عقوبات على بكين بسبب انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها، لكن يجب أن تتدخل تلك التحالفات بأقل درجة ممكنة، فالولايات المتحدة لن تكسب سوى عدد قليل من الحلفاء إذا عرضت تجارة البلدان الأخرى واستثماراتها مع الصين لخطر كبير.

وفي منحى مقابل ومن خلال كسب دعم الأصدقاء والحلفاء في شأن ضوابط التصدير واستعراض الاستثمار الخارجي وتنويع سلسلة التوريد وتشعب التكنولوجيا، فإن القليل يحقق الكثير [القليل يصبح مفعوله أكبر].

أخيراً، إذا أرادت واشنطن من الدول أن تقيم شراكة معها وتقف في وجه بكين فعليها أن تظهر حضوراً والتزاماً أكبر، فقد تكون الدول على استعداد لتحمل الكلف وخطر إبداء الصين رد فعل انتقامي فتقرر إقامة شراكة مع الولايات المتحدة، ولكن شرط أن تدعمها واشنطن وتنحاز إليها في قضايا أخرى.

وفي المقابل فإن الإحساس بأن الولايات المتحدة ستكون غائبة أو غير ملتزمة أو غير كفوءة عندما يغدو الوضع صعباً، سيجعل تلك الدول أكثر ميلاً إلى التماشي مع تفضيلات الصين أو الرضوخ لها ببساطة، لذا يجب على الولايات المتحدة الاعتماد على المشاركة الدبلوماسية المستمرة والاتفاقات التجارية والالتزامات الدفاعية المتكررة والحملات العسكرية والمعونات الإنمائية المكثفة، لا سيما في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، من أجل طمأنة تلك الدول التي تشك في استمرار القوة الأميركية وتقلق في شأن جبروت الصين.

لا يمكن للبلدان أن تحصل على كل شيء في الوقت عينه لذا حان وقت الاختيار، وسيتعين على الدول أن تقرر ما إذا كانت ستدعم، أو تتظاهر بأنها تدعم، واشنطن أو بكين، وعوضاً من طمأنة العواصم بأنها لن تضطر إلى مواجهة خيار مماثل ينبغي قبول هذا الواقع ومساعدة العواصم الأجنبية في اتخاذ القرارات الصحيحة.

ريتشارد فونتين

اندبندت عربي