مثَّلت جولة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إلى دول الخليج الثلاث، السعودية وقطر والإمارات، في منتصف يوليو/تموز 2023، نقلة نوعية في شبكة تحالفات تركيا الدولية. لقد دشنت تلك الجولة عهدًا جديدًا من التعاون الإقليمي بهدف بناء تحالفات جديدة في الشرق الأوسط، وربما تمثل نواة لنظام إقليمي جديد في المستقبل. قد يكون من المبكر الحكم على تلك الجولة بأنها بداية عهد جديد، إلا أن نتائج الجولة وطبيعة الاتفاقات التي وقِّعت خلالها وشملت قطاعات إستراتيجية مهمة، تفيد بأنه سيكون هناك تعاون طويل الأمد في مجالات الطاقة والدفاع والاستثمار والبنية التحتية. وهذه كلها قطاعات إستراتيجية يمكن أن يُعاد على أساسها رسم خريطة التحالفات في الشرق الأوسط.
تقدم هذه الورقة قراءة في زيارة أردوغان الخليجية وتستعرض ما حملته من أوجه التعاون في مختلف المجالات. كما تحلِّل انعكاسات نتائج الزيارة على طبيعة التحالفات الإقليمية، التي شهدت تغيرات جوهرية خلال العقد الماضي. وتستشرف إمكانية تشكيل نواة لنظام إقليمي جديد، لاسيما في ظل فشل النظام العربي الذي فقد صلاحيته منذ احتلال العراق للكويت وما تلاه من أحداث الربيع العربي.
طبيعة التحالفات في العقد الماضي
من أهم ما ميز العقد الماضي التغير السريع للتحالفات والمحاور الإقليمية. في هذا السياق، شهدنا صعود دول مثل الإمارات وقطر للعب أدوار إقليمية مؤثرة ومنافسة القوى التقليدية مثل السعودية ومصر وإيران. وقد استطاعت كلتا الدولتين أن تحوز قدرات جيوسياسية غير تقليدية، مستفيدتين من تبدل مفهوم القوة وأدواتها. فالمعايير التقليدية للقوة مثل الثقل السكاني والمساحة الجغرافية وحجم الجيوش لم تعد كافية للهيمنة والتأثير الإقليمي. وباتت أدوات مثل الملاءة المالية والتأثير الإعلامي والتحديث التقني في المجالات العسكرية والتحكم في المجموعات المسلحة وشركات الأمن الخاصة هي الأكثر تأثيرًا وقدرة على تشكيل الأوضاع الجيوسياسية، لاسيما في حقبة ما بعد الحروب التقليدية.
عملت تلك الدول على ملء الفراغ الذي خلَّفه تراجع أوزان وأدوار القوى التقليدية الأخرى بسبب أزماتها الاقتصادية وتخلفها في مجال التحديث التقني وغيرها من عوامل الضعف، إلى جانب انشغالها بمعارك أخرى داخلية، مثل مصر، وخارجية، مثل السعودية. ويمكن للاتفاق السعودي-الإيراني الأخير أن يشكِّل بداية حقبة لخفض حدة التوتر في المنطقة وعقد تفاهمات حول نفوذ إيران الإقليمي، لاسيما مع تراجع مستوى الانخراط الأميركي في قضايا الشرق الأوسط وتعاظم اهتمام واشنطن بمنطقة بحر الصين الجنوبي(1).
وبالرغم من التوافق المصري/السعودي/الإماراتي على ترتيب أوضاع المنطقة في أعقاب الربيع العربي، إلا أنه كانت هناك عدة اختلافات في وجهات النظر بين تلك الدول، لاسيما على القيادة وعلى كيفية التعامل مع قضايا مثل ليبيا وسوريا، وحتى سد النهضة الإثيوبي والتعامل مع منطقة القرن الإفريقي. وقد دفعت تلك الاختلافات إلى إعادة النظر في التحالفات القائمة، وكانت تركيا هي البديل الذي يمكن أن يمثل حجر الزاوية في موازين القوى الجديدة. من ثم سعى الكثير من دول المنطقة إلى إعادة ضبط العلاقة مع أنقرة، لاسيما مع تحلي تركيا بالمزيد من الواقعية السياسية وتغليب المصالح على الاعتبارات الأيديولوجية التي أسهمت في السابق في احتداد المنافسة مع دول الإقليم، بما أدى إلى تقارب في وجهات النظر وإعادة ضبط الطموحات في نطاق الإمكانات. وقد أدت هذه المراجعات إلى إفساح المجال للتعاون بدلًا من الصراع الذي لم يسفر عن مهيمن إقليمي بارز خلال العقد الماضي(2).
ولقد أثبتت تركيا أنها لاعب مهم في القضايا الإقليمية، لاسيما بعد استخدامها لقوتها الصلبة في بعض الصراعات بعد انتهاء فاعلية إستراتيجية تصفير المشكلات. ثم تمكنت من زيادة تأثيرها باستخدام قوتها الناعمة وجاذبية نموذجها السياسي والأيديولوجي، وكفاءة تصنيعها العسكري الذي أدى إلى قلب الموازين في عدد من الصراعات في المناطق الممتدة من أذربيجان وأوكرانيا حتى ليبيا والصومال. لذلك كانت الواقعية السياسية للقوى الإقليمية بإعادة ضبط إستراتيجياتها نحو التعاون بدلًا من الصراع، والبناء على المشتركات، وعدم الدخول في صراعات صفرية لم تخلِّف غير الخسائر المتبادلة.
جولة أردوغان الخليجية: قراءة في النتائج
أثبتت حروب السنوات الأخيرة أهمية الأسلحة غير التقليدية في حسم الصراعات حول العالم، وعلى رأسها الطائرات المسيرة والصواريخ ذاتية التوجيه. وباتت كل من الإمارات والسعودية تضع على رأس أولوياتها حيازة تلك الطائرات وامتلاك تقنيات تشغيلها وتطويرها، وهو ما وجدته لدى تركيا. فتركيا تعد واحدة من أسرع الدول نموًّا في مجال التسليح العسكري، وأكثرها تقدمًا في مجال الطائرات المسيرة، كما استطاعت أن تطور صواريخ كروز محمولة على تلك الطائرات. يضاف إلى ذلك تقدمها في تطوير مقاتلات تقليدية بدون طيار من طراز كيزيل إلما (Kizil elma). كما أدركت تلك الدول أهمية التسارع في تقنيات الذكاء الاصطناعي ودوره في الصناعات الدفاعية، وهو ما خطت فيه تركيا كذلك خطوات كبيرة. بناء على ذلك، تعتبر الشراكة بين الجانبين مثمرة على مختلف الأصعدة، لاسيما مع استعداد أنقرة لنقل التقنية وتوطين تلك الصناعة في دول الخليج، والتعاون المشترك على تطويرها.
في هذا السياق، قوبل الطلب الخليجي على تلك التقنيات برغبة تركيا في زيادة صادراتها وحاجتها إلى تدفقات مالية، فأثمرت زيارة أردوغان الأخيرة عن صفقات عسكرية هي الأكبر في تاريخ الصناعات الدفاعية التركية، بحسب رئيس شركة بيرقدار، خلوق بيرقدار، الرئيس التنفيذي لشركة بيرقدار. فقد صرَّح بيرقدار بأن السعودية وقَّعت اتفاقًا لتحسين أداء الطائرات المسيرة “أكنجي 2” ذات المدى المتوسط والتحمل طويل الأمد، إلى جانب عدد آخر من اتفاقيات التعاون العسكري. وجاء في تصريحه أيضًا أن هذه الاتفاقيات تشمل نقل التقنية والإنتاج المشترك من أجل التقدم في الصناعة عالية التقنية وتعزيز القدرات التصنيعية في كلا البلدين. وأكد بيرقدار أن السعودية “أعربت عن اهتمامها ببناء خط إنتاج للطائرات المسيرة في جدة للإنتاج الكثيف للمسيرات التركية، وأنها ستقوم بشراء كميات كبيرة من الذخيرة الذكية والشحنات العسكرية الأخرى من تركيا بالإضافة إلى إنتاجها محليًّا في المستقبل”(3).
وسيؤدي نقل التقنية إلى إحداث نقلة في الصناعات الدفاعية السعودية، كما ستزيد من عائدات صناعة الدفاع التركية. فقد حصلت شركة بيرقدار على 75% من أرباحها من عمليات التصدير منذ إنشائها عام 2003، وفي العام 2022 تمكنت من تصدير ما قيمته 1.18 مليار دولار بأرباح وصلت إلى 1.4 مليار دولار. وقد عقدت خلال السنوات الماضية اتفاقات مع 30 دولة لتصدير مسيَّراتها بيرقدار TB2 المقاتلة. كما عقدت اتفاقات مع ست دول أخرى لتصدير المسيرة بيرقدار أكنجي المقاتلة(4). وطائرات أكنجي هي طائرة بدون طيار متعددة الاستخدامات قادرة على حمل حمولات مختلفة ومجهزة بإلكترونيات طيران ذكاء اصطناعي مزدوجة. وتمتلك القدرة على أداء عمليات مماثلة للطائرات المقاتلة، وتتميز بأنظمة دعم إلكترونية وأنظمة اتصالات بالأقمار الصناعية المزدوجة، ورادار جو-جو، ورادار تفادي الاصطدام. كما يمكن نشرها في مهام هجوم جو-أرض وجو-جو، بما يتيح ديناميكية تكتيكية كطائرات مساندة للمقاتلات التقليدية أو لتنفيذ مهام منفردة(5). ويشتمل العقدان على توطين صناعة الطائرات المسيرة والأنظمة المكونة لها داخل المملكة، بمشاركة الشركات الوطنية المتخصصة، إضافة إلى تقديم خدمات التدريب والمساندة، وتطوير قدرات التوطين من خلال نقل التقنية والمعرفة، وتدريب الكوادر السعودية. ويتوقع أن يسهم ذلك في تعزيز القدرات المحلية وخلق العديد من فرص العمل والتوظيف في المملكة. ويعزز هذان العقدان سياسة التوطين السعودية في قطاع الصناعات العسكرية ومن شأنهما الإسهام في تحقيق أهداف رؤية المملكة بتوطين ما يزيد عن 50 في المئة من إجمالي الإنفاق العسكري بحلول العام 2030(6).
إلى جانب ذلك، وقَّعت السعودية وتركيا على ثلاث مذكرات تعاون في مجالات الطاقة والاستثمار المباشر والتعاون الإعلامي، كما اتفقا على خطة تنفيذية للتعاونِ في مجالات القدرات والصناعات الدفاعية والأبحاث والتطوير إلى جانب عقدين مع شركة “بايكار للتكنولوجيا” للصناعات الدفاعية والجوية، لاسيما الطائرات المسيرة(7). وستستفيد السعودية من خلال شراكاتها العسكرية مع تركيا بتخفيف القيود المفروضة عليها لشراء السلاح. فإلى جانب توطين التقنية التركية والتعاون في إنتاج المعدات والذخائر، فإن تركيا لن تشترط إعادة بيع معداتها أو تصنيعها المشترك مع طرف ثالث كما يحدث مع شركات البلدان الأخرى(8).
إلى جانب كونها تمثل شراكة طويلة الأمد في المجالات العسكرية والدفاعية، تمثل الاتفاقيات التركية-السعودية أرضية ملائمة لتقريب وجهات النظر بشأن القضايا الإقليمية. ويمكن فهم اتفاقية التعاون الإعلامي في هذا الإطار، بما يعني أن هناك نية لتنسيق الجهود فيما يتعلق بالقوى الناعمة وعدم إثارة القضايا الإشكالية والخلافية التي باعدت بين الدولتين في السابق. كما أن الاستثمار في مجال الطاقة من شأنه التقريب بين سياسات الدولتين في ذلك القطاع الحساس، لاسيما مع ربط عمليات الإنتاج بالتصنيع والتصدير لأوروبا. في هذا المجال، سيعمل البلدان على استقرار أسواق الطاقة والعمل على تحقيق النمو الاقتصادي لكلا الجانبين والربط الكهربائي والعمل على الابتكار والتطوير في مجالات الطاقة النظيفة وتخفيض الانبعاثات الكربونية وتطوير الاعتماد على الهيدروجين، إلى جانب الطاقة النووية. إضافة إلى الصناعات العسكرية والطاقة والإعلام، اتفق البلدان على التعاون، بإشراك وتشجيع القطاع الخاص، في مجالات الاستثمار المباشر والبنية التحتية والإعمار والتقنيات الرقمية، وكذلك التعاون على إحلال السلام في المنطقة وحول العالم(9).
في هذا المناخ الجديد، يُتوقع أن تسهم شركات المقاولات التركية الخاصة في عمليات البناء الواسعة التي يجري تنفيذها في مدينة نيوم السعودية ضمن “رؤية 2030″، والتي تصل ميزانيتها إلى 500 مليار دولار. وقد بلغ حجم المشروعات التي نفذتها تركيا في السعودية خلال العشرين عامًا الماضية 25 مليار دولار.
على المستوى الخليجي، وبالإضافة إلى الاتفاقيات التركية-السعودية والشراكة الإستراتيجية التركية-القطرية، فإن الإمارات كذلك تعمل على تطوير تعاونها وشراكتها مع أنقرة. وقد جاءت زيارة أردوغان الأخيرة لتعزيز تلك العلاقات ودفعها نحو الشراكة الإستراتيجية، فوقَّع البلدان خلالها مذكرات تفاهم واتفاقيات بقيمة 50.7 مليار دولار(10). وتشمل اتفاقيات التعاون الإماراتية-التركية السابقة عدة مجالات. فالاستثمارات الإماراتية في تركيا تغطي قطاعات المصارف وتشغيل الموانئ والسياحة، وقد بلغ إجمالي الاستثمارات الإماراتية في هذه القطاعات في نهاية العام 2020 نحو 18.4 مليار درهم. بينما بلغ حجم الاستثمارات التركية في دولة الإمارات حتى بداية العام 2020 أكثر من 1.3 مليار درهم. وتركز الاستثمارات التركية على قطاعات البناء والتشييد والعقارات والقطاع المالي والتأمين والصناعة وتكنولوجيا المعلومات(11). وفي شهر يونيو/حزيران 2023، عززت الكويت دفاعات جيشها عبر شراء مسيرات من طراز “بيرقدار تي بي 2” في صفقة بلغت قيمتها 367 مليون دولار(12).
دلالات الاتفاقات التركية-الخليجية وآفاقها المستقبلية
بناء على هذه النتائج، يمكننا القول: إن جولة الرئيس التركي الخليجية قد فتحت فصلًا جديدًا من العلاقات التركية-الخليجية. فبعد سنوات من الخلاف والتوتر والتنافس إلى حد الصراع في بعض الساحات مثل ليبيا وسوريا واليمن والسودان، انتقلت العلاقة إلى التطبيع ثم إلى الشراكة الإستراتيجية. فقد أدرك الجميع أهمية التعاون وضرورة طي صفحة الماضي والانتقال إلى مرحلة جديدة من الشراكة والتكامل.
على الصعيد الاقتصادي، وبالنظر إلى حجم الاتفاقات الأخيرة، نحن بصدد شراكة إستراتيجية طويلة الأمد في مختلف المجالات الحيوية، تربط شرايين الطاقة والأمن والإعمار والاستثمار بأمن الطرفين. فشروط التكامل تبدو متوافرة، مع تمتع تركيا بالتقنيات العسكرية والجيش الضخم والموقع الإستراتيجي الذي يربط بين أوروبا وآسيا، وتمتع دول الخليج بالقدرات المالية والاستثمارية العالية مع رؤى وطموحات تنموية متوسطة وبعيدة الأمد. كما أن تمتين تلك العلاقة يمكن أن يخفف من اعتماد دول الخليج على الغرب، خاصة في الجوانب الأمنية. فكلا الجانبين له سوابق في تخلي الغرب عنه في منعطفات مهمة. فدول الخليج ترى أن الغرب تخلى عنها حين تصاعد التوتر بينها وإيران، وتركيا تعتبر امتناع الولايات المتحدة عن تزويدها بمقاتلات إف-35 وتخاذل الموقف الغربي عامة إزاء محاولة الانقلاب سنة 2016 طعنة في الظهر.
يستطيع الطرفان التعاون في مجال الطاقة لتأمين إمداداتها لأوروبا كبديل عن الطاقة الروسية. وكذلك التعاون لتطوير البنية التحتية للطاقة النظيفة، استعدادًا لحقبة ما بعد النفط في الخليج، واستجابة لمعايير البيئية العالمية طبقًا لاتفاقية باريس للمناخ التي اشترطت الوصول إلى صفر انبعاثات كربونية بحلول العام 2050. لذلك، يعد تصدير الطاقة النظيفة والاستثمار في الطاقة الشمسية وتصديرها لأوروبا عبر تركيا مشروعًا إستراتيجيًّا طويل الأمد، وبديلًا للطاقة الروسية لتركيا على المدى القريب والمتوسط. فتركيا تعمل على تنويع مصادر الطاقة، التي تعد إحدى أبرز الثغرات في بنية اقتصادها وميزانها التجاري.
إضافة إلى ذلك، تسعى تركيا لفتح أسواق جديدة لسيارتها الكهربائية من طراز “توغ”، وتطوير سلسلة من الطرازات الأخرى والتقدم في صناعة السيارات الكهربائية التي تعتبر سيارات المستقبل، وتعد منطقة الخليج واحدة من أهم الأسواق في تلك الصناعة. كما تمثل تركيا بموقعها وطبيعتها وبنيتها التحتية مكانًا مثاليًّا للاستثمار الخليجي في قطاعات التجارة والصناعة والسياحة والخدمات اللوجستية، وتستطيع أن تستقطب رؤوس الأموال الخليجية التي اتجهت سابقًا إلى مناطق تقليدية في أوروبا وآسيا وإفريقيا.
على الصعيد الأمني والعسكري، يستطيع الطرفان، الخليجي والتركي، إعادة ترميم بنية النظام الإقليمي، والعمل معًا على ضبط وتيرة الصراعات، وتطوير التعاون العسكري لضمن الاستقرار في الإقليم. فمع تراخي الاهتمام الأميركي بالمنطقة يمكن للقدرات العسكرية التركية أن تملأ أي فراغ، خاصة مع وجود قاعدة عسكرية في قطر. ويمكن للشراكة الخليجية-التركية أن تتحول إلى ركن أساسي من أركان معادلة الأمن الإقليمي من أجل ضبط الصراع في الشرق الأوسط. فبالرغم من محاولة تطبيع العلاقات بين الرياض وطهران، إلا أن وتيرة الصراع بحاجة إلى معادلة جديدة رادعة تمنع أي طرف من الوقوع في إغراء القوة، خاصة مع التقدم الملحوظ في مجال الصناعات العسكرية الإيرانية وطموحات طهران لتوسيع مجال هيمنتها الإقليمية. كما أن التعاون في تطوير الصناعات الدفاعية سيفتح أمام دول المنطقة الباب لكسر الاحتكار الغربي والشرقي لصناعة السلاح. ومع تحول أنماط الحروب من الحروب التقليدية الشاملة والمباشرة إلى الحروب بالوكالة عبر الميليشيات والشركات الأمنية الخاصة، فإن تطوير تقنيات الطائرات المسيرة بما يلائم حاجة المنطقة، من شأنه أن يؤدي إلى تعزيز الأمن الخليجي بتكلفة مالية وبشرية منخفضة.
وتمثل الشراكة التركية-الخليجية عامل جذب للدول الأخرى للدخول في ذلك التحالف الإقليمي، لاسيما مع تطبيع العلاقات بين تركيا ومصر. ومن شأن تلك الشراكة إذا تطورت إلى تحالف إقليمي أوسع أن تعزز التعاون في منطقة شرق المتوسط في مجالات الطاقة والملاحة. أما في منطقة القرن الإفريقي، فيمكن لتركيا، بما تملكه من استثمارات ضخمة في إثيوبيا، أن تضغط على أديس أبابا من أجل التوصل إلى اتفاقات مرضية للجانبين، المصري والإثيوبي، في موضوع سد النهضة.
خاتمة
تمثل الشراكة الخليجية-التركية نقطة انطلاق لإنشاء منظومة إقليمية مشتركة وتعزيز التعاون في مجالات الاقتصاد والاستثمار والطاقة والأمن والصناعات الدفاعية، ويمكنها أن تشكِّل نواة لتعاون إقليمي أوسع بضم دول وقوى إقليمية أخرى مثل مصر وإيران، بما يسهم في تقريب وجهات النظر وتخفيض وتيرة الصراعات وفتح مجالات التعاون الإقليمي. ومع التقارب الملحوظ بين القاهرة وأنقرة، يمكن لهذه المعادلة الناشئة أن تكبح اندفاعة بعض الدول العربية نحو إسرائيل، التي قدمت نفسها محورًا للتحالفات الإقليمية في حقبة ما بعد الربيع العربي.
وإذا تحققت مشروعات الربط الطاقي بين الخليج وأوروبا عبر تركيا، فإن دولًا مثل العراق وإيران يمكن دمجها في إطار منظومات تعاون جماعي لنقل الطاقة إلى أوروبا، خاصة مع وجود بنية تحتية مجهزة لتخزين ونقل الغاز والنفط عبر شبكة الأنابيب داخل تركيا وحولها، ووجود منظومة أنابيب إقليمية وعابرة للقارات يمكن لدول الخليج ضخ مستخرجات الطاقة إليها. ويمكن للتعاون في مجالات التصنيع الكيماوي أن يطور صناعة البتروكيماويات ويعزز عمليات التصدير والاستثمار المشترك في تلك الصناعات الإستراتيجية. وسيسمح التعاون في مجال التصنيع العسكري بتوطين بعض التقنيات وتحقيق الاكتفاء الذاتي لدول المنطقة من التسليح الخفيف والطائرات المسيرة بما تحتاج إليه من ذخائر. هذا النوع من التعاون سيضيف بُعدًا إستراتيجيًّا للعلاقات بين بلدان العالم الإسلامي، ويمكن أن يمثِّل نواة لنظام إقليمي جديد يمتد من باكستان مرورًا بالخليج العربي وانتهاء بتركيا.
مركز الجزيرة للدراسات