نقرأ ونسمع كثيراً عن تنبؤات وتوقعات بقربِ اندلاعِ حربٍ عالمية ثالثة، وأن العالم مقبل على حرب كونية أخرى بين الدول العظمى، ستستخدم فيها أسلحة الإبادة والدمار الشامل، من سلاح نووي وغيره. وقد زادت مثل هذه الأقاويل، بشكل خاص، بعد اندلاع الحرب الأوكرانية. لكن من المؤكد أن من يروجون لمقولة اندلاع حرب عالمية ثالثة لا يستندون إلى أي حقائق ملموسة، ولا يملكون أي معلومات، إنما هم يطلقون العنان لخيالهم الواسع. أقوالهم لا تؤدي إلا إلى بث الخوف والرعب في قلوب البشر. وقد سادت من قبل، حالة شبيهة من الذعر، خلال أزمة الصواريخ الكوبية بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، مطلع الستينيات.
من الحقائق الثابتة أن عالمنا ما زال يعيش في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، في ظل هيمنة نظام عالمي غربي وضعت أُسسَه الدولُ المنتصرة. جاء هذا النظام استناداً إلى تفاهمات بين الولايات المتحدة، وبريطانيا، والاتحاد السوفياتي، توصلت إليها من خلال عدد من المؤتمرات كان من أهمها مؤتمرات «طهران» و«يالطا» و«بوتسدام».
استبدال الحروب الشاملة بحروب محدودة: كان من أهم المبادئ التي استندت إليها الدول المنتصرة، في وضع التفاهمات فيما بينها، مبدأ تجنب قيام حروب عالمية شاملة، كالحربين الأولى والثانية، التي كانت حروباً مكلفة، على جميع الأصعدة، عانى منها المنتصرون بدرجة معاناة المهزومين.
أما المبدأ الثاني، الذي استندت إليه التفاهمات الضمنية، فهو استبدال الحروب الشاملة بحروب محدودة، وحروب بالوكالة.
وعلى هذا الأساس أقام المنتصرون ما سُمي بـ «النظام العالمي» الذي ما زال مهيمناً لغاية الآن، ضمنوا من خلاله هيمنة الغرب على العالم، من خلال «منظمة الأمم المتحدة».
قواعد نظام ما بعد الحرب: حضر مؤتمرات الدول المنتصرة، في الحرب العالمية الثانية، الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، ورئيس وزراء بريطانيا وينستون تشرتشل، والرئيس السوفياتي جوزيف ستالين. وكان من بين أهداف اللقاءات توزيع غنائم الحرب فيما بينها. فقد اتفقوا في طهران على منح الاتحاد السوفياتي السيادة على البلطيق، ورومانيا، وبولندا. أما في «يالطا» فناقشوا تقسيم أوروبا، بما فيها ألمانيا، إلى مناطق نفوذ بينهم.
وفي طهران أيضاً، تبنى المنتصرون فكرة إقامة منظمة دولية تحل محل «عصبة الأمم». وفي يالطا، كان الهدف الأهم هو «تنظيم حالة السلم ما بعد الحرب» وإعادة تأسيس دول أوروبا التي مزقتها الحرب. أما في «بوتسدام» في ألمانيا، بعد استسلامها، فقد اتفق المنتصرون على كيفية إدارة ألمانيا، وأيضا إنشاء نظام ما بعد الحرب، وقضايا معاهدة السلام، والتصدي لآثار الحرب، وإقامة «سلام عادل ودائم» بينهم.
الغرب الرأسمالي قد أتاح للصين، بعد «ماو» أن تتحول إلى واحدة من أكبر وأغنى وأقوى دول العالم. فمَن ذاك العبقري الذي يستطيع أن يدّعي الآن أن هناك حرباً عالمية ثالثة ستشتعل بين الصين والولايات المتحدة؟
وسمح المنتصرون في الحرب العالمية الثانية لأنفسهم باستمرار التنافس الاستعماري بينهم على النفوذ في الدول الضعيفة، للاستحواذ على ثرواتها. والأهم أيضاً أنهم تفاهموا على استمرار المؤامرات على بعضهم البعض. وهو ما أُصطلح على تسميته، بـ «الحرب الباردة» وهي طريقة مبتكرة لإدارة الصراعات الدولية عن طريق حروب الجواسيس، وسياسات التخريب، والحروب بالوكالة، والحروب الاقتصادية، بشرط أن لا تصل الأمور إلى حد التصادم المسلح الشامل. أما النزاعات المسلحة الصغيرة، التي شهدها العالم منذ ذلك، والتي يصل عددها إلى 60 حرباً، فهي امتداد للحرب العالمية الثانية، تم خوضها نيابة عن الدول الكبرى.
من بين أهم المبادئ التي اتفقت عليها الدول المنتصرة، مبدأ «التعايش السلمي» بين المعسكر الغربي الرأسمالي، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والمعسكر الشرقي الشيوعي، بقيادة الاتحاد السوفياتي. وكانت الصين آخر الدول الكبرى التي انضمت إلى «النظام العالمي» وقبلت بمبدأ «التعايش» مع الغرب الرأسمالي.
وقد جاءت موافقة مؤسس الصين الحديثة، «ماو تسي تونغ» بالتخلي عن سياسة «عدم التعايش» خلال زيارة الرئيس الأمريكي الأسبق، «ريتشارد نيكسون» إلى بكين عام 1972. وكان من نتائج تلك الزيارة انتهاء «حرب فيتنام» التي كانت عبارة عن حرب بـالوكالة، نيابة عن الصين والولايات المتحدة.
لقد وضعت موافقة «ماو» على مبدأ «التعايش السلمي» مع الرأسمالية حداً للحروب الطويلة التي خاضتها بلاده مع الولايات المتحدة، لأكثر من عشرين عاماً. كان أولها الحرب الكورية التي امتدت 5 سنوات، (1953-1958) ثم حرب فيتنام، التي امتدت لعشرين عاماً، (1955-1975).
وهكذا أدرك «ماو» بحسه التاريخي أن الحل مع الغرب الرأسمالي لن يكون حلاً عسكرياً، وأيقن أن الدولة التي أقامها لن تعمر طويلاً، لو استمرت سياسة «عدم التعايش السلمي» التي انتهجها. فلجأ إلى تغيير قناعاته، أواخر حياته، وضم بلاده إلى ركب «التعايش» قبيل وفاته بأربع سنوات.
وعليه يكون الغرب الرأسمالي قد أتاح للصين، بعد «ماو» أن تتحول إلى واحدة من أكبر وأغنى وأقوى دول العالم. فمَن ذاك العبقري الذي يستطيع أن يدّعي الآن أن هناك حرباً عالمية ثالثة ستشتعل بين الصين والولايات المتحدة؟ فهل انتهت الحرب العالمية الثانية حتى تبدأ الثالثة؟
القدس العربي