لماذا تشهد الحرب الروسية – الأوكرانية تصعيدًا عسكريًا خلال الصيف الجاري؟

لماذا تشهد الحرب الروسية – الأوكرانية تصعيدًا عسكريًا خلال الصيف الجاري؟

تشهد الحرب الروسية-الأوكرانية في الآونة الأخيرة تصعيدًا ملحوظًا، وإن كان قد انعكس في مظاهر مختلفة بخلاف التحركات الميدانية لتنفيذ الهجوم المضاد الأوكراني لاستعادة بعض الأراضي التي سيطرت عليها روسيا، ومن أبرز هذه المظاهر التصعيدية التوترات والاشتباكات المتصاعدة في البحر الأسود، والمحاولات الأوكرانية لاستهداف العمق الروسي، وهو ما يطرح تساؤلات ليس فقط حول دلالات العمليات وطبيعة الأهداف والأسلحة المستخدمة، ولكن أيضًا حول دلالات التوقيت، ولماذا يشهد مسار العمليات تصعيدًا ملحوظًا في هذا التوقيت؟

ملاحظات رئيسية
تشير العمليات العسكرية التي تشهدها المرحلة التصعيدية الحالية في الحرب الروسية-الأوكرانية إلى عدد من الملاحظات، من بينها:

1- استهداف البنية التحتية الحيوية: شهدت الشهور الأخيرة تصعيدًا في استهداف البنية التحتية الحيوية، وبشكل متنوع، خاصةً على الجانب الأوكراني. فعلى سبيل المثال، اتهم الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، الروس بالوقوف وراء تدمير سد “نوفا كاخوفكا” في يونيو 2023، والذي أسفر عن مقتل 50 شخصًا، وإغراق مساحات شاسعة من الأراضي، وقُدّرت الأضرار الناتجة عن تلك العملية بحوالي 1.2 مليار يورو. كما ركزت موسكو منذ انسحابها من اتفاق الحبوب على استهداف البنية التحتية لتخزين وتصدير الحبوب في أوكرانيا، وشنت قصفًا مكثفًا على الموانئ ومخازن الحبوب.[1] ومع اقتراب فصلي الخريف والشتاء من المتوقع أن تُعيد روسيا استهداف البنية التحتية لقطاع الطاقة الأوكراني، وهو ما تحاول كييف الاستعداد له، حيث سبق وحاولت القوات الروسية تدمير شبكة الطاقة الأوكرانية بضربات مكثفة خلال خريف 2022 وشتاء 2023، ما أدى إلى انقطاعات متكررة في التيار الكهربائي.[2]

2- تصعيد عملياتي في البحر الأسود: شهد البحر الأسود، منذ إلغاء اتفاق الحبوب في يوليو الماضي، تصعيدًا ملحوظًا بين الطرفين الروسي والأوكراني، بدءًا من مسارعتهما بإعلان السفن المتوجهة إلى موانئ الطرف الآخر أهدافًا مشروعة، مع التهديد باستهداف السفن المدنية باعتبارها ناقلات محتملة لأسلحة ومعدات عسكرية. كما استهدف الطرفان موانئ كل منهما، وركزت موسكو على الموانئ والبنية التحتية المرتبطة بالحبوب، مثل الهجمات على مدينة أوديسا بجنوب أوكرانيا التي ألحقت أضرارًا بالميناء البحري ومنشآت تخزين الحبوب. وتشير بيانات الحكومة الأوكرانية إلى نجاح الهجمات الروسية في تدمير أكثر من 26 منشأة للبنية التحتية للموانئ وخمس سفن مدنية، فضلًا عن 220 طن من الحبوب، منذ انسحاب موسكو من اتفاق نقل الحبوب عبر البحر الأسود منتصف الشهر الماضي وحتى مطلع أغسطس الجاري.[3]

3- نقل العمليات العسكرية إلى العمق الروسي: بالتوازي مع المصاعب التي يواجهها الهجوم الأوكراني المضاد وتباطؤه وفشله في تحقيق الأهداف التي كانت تأمل كييف وحلفائها في الوصول إليها حتى الآن، عملت أوكرانيا على نقل العمليات العسكرية إلى العمق الروسي لعدة أسباب من بينها تخفيف الانتقادات الموجهة للهجوم المضاد، وإثارة القلق والمخاوف الشعبية في روسيا بشأن الأمان وتأثير الحرب عليهم، فضلاً عن التأثيرات الدعائية لتلك الهجمات، حيث وصلت كييف إلى استهداف العاصمة الروسية موسكو بمُسيراتها سواء باستهداف منشآت عادية أو أبراج تجارية بحي الأعمال أو حتى الوصول لمبنى الكرملين نفسه، وأبلغ مسئولون روس خلال الثلاثة أشهر الماضية عن محاولات متكررة لاستهداف منشآت روسية بطائرات مسيرة.[4] فيما تتوعد أوكرانيا روسيا بالمزيد من الهجمات على أراضيها، ونقل الحرب إلى داخل روسيا باعتبارها “عملية حتمية وطبيعية وعادلة تمامًا”، على حد تعبير الرئيس الأوكراني.[5]

ولكن ذلك الأمر يواجه تحديات تتعلق برغبة الحلفاء الغربيين لأوكرانيا في عدم توريطهم بشكل مباشر في الصراع مع روسيا، واشتراطهم عدم استخدام الأسلحة التي يدعمون بها كييف في ضرب أهداف داخل روسيا، واستخدامها للدفاع عن نفسها في مواجهة القوات الروسية وتحرير أراضيها فقط، حيث يخشى حلفاء الناتو من أن تستخدم روسيا استهدافها بأسلحة غربية كذريعة للتصعيد. وعلى سبيل المثال، سبق وأكد رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيش الأمريكي، الجنرال مارك ميلي، في مايو الماضي، أنه لا ينبغي استخدام أسلحة من الولايات المتحدة على الأراضي الروسية، باعتبار أن تقديم الدعم والمساعدة لأوكرانيا لا ينفي أن تلك الحرب بين روسيا وأوكرانيا وأن الولايات المتحدة والناتو ليسوا أطرفًا مباشرة في حربٍ ضد روسيا.[6]

4- استخدام مكثف للطائرات والزوارق المسيرة: لعبت الطائرات بدون طيار دورًا مهمًا في الحرب الروسية-الأوكرانية منذ اندلاعها العام الماضي، خاصةً المسيرات التركية والإيرانية. ويُلاحظ في مرحلة التصعيد الجارية من الحرب الاستخدام المكثف للطائرات والزوارق المسيرة. فبجانب استخدام الطائرات المسيرة للوصول إلى العمق الروسي واستهداف العاصمة الروسية ومنشآت اقتصادية ومبنى الكرملين نفسه، فإن المسيرات البحرية لعبت دورًا هامًا في التصعيد العسكري في البحر الأسود. ومن المنتظر أن يتزايد الاعتماد على المسيرات بجانب الضربات الصاروخية خلال فصلي الخريف والشتاء للتغلُّب على الصعوبات الميدانية.

دلالات التوقيت
يمكن فهم التصعيد العملياتي الحالي في الحرب الروسية- الأوكرانية من زواية التوقيت عبر الإشارة إلى عدة نقاط تعكس دلالات التوقيت وتطرح تفسيرات مرتبطة بعامل الزمان للتصعيد الجاري في الحرب خلال فصل الصيف، ومنها:

1- الانسحاب الروسي من اتفاق الحبوب: لعل الانسحاب الروسي من اتفاق تصدير الحبوب يُعد المتغير الأبرز والأهم في تفسير التصعيد العسكري الجاري في الحرب الروسية-الأوكرانية، وخاصةً في البحر الأسود، مع تزايد استهداف الموانئ والسفن والبنية التحتية الحيوية المرتبطة بتخزين وتصدير الحبوب، والتهديدات المتبادلة بين الطرفين. وفي حين تبذل أنقرة جهودًا للتواصل مع الأطراف المختلفة من أجل إحياء مبادرة البحر الأسود لنقل الحبوب، يبدو أن موسكو تعمل على إلحاق أكبر أضرار ممكنة بالموانئ والبنية التحتية الأوكرانية قبل أن تنجح تلك الجهود، في ظل احتمالات سعي الدول الغربية لتلبية بعض المطالب الروسية لتأمين عودتها إلى الاتفاق من أجل مواجهة أزمة غذاء عالمية تلوح في الأفق حال فشل تجديد الاتفاق.

2- استغلال العُطلة الصيفية للبرلمانات والحكومات: يُنظر إلى شهور الصيف على أنها فرصة لتحقيق تقدّم والقيام بعمليات تصعيدية واستغلال العطلة الصيفية للبرلمانات والحكومات. فعلى سبيل المثال، بدأ الكونجرس الأمريكي مطلع أغسطس الجاري عطلته السنوية، فيما بدأها البرلمان الألماني في أوائل يوليو الماضي، وكذلك الأمر فيما يتعلق بتركيا التي كانت طرفًا رئيسيًا في اتفاق الحبوب. فضلًا عن العطلة الصيفية للرئيس الفرنسي وحكومته في أغسطس. ورغم أن تلك العُطلة لا توقف الأعمال بشكل كامل، وخاصة المنوطة بها الحكومات، لكنها يُنظر إليها كفرصة وتوقيت يمكن استغلاله للتمتع بقدر أكبر من حرية الحركة قبل عودة حالة النشاط السياسي في الدول الغربية على المستويين التنفيذي والتشريعي.[7]

3- بُطء عمليات التقدم خلال فصل الربيع: اتسم الهجوم المضاد الأوكراني ومحاولة القوات الأوكرانية تحقيق تقدم ميداني واستعادة أراضيها من السيطرة الروسية بالبطء الشديد خلال الشهور الماضية، ولم يحقق نتائج كبيرة، ولم تشهد خريطة السيطرة الميدانية ونسب السيطرة الروسية على الأراضي الأوكرانية المقدرة بالخُمس تقريبًا (17%) تغيرًا كبيرًا[8]، وواجهت القوات الأوكرانية صعوبات في تجاوز وتحطيم خطوط الدفاع والتحصينات الروسية التي تضمنت خنادق مفخخة بالألغام وهياكل دفاعية خرسانية هرمية مضادة للدبابات. ولذلك ربط البعض بين قرار واشنطن تزويد كييف بقنابل عنقودية وبين مخاوف استمرار تباطؤ التقدم الأوكراني. فهناك رغبة في تسريع وتيرة العمليات العسكرية الأوكرانية خلال فصل الصيف، والتصعيد للتغطية على التعثُّر العملياتي خلال فصل الربيع في تحقيق الأهداف التي كان من المأمول تحقيقها بالنسبة لكييف وحلفائها.

4- فشل الطرفين في تحقيق انتصارات كبرى: لم يشهد العام الحالي، ومنذ انتهاء فصل الشتاء وعودة العمليات العسكرية إلى مرحلة النشاط الكامل، تحقيق أي من الطرفين انتصارات كبرى أو تحقيق الهيمنة العسكرية المأمولة أو الاستيلاء على مناطق ذات مزايا تكتيكية أو استراتيجية كبيرة. وبالتالي يحاول الطرفان خلال المرحلة الحالية حشد قواتهما أملًا في تحقيق بعض الانتصارات التي تنعكس إيجابًا على تقييم أداء القوات المسلحة وعلى القناعات الشعبية باستمرار القتال، فضلاً عن حرص كييف على استمرار قناعات حلفائها بضرورة تقديم الدعم وبنتائجه الميدانية.

5- السعي لتحقيق تقدُّم ميداني قبل فصل الشتاء: يسعى الطرفان الروسي والأوكراني إلى تحقيق مكاسب ميدانية وتكثيف الضغط على الطرف الآخر قبل الاضطرار إلى إبطاء العمليات العسكرية بحلول فصل الشتاء بسبب الجليد، فضلاً عن أن أمطار موسم الخريف تتسبب في تحول الطرق غير المُعبّدة إلى طرق طينية، ما يصعّب أيضًا من عمليات التقدم الميداني. ولذلك تأمل كييف تحديدًا في تحقيق تقدم ميداني ما بعد تقدمها الذي حققته في نوفمبر 2022، حينما استعادت مدينة خيرسون الجنوبية ومناطق واسعة في الشمال الشرقي، حتى لا تضطر للانتظار إلى فصل الربيع لعام 2024 من أجل بدء هجوم مضاد آخر بعد تباطؤ العمليات خلال فصلي الخريف والشتاء القادمين.

6- دور محتمل لتمرد “فاجنر” في تصعيد الطرفين: يمكن القول إن تمرد مجموعة “فاجنر” الروسية قد لعب دورًا في تحفيز التصعيد الحالي في مسار العمليات بين روسيا وأوكرانيا. فمن جهة، عزز التمرد من القناعات الغربية بأن التصعيد العسكري ضد موسكو وإنهاك قواتها وحرمانها من تحقيق أهداف عمليتها العسكرية في أوكرانيا مع طول مدة الحرب يعظم الضغوط على النظام السياسي الروسي، ويخلق مشكلات وانقسامات داخلية بمنظومة الحكم، ويساعد على إضعاف الكرملين وزعزعة الثقة السياسية في قدرات بوتين وشعبيته، وزيادة الشكوك الشعبية في جدوى الحرب. وبالتالي تسعى كييف إلى التصعيد، ليس فقط لخلق مزيد من المشكلات داخل الهياكل الروسية، لكن أيضًا تعمل على استغلال الفراغ المُتصوَر الناتج عن انسحاب قوات “فاجنر” من مشهد الحرب، حيث ترى كييف وحلفائها أن تمرد “فاجنر” وانتهاء دورها في العملية العسكرية الروسية من المفترض أن ينعكس سلبًا على القدرات العسكرية الروسية، وهي حالة تأمل كييف في استغلالها قبل أن يتمكن الجيش الروسي من تعويض هذا الدور، وهو ما يفسر الجنوح للتصعيد من الجانب الأوكراني.

ولكن من الجانب الآخر، يهتم الجيش الروسي بتأكيد تماسُكه وعدم تأثُّر قدراته بتمرد “فاجنر” وانتهاء دور مقاتليها في الحرب، وإثبات خطأ التفكير الغربي السالف تناوله، وهو ما يفسر جنوح الجيش الروسي للتصعيد من أجل إثبات القدرة على إلحاق أشد الخسائر بالجانب الأوكراني، ولتكذيب انتقادات مؤسس شركة “فاجنر” الروسية، يفغيني بريغوجين، لقدرات القوات النظامية الروسية ودور وزارة الدفاع وقدرتها على إدارة العملية العسكرية.[9]

7- تصعيد عسكري خلال الخريف: شهد العام الماضي، في الوقت ذاته تقريبًا، تصعيدًا في الحرب الروسية-الأوكرانية، وإن كان قد اتخذ حينها صورة مختلفة بالتركيز على البُعد الميداني والسيطرة والسيطرة المضادة على الأراضي، حيث سبق وشنت القوات الأوكرانية، في أغسطس وسبتمبر 2022، هجومًا مضادًا كبيرًا ضد القوات الروسية، تمكنت خلاله من استعادة آلاف كيلو المترات المربعة من الأراضي في منطقتي خاركيف وخيرسون، وإلحاق خسائر بالقوات الروسية أدت إلى تراجعها وانسحابها من تلك المناطق. وردت حينها موسكو بتصعيدٍ في استهداف البنية التحتية في المناطق الأوكرانية، فضلاً عن التصعيد العملياتي الميداني بعد التراجع والانسحاب.[10]

8- استباق الدعوة لوقف إطلاق النار والتفاوض عقب الهجوم المضاد: مع استمرار الحرب في عامها الثاني، وعجز الطرفين عن تحقيق أهدافهما بشكل كامل، واستنزاف الحرب للقدرات المادية والعسكرية لأطرافها المباشرين وغير المباشرين، يطرح البعض الدعوة لمسار تفاوضي عقب انتهاء مرحلة الهجوم المضاد، رغم التحديات الأخرى التي تعيق قبول كييف وموسكو بالمسار التفاوضي حاليًا، أو على الأقل الدعوة إلى وقف لإطلاق النار. ولذلك يأمل كلا الطرفين في تحقيق أكبر مكاسب ممكنة إذا ما طُرحت فكرة تثبيت مؤقت أو تجميد لخطوط القتال حتى من دون أن ينعكس ذلك على اعترافات شرعية بالسيطرة الميدانية أو تحقيق تسوية سياسية. ولكن على الجانب الآخر، لا يعني استباق تلك الدعوات بالضرورة التصعيد من أجل التهدئة وتحقيق أكبر مكاسب قبل التثبيت المؤقت، بل قد يكون تصعيدًا من أجل دحض دعوات التهدئة، واستمرار الرهان على المسار العسكري. فعلى سبيل المثال، إذا حققت القوات الأوكرانية بعض النجاح الميداني سيشجع ذلك القادة الأوكرانيين على المطالبة بالمزيد من المساعدات لمواصلة التقدم وتحرير أراضيهم بدلًا من الخضوع لخيار التفاوض بما قد يحمله من تنازلات، وسيستغل زيلينسكي تلك المكاسب لإقناع حلفائه الغربيين بقدرة قواته على تحقيق المزيد من التقدم واستعادة الأراضي الأوكرانية من القوات الروسية إذا ما حصل على مزيد من الدعم والمساعدات العسكرية الغربية.[11]

ختامًا، يطرح العامل الزمني مدخلًا مهمًا لتفسير التصعيد الحالي في مسار الحرب الروسية-الأوكرانية، بالإشارة إلى ارتباط ذلك التصعيد من حيث توقيته بعاملين رئيسيين: يتعلق أولهما بتقييم فعالية الهجوم المضاد الأوكراني والعملية العسكرية الروسية منذ بداية فصل الربيع، والآخر بالانسحاب الروسي من مبادرة البحر الأسود لتصدير الحبوب. ومن المتوقع أن يستمر التصعيد العسكري بين الطرفين الروسي والأوكراني خلال فصل الصيف لتحقيق أية مكاسب ميدانية ممكنة قبل فصل الشتاء، فيما يرتبط التصعيد في منطقة البحر الأسود بالقدرة على إحياء اتفاق الحبوب من جديد لوضع حد لحرب الموانئ الجارية هناك.

مركز الأهرام للدراسات