فجأة أصبحت منصة “ديزني بلاس” الأمريكية هدفًا لسهام الأتراك على مختلف توجهاتهم الأيدولوجية وانتماءاتهم السياسية، بسبب تراجعها عن إذاعة مسلسل قامت بإنتاجه مؤخرًا عن حياة مصطفى كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية، بتكلفة مالية بلغت 8 ملايين دولار، بل والإعلان عن نيتها إنتاج وثائقي عن حياة الشيف التركي الشهير نصرت.
وهو ما أثار نقاشًا واسعًا في تركيا، وزاد من حالة الغضب، فكيف تقوم “ديزني بلاس” بالتراجع عن بث مسلسل أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية؟ وفي الوقت نفسه تعلن عن قيامها بإنتاج وثائقي يتناول حياة أحد الطباخين الأتراك حتى وإن كان شخصية مشهورة على المستوى العالمي، وله العديد من المطاعم في الكثير من العواصم الأوروبية، معتبرين هذا التصرف إهانة بالغة لتركيا وشعبها وحطًا من قدر رموزها الوطنية.
وكانت المنصة الأمريكية قد قامت في شهر أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي ببث مقاطع دعائية للمسلسل المؤلف من ست حلقات درامية في جزئه الأول، يتناول قصة حياة أتاتورك، وفي شهر يوليو/تموز الماضي زفت البشرى السعيدة للأتراك المنتظرين على أحر من الجمر موعد إذاعة المسلسل، بالإعلان عن تحديد يوم التاسع والعشرين من شهر أكتوبر/تشرين الأول لبدء بث الحلقات الست الأولى التي تم إنتاجها.
وهو الإعلان الذي لاقى ترحيبًا كبيرًا داخل الأوساط الفنية والثقافية التركية، حيث سارع الجميع بالدخول في نقاش موسع حول الممثل الذي اختارته المنصة لأداء شخصية أتاتورك على الشاشة، ومدى التشابه الشكلي بينهما، وما يملكه من قدرات فنية تؤهله للاضطلاع بهذه المهمة الكبيرة، وكيفية تناول حلقات المسلسل لمراحل حياة أتاتورك، وأهم المحطات التاريخية التي ركز عليها صناع هذا العمل، وأبرز الشخصيات التاريخية التي ستظهر في الحلقات، التي كانت مصاحبة له في رحلته لإقامة الجمهورية التركية.
ليفاجئ الجميع خلال الأيام القليلة الماضية بتراجع المنصة عن إذاعة المسلسل، مبررة هذا الموقف بما سمته “تغيير في الإستراتيجية”، جعلها تقرر طرح العمل على هيئة فيلم سينمائي من جزأين، سيتم عرضه على إحدى قنوات التلفاز التركية المحلية مجانًا للأتراك، كما سيعرض في الكثير من دور السينما نهاية العام الجاري.
المبرر الذي ساقته المنصة لم يقنع الأتراك، خصوصًا وأنه تزامن مع الكشف عن معلومات تفيد قيام اللجنة الوطنية الأرمنية الأمريكية بالضغط على المنصة، ودفعها للتراجع عن موقفها، وإلغاء إذاعة المسلسل، بسبب كونه “يمجّد ديكتاتورًا تركيًّا” كما قالت، واصفة أتاتورك بأنه جزار متورط في إبادة جماعية استهدفت مدنيين من الأرمن واليونانيين والسريان والآشور والموارنة والكلدان، وغيرهم الكثيرين من مختلف الإثنيات العرقية، وإن إعداد عمل وثائقي عنه يعد أمرًا مخيفًا، إلى جانب صدور تصريحات عدة لاحقة أدلى بها أعضاء اللجنة يشكرون فيها “ديزني” على استجابتها لطلبهم وتفهمها لموقفهم، ومنعها عملًا يمجّد ديكتاتورًا، ويقنن عمليات القتل الجماعي.
لتتوالى اتهامات الأتراك للمنصة بالرضوخ للوبي الأرمني في الولايات المتحدة، واصفين القرار بالمشين، حزب الشعب الجمهوري الوريث الشرعي لميراث أتاتورك، والراعي الرسمي لأفكاره ونظرياته السياسية اكتفى بإدانة “ديزني”، وطالب الأتراك بمقاطعتها، وإلغاء اشتراكاتهم فيها، تعبيرًا عن رفضهم لقرارها.
أما الغضب الكبير، وردود الفعل اللاذعة فقد جاءت هذه المرة من جانب الحكومة التركية وحزبها العدالة والتنمية، الذي يقود حملة شرسة سياسية وإعلامية ضد المنصة الأمريكية، معتبرًا أن تراجعها عن عرض المسلسل يعني عدم احترامها لقيم الجمهورية التركية ولا لشعبها، حتى وصل الأمر إلى قيام رئيس المجلس الأعلى للإذاعة والتلفاز التركي بإجراء تحقيق شامل حول المزاعم التي أثيرت عن المسلسل، للوقوف على الأسباب الحقيقة التي تقف وراء تراجع المنصة عن بث المسلسل، والضغوط التي تعرضت لها لوقف عرضه خلافًا لما سبق وأن أعلنت، واصفًا أتاتورك بأنه مناضل، وأهم قيمة في المجتمع التركي.
إلى جانب تدخل كل من وزير الخارجية، ورئيس جهاز الاستخبارات في الأمر لدى مسؤولي المنصة، وهو التدخل الذي أسفر على ما يبدو إلى التوصل لحل وسط إرضاءً للأتراك، حينما أعلنت عن نيتها بث الوثائقي على إحدى الفضائيات المحلية المملوكة لها داخل تركيا في ذكرى تأسيس الجمهورية.
موقف الحكومة رغم قوته، لكنه قوبل بسخرية من جانب العلمانيين الذين أبدوا دهشتهم جراء الحملة التي يقودها العدالة والتنمية، الراعي الرسمي للتيار الإسلامي داخل البلاد، دفاعًا عن مسلسل وثائقي يتناول قصة حياة أتاتورك، الذي ينظر إليه الإسلاميون الأتراك على أنه هادم دولة الخلافة العثمانية، وعدو الإسلام الأول.
حتى ذهب البعض إلى مطالبة الدولة بإظهار حسن نواياها، وعدم الاكتفاء بمهاجمة “ديزني بلاس”، والقيام بإنتاج عمل فني ضخم عن مؤسس الجمهورية التركية، ليكون الرد على المنصة الأمريكية عمليًا، أسوة بما تم إنتاجه من أعمال درامية تناولت حياة الأوائل من مؤسسي الدولة العثمانية مثل “قيامة أرطغرل”، و”عاصمة عبد الحميد”، و”السلطان محمد الفاتح” وغيرها من أعمال درامية حققت نجاحًا جماهيريًا باهرًا.
وبدلًا من أن يؤدي الموقف الحازم للعدالة والتنمية من المنصة الأمريكية بعد تراجعها عن بث وثائقي أتاتورك إلى إعادة اللُحمة مرة أخرى للمجتمع التركي، وتكاتفه ضد ما يحاك له من جانب عناصر خارجية تستهدف استنزافه في معارك جانبية، لن تضيف له بقدر ما تأخذ منه، زادت حالة الانقسام بين الأتراك حدة وتعصبًا، وهو الانقسام الذي بدأ مع الدعايات العنصرية التي صاحبت حملات أحزاب المعارضة في الانتخابات البرلمانية والرئاسية الأخيرة.
والتي أدت إلى انقسام الأتراك على أنفسهم، مجترين الماضي الأليم بينهم، ليتحول المجتمع إلى جناحين متنافسين على الساحة، أحدهما يحمل راية الإسلام ويدافع عن مكتسباته التي حققها في العقدين الماضيين، والآخر يرفع راية العلمانية الكمالية، وينتظر بفارغ الصبر العودة إلى السلطة بهدف استكمال رؤية أتاتورك للجمهورية التركية.