رهانات قمّة “بريكس” الجديدة

رهانات قمّة “بريكس” الجديدة

تلتئم ما بين 22 و24 من شهر أغسطس/ آب الجاري، في جوهانسبورغ بجنوب أفريقيا، القمّة الخامسة عشر لمجموعة دول “بريكس”، المكونة من خمس دول كبرى، الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا. وستكون القمّة المقبلة مناسبة لمناقشة معايير الالتحاق بالمجموعة الجديدة التي تسعى إلى بناء عالم متعدّد الأقطاب، وقد أبدت دول عديدة رغبتها في الانضمام إلى القوة الجديدة التي تريد أن تكون بديلاً للقطب الأطلسي الغربي الذي هيمن على العالم، منذ انهيار القطب السوفييتي نهاية ثمانينيات القرن الماضي.

ومنذ تأسّست هذه المجموعة، وعقدت أول اجتماعاتها عام 2009، اعتمدت ثلاث ركائز للتعاون: التحدّيات السياسية والأمنية العالمية، والبنية الاقتصادية والمالية، وأخيراً، تعزيز التعاون بين الدول المؤسّسة الخمس، وبمجرّد تشكلّها تحولت إلى أكبر تحالف دولي يمثل سكان دولها الخمس ما يزيد قليلاً عن 42% من سكان العالم، و30% من أراضيه، وتزن اقتصادات الدول الخمس المكونة لها 25% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، و18% من التجارة العالمية. ولمواصلة زيادة قوتها الاقتصادية، أنشأت عام 2015 هيكلاً جديداً، وهو “بنك التنمية الجديد”، لتقديم بديل للإطار الذي وضعه صندوق النقد والبنك الدوليان.

دعيت إلى قمّة جوهانسبورغ التي سيكون موضوعها “بريكس وأفريقيا”، جميع الدول الأفريقية، باستثناء المغرب، التي أعلنت رسمياً مقاطعتها لأسبابٍ تتعلق بمواقف دولة جنوب أفريقيا من قضية الصحراء، بما أن دولة نيلسون مانديلا عبّرت دائماً عن مواقف مبدئية تساند حق الشعوب في تقرير مصيرها، وهو الحقّ الذي تطالب به “بوليساريو”، بينما يقترح المغرب حكماً ذاتياً للمنطقة، في إطار السيادة المغربية. وقد نفى موقف الرباط الذي صدر عشية انعقاد هذه القمة أيضاً أن تكون قد تقدّمت بطلب للانضمام إلى مجموعة بريكس، وإن كانت قد تركت الباب موارباً للتقدّم بطلب للانضمام إلى هذه المجموعة الواعدة.

منتظر من قمّة جوهانسبورغ وضع مفهوم “الجنوب العالمي” على أجندة التغيّرات الكبرى التي يشهدها العالم

وبعيداً عن الموقف المغربي الذي يبدو “استثنائياً”، حتى لا نصفه بأوصافٍ قاسية، لأن فيه من التسرّع والارتباك والتناقض ما يجعله غير مفهوم، بل وغير منطقي، من المتوقع أن تحضر قمّة جوهانسبورغ نحو 67 دولة من بينها ما يناهز نحو 40 دولة، حسب ما أعلنته بريتوريا، تقدّمت بطلبات للانضمام إلى مجموعة بريكس، بهدف الاستفادة من المكاسب السياسية والاقتصادية والرمزية التي يمكن أن يمنحها لها دخولها في مثل هذا التحالف، من بينها دول مهمة على الساحة الدولية، سبق أن عبّرت رسمياً عن رغبتها في الالتحاق بهذه القوة الجديدة، في مقدّمتها إيران والسعودية وإندونيسيا والجزائر ومصر والأرجنتين، بالإضافة إلى دول أخرى، بما فيها نيجيريا وإثيوبيا وفنزويلا وتايلاند وفيتنام وكوبا وجزر القمر والغابون وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وهو ما يبيّن حجم الاستقطاب الكبير الذي أوجده الاتجاه العالمي نحو عالم جديد متعدّد الأقطاب.

نحن أمام عالم جديد يعيد تشكيل نفسه، وأمام إرادة تريد إعادة التوازن الجيوسياسي العالمي لصالحها، ومثل كل عملية ولادة يسبقها مخاضٌ عسيرٌ وهو ما يشهده اليوم العالم من توتّرات، بل ومن فوضى تسبق انهيار النسق العالمي الذي بُني على قطبٍ واحد منذ نهاية الحرب الباردة، فهذا العالم كان حصيلة فترة هيمنته التي استمرّت أكثر من ثلاثة عقود مدمّرة على جميع المستويات، شهد فيها العالم حروباً عبثية دمّرت دولاً بكاملها في أفغانستان، والعراق، واليمن، وليبيا، والصومال، واليمن، ولبنان، وطال فيها أمد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وخلفت كل هذه الحروب ملايين القتلى في هذه الدول، بالإضافة إلى ملايين الضحايا في العالم الذين خلفتهم الكوارث الطبيعية غير المسبوقة، وانتشار الأوبئة القاتلة التي شهدها العالم خلال هذه الفترة، نتيجة التحوّلات المناخية الكبيرة الناتجة عن العولمة السلبية التي ميّزت العالم الذي ينهار اليوم.

أبدت دول عديدة رغبتها في الانضمام إلى “بريكس” القوة الجديدة التي تريد أن تكون بديلاً للقطب الأطلسي الغربي الذي هيمن على العالم

الدول المؤسّسة لهذا التكتل الجديد هي نفسها كانت ناشئة، عندما بدأت أول اجتماعاتها، وخلال العقود الثلاثة الماضية تطورت مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية، وهي تسعى اليوم إلى توسيع تحالفها للدفاع عن مصالحها. ومن هذا المنطلق، قد تمثل قمة جوهانسبورغ تحوّلاً تاريخياً في مسار هذه المجموعة التي لم يسبق لها أن اجتذبت كل هذا القدر من الاهتمام الذي تلقاه اليوم في العالم، ولعل ذلك راجعٌ في الأساس إلى ما قد تتّخذه هذه القمة من قراراتٍ يمكن أن تؤثر على النظام العالمي القائم، خصوصاً مع توسيع هذا الهيكل ليشمل بلداناً عديدة، توصف بأنها صاعدة أو نامية، ومن بينها دول تمتلك إمكانات اقتصادية كبيرة. فأغلب الدول التي عبّرت عن رغبتها في أن تكون لها عضوية داخل هذا التكتل الجديد تسعى إلى أن يكون لها نصيبها من التأثير في المخاض الذي يشهده ميلاد عالم جديد متعدّد الأقطاب، لأنها تريد تحرير نفسها من قبضة القوى الغربية الرئيسية على الأدوات الاقتصادية والمالية، وكذلك على العملات التي تهيمن على التبادل التجاري العالمي، لكن التأسيس لعالم جديد قادر على فرض شكلٍ مختلف من التعدّدية القطبية ليس بالأمر السهل.

وما هو منتظر من قمّة جوهانسبورغ وضع مفهوم “الجنوب العالمي” على أجندة التغيرات الكبرى التي يشهدها العالم، بعد ما أصبح هذا المفهوم يفرض نفسه في السنوات الأخيرة في معارضة “الشمال العالمي”، المؤلف من الدول المهيمنة اليوم على العالم اقتصادياً وسياسياً وأمنياً. ومن شأن ما سيتمخّض عن هذه القمّة أن يحدّد مستقبلاً ملامح معالم الجغرافيا السياسية العالمية الجديدة. ويبقى أكبر رهان يواجه القمّة الحالية حسمها في معايير الانتماء إلى التكتل الجديد، فروسيا والصين لا تخفيان مصلحتهما في توسيع هذا التحالف، حيث ترى روسيا أن توسيع هذا التحالف سيخفّف عزلتها على المستوى الدولي بعد غزو أوكرانيا، بينما تسعى الصين إلى تعزيز نفوذها الجيوسياسي، وسط توتّرات متزايدة مع الولايات المتحدة بشأن تايوان. أما الدول الأخرى، البرازيل والهند وجنوب أفريقيا، فهي تبدي قلقها من كل توسّع غير مدروس، فهذه الدول تريد أن تكون حذرة في تحديد معايير أي توسّع، من شأنه أن يقود إلى طريقٍ تساهم في زيادة الصراع في المجتمع العالمي بدلاً من تهدئته، وفي انتظار ما سوف تتمخّض عنه هذه القمة من قراراتٍ، فإن الوضع الدولي سيزداد تعقيداً على المستوى الجيوسياسي إلى حين ميلاد العالم الجديد الموعود.

العربي الجديد