بعد أن سادت، إثر نهاية الحرب الباردة، فكرة أن الصراعات لم تعد قائمة بين الدول وأنها أصبحت تدور داخل الدول، من قبيل الحروب الأهلية والصراعات السياسية والإثنية والعرقية، جاءت الحرب الروسية على أوكرانيا لتؤشر على عودة قوية للنزاعات الكلاسيكية بين الدول. وحتى إن بدت في ظاهرها حربًا بين روسيا وأوكرانيا كطرفين مباشرين، إلا أنها في الحقيقة وفي العمق حرب بالوكالة بين روسيا والغرب. أما قوة الشرق الأولى، الصين، فقد اكتفت بتقديم دعم معنوي وغير مباشر لروسيا، حين رفضت إدانة الخطوة الروسية من ناحية، ونأت بنفسها عن المشاركة في حزمة العقوبات ضدها من ناحية أخرى.
ورغم أن الصين ليست طرفًا مباشرًا في هذه الحرب، إلا أن مجرياتها تشغلها انشغالًا واضحًا، لأن انعكاساتها وتداعياتها تمسها وتؤثر على مسار صعودها المتنامي. كما أن العالم ينتظر منها دورًا فاعلًا في مسار هذه الحرب، التي تحمل لها مجموعة من الفرص والمخاطر في الوقت ذاته. فكيف نفهم الموقف الصيني وتطوراته من الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا المدعومة غربيًّا؟ وما حسابات الصين ورهاناتها في هذا الصراع حتى تستفيد من الفرص المتاحة، فتخدم مصالحها من جهة وتقلِّل من التأثيرات السلبية للحرب على صعودها من جهة أخرى؟ وما طبيعة وحدود الدور الذي يمكن أن تلعبه بيجين في تسوية النزاع وتحقيق السلام الدولي من جهة ثالثة؟
على خطى سان تزو: الخيط الرفيع في قراءة الموقف الصيني من الحرب
تشير سياسة الصين في التعامل مع مجريات الحرب الروسية-الأوكرانية، إلى أنها تسير على خط رفيع في التعاطي مع أطراف الصراع وتطورات الحرب الميدانية. وتستند في ذلك إلى توجيهات منظِّرها الإستراتيجي، سان تزو (Sun Tzu)، الذي أُثر عنه قوله: “إن الفوز دون قتال هو الفن النهائي للحرب”، وقوله أيضًا: “إن أفضل العمليات العسكرية المصنفة هي تقويض خطط العدو، ثم الدبلوماسية، ثم هزيمة العدو في ساحة المعركة”. بناء على ذلك، ترغب الصين في المحافظة على متانة علاقاتها مع روسيا من جهة، وحماية مصالحها التجارية مع أوكرانيا، التي تعد بوابتها نحو الاتحاد الأوروبي وشريكًا رسميًّا في مبادرة الحزام والطريق، من جهة أخرى. كما تسعى لتجنب المزيد من تدهور علاقاتها مع الولايات المتحدة وتفادي التعرض لعقوبات بسبب مواقفها تجاه الصراع، دون الرضوخ لإرادة الغرب في إخضاعها وإعاقة صعودها(1).
فالصين لم تتأخر عن تصدر المشهد الدولي غداة قيام الحرب الروسية-الأوكرانية، وتطلعت جميع القوى المعنية بالحرب لمعرفة الموقف الذي ستتخذه بيجين. ويعود ذلك لمكانة الصين المتنامية في النظام العالمي، وحيوية الرهانات التي تحيط بعلاقاتها مع روسيا وأوكرانيا والأطراف الغربية كالولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، ولخطورة هذه الحرب واحتمالات خروج الصراع عن السيطرة، ولحاجة الصين لإبراز دورها كقوة مسؤولة وتأكيد رغبتها في تسويق صورة إيجابية عن نفسها، وكذلك لمصلحتها في تأمين بيئة سلمية لمواصلة صعودها الاقتصادي خاصة.
تقاذفت الموقف الصيني من الحرب مجموعة من العوامل، منها ما هو متعلق بمبادئ سياستها الخارجية، التي تؤكد دومًا على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، واحترام سيادتها واستقلالها، وتوفير بيئة دولية آمنة ومناسبة لتحقيق أهدافها التنموية وتعزيز السلم والتعاون والعيش المشترك. ومنها ما يتعلق بمصالحها الاقتصادية والسياسية والإستراتيجية المرتبطة بأطراف النزاع، وبحرصها على صورتها الدولية ونهجها السلمي الذي تروج له.
وكان خطاب وزير الخارجية الصيني، وانغ يي (Wang Yi)، في بداية الحرب قد وُصف بـ”المراوغ”، حيث لم يبد مساندته للعمل العسكري الروسي، وفي الوقت ذاته لم يقم بإدانته. واكتفى بالقول: إن “الوضع معقد، والعقوبات (ضد روسيا) ليست مجدية، والغرب مسؤول عن الحرب لأنه حشر روسيا في الزاوية، لسماحه بتوسيع حلف شمال الأطلسي نحو مناطق معروفة تقليديًّا بكونها تحت السيطرة الروسية”(2).
بعد هذا الموقف، تكررت في الخطابات السياسية والأكاديمية والإعلامية الصينية الإشارة إلى مجموعة من النقاط التي ترسم معالم السياسة الصينية تجاه الصراع، تؤكد على أن روسيا ليست هي الوحيدة الملومة على ما حدث في أوكرانيا، بل الغرب كذلك، وخاصة الولايات المتحدة الأميركية. فالغرب، كما ترى بيجين، تجاهل الانشغالات الأمنية لموسكو، والصين تشارك أوروبا رغبتها في إنهاء الحرب في أقرب وقت ممكن، ولكن التدخل الأميركي هو ما يطيل أمدها. كما أن الصين لا تؤيد سياسة العقوبات أحادية الجانب ضد روسيا، وترفض سياسة الكتل التي ترى فيها تغذية لعقلية الحرب الباردة. من جهة أخرى، تصر بيجين على أن الوضع في أوكرانيا يختلف جذريًّا عن وضع تايوان، فأوكرانيا دولة مستقلة ذات سيادة تعرضت لهجوم من دولة أخرى، بينما تايوان جزء لا يتجزأ من دولة ذات سيادة(3).
ورغم وضوح هذه المؤشرات المعلنة بشأن الموقف الصيني، إلا أن فهم السياسة الصينية تجاه الغزو الروسي لأوكرانيا ووضعها في إطار محدد ومنسجم، يشكل تحديًا أمام الباحثين والدارسين. فالصين تلعب على الحبلين في موقفها من طرفي الصراع، وتجد نفسها في مأزق حقيقي بسبب صعوبة التوفيق بين المصالح والمبادئ المتضاربة. فمن ناحية، تجمعها بروسيا علاقات وطيدة ومصالح متشعبة، وفي الوقت ذاته يمكن لأي دعم صريح ومباشر لروسيا أن يهدد علاقاتها مع الدول الغربية، التي تعد أهم شركائها التجاريين. ولا ترى الصين أنه من مصلحتها الدخول مع الغرب في مواجهة مفتوحة، لاسيما بعد التدهور الملموس في العلاقات بين الجانبين. ومع ذلك، ترفض بيجين الخضوع لإرادة الغرب أو مشاطرته مواقفه في هذا الصراع، كما ترفض العقوبات التي يفرضها على روسيا(4).
وهذا الوضع يؤرق القيادة الصينية، التي ينبغي عليها توظيف حكمتها وصبرها لصياغة أسلوب تعامل متوازن وفعال. فهي مدعوة لإبداء قدر من التأييد لروسيا وتفهم موقفها باعتبار أن الولايات المتحدة هي من دفعتها لخوض الحرب، ولكن هذا التأييد ينبغي أن يكون محسوبًا ولا يصل إلى حدِّ استفزاز الغرب(5).
تدخل تايوان أيضًا على خط النقاش في أي محاولة لفهم دلالات الموقف الصيني من الحرب. فبعد أن أكدت الصين مبدئيًّا احترامها للسيادة الأوكرانية واستقلالها، وتعبيرها عن رفضها لأي مساس بهذا المبدأ، شاعت بعض الآراء التي تربط بين الحرب على أوكرانيا وقضية تايوان. يرى أصحاب هذه الآراء ضرورة تطبيق نفس مبدأ احترام سيادة واستقلال الدول على تايوان، لكن بيجين تشدِّد على أن تايوان جزء لا يتجزأ من دولة الصين المستقلة ومن سيادتها، وهناك اعتراف دولي واسع بذلك، وبالتالي لا يمكن وضعها في نفس الكفة مع أوكرانيا(6).
على صعيد آخر، حاولت الصين تقديم نفسها وسيطًا محتملًا في الحرب الروسية-الأوكرانية مستغلة نفوذها الدولي وعلاقاتها القوية بروسيا، ومستفيدة من وجود قبول غربي عام بها للعب دور الوساطة. فقد صرح جوزيب بوريل، مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، بأن الأوروبيين والأميركيين لا يمكنهم أن يكونوا وسطاء في هذا الصراع، وأنه يثق في قدرة الصين على لعب هذا الدور. من جهته، أكد السفير الصيني في واشنطن، تشين غانغ (Quin Gang)، أن بلاده محبة للسلام، ولها وضع خاص يمكِّنها من لعب دور فعال كوسيط بين روسيا وأوكرانيا، ولكن الضغط على الصين يمكن أن يكون له تأثير سلبي على قدرتها على أن تكون وسيطًا فعالًا(7).
وبعد مرور عام على الحرب، قدمت الصين، في 24 فبراير/شباط 2023، وثيقة بعنوان “موقف الصين من التسوية السياسية للأزمة الأوكرانية”، مُكوَّنة من 12 نقطة، صيغت كمبادئ عامة للتعامل مع الحرب. من بين هذه المبادئ، التزام الأطراف المختلفة بعدم اللجوء إلى السلاح النووي، واحترام سيادة الدول، وعدم استهداف المدنيين والمنشآت المدنية، والتخلي عن عقلية الحرب الباردة، ووقف العقوبات من جانب واحد، والحفاظ على استقرار عمل سلاسل التوريد(8).
وكما كان منتظرًا، جاء رد الولايات المتحدة على المبادرة الصينية سلبيًّا، وصرح وزير خارجيتها، أنتوني بلينكن، في اتهام مبطن للصين بمساندة روسيا، بأن بيجين لا يمكن أن تلعب دورًا مزدوجًا عبر تقديم مقترحات للسلام وهي تؤجج الحرب في أوكرانيا. أما موقف طرفي الصراع الرئيسيين، أوكرانيا وروسيا، فكان حذرًا. فقد أعلن الكرملين أن الخطة الصينية لتسوية الأزمة في أوكرانيا تتوافق مع نهجه في الجزء الخاص بتوفير الأمن، لكنه شدَّد على أن الأولوية لحل المسألة الأوكرانية هي تحقيق الأهداف العسكرية. بدوره، رحَّب الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، ببعض عناصر الاقتراح الصيني، معتبرًا أن بكين لم تقدم خطة حقيقية بل مجرد أفكار، وأكد أن الدولة التي تدور فيها الحرب هي التي ينبغي أن تطلق خطة السلام(9).
بغض النظر عن مدى قوة المبادرة ودرجة استجابة أطراف الصراع لها، فإن وتيرة الجهود الصينية المتسارعة للتعامل مع هذه الحرب يمكن فهمها ضمن سعي بكين لاستغلال الظروف الدولية الناشئة، لتقديم نفسها قوةً عظمى، وتصوير الولايات المتحدة على أنها تفقد نفوذها وبعض أدوارها التقليدية في بعض المناطق الحيوية مثل أوروبا. فالحرب الأوكرانية تقدم فرصة كبيرة للقيادة الصينية لإحداث اختراق أوسع على مستوى العالم. وقد أجرى الرئيس الصيني، شي جين بينغ، خلال شهر أبريل/نيسان 2023، أول اتصال هاتفي مع نظيره الأوكراني، دعا فيه إلى ضرورة إجراء مفاوضات بين روسيا وأوكرانيا لأن “المفاوضات هي السبيل الوحيدة للتسوية”(10).
حدود الاستفادة وتحييد المخاطر في الموقف الصيني
تتقدم الإستراتيجية الصينية في التعامل مع الحرب الروسية الأوكرانية في حقل ألغام. فهي تتحرك ضمن مجال محفوف بالمخاطر والمخاوف التي تستوجب الحذر في جميع الخطوات المتخذة. من جهة أخرى، يحمل هذا الصراع للصين فرصًا إستراتيجية، وقد أثبتت الدوائر الدبلوماسية والإستراتيجية الصينية في عدة محطات قدرتها على التحكم في لعبة الحسابات المعقدة، وبراعتها في توجيه دفة الأحداث لخدمة مصالحها إقليميًّا وعالميًّا.
يتمثل أول خيوط اللعبة الواجب التحكم فيها بالنسبة إلى الصين بشأن هذا الصراع في علاقاتها بروسيا. فالحرب الراهنة تمثل اختبارًا حقيقيًّا لعلاقات البلدين، فهما تتشاركان نفس الرؤية بخصوص مراجعة قواعد وهيكل القوة في النظام الدولي. وكلا الطرفين يسعيان للحد من الهيمنة الأميركية، وترى كل دولة في صعود الأخرى وزيادة تأثيرها في الساحة الدولية فرصة إستراتيجية لها. فصعود الصين يُنظر إليه في روسيا على أنه فرصة لاستغلال انشغال الولايات المتحدة بالتطورات الجارية في آسيا، وبالتالي منح موسكو هامش مناورة أكبر في أوروبا. وفي المقابل، تجد الصين في صعود روسيا وتزايد عدائها للغرب متنفسًا لها، فهو يقلِّل من تركيز الولايات المتحدة على تنامي قوتها وطموحاتها في آسيا وخارجها(11).
تشترك روسيا والصين أيضًا في موقفهما السلبي من حلف الناتو وسياساته؛ فروسيا تعتبره مسؤولًا عن انحراف النظام العالمي نحو الأسوأ بسبب سياسات الحلف التوسعية نحو الشرق ومناطق نفوذها التاريخية. أما الصين فقد جعلت منه موضوعًا لانتقاداتها المتكررة بسبب استفزازه للجانب الروسي ودفعه لاتخاذ قرار الحرب. وسبق للصين أن عبَّرت عن استيائها من مخرجات اجتماع الحلف، في 14 يونيو/حزيران 2021، الذي اعتبرها “تحديًا جديًّا وخطيرًا”، واعتبرت ذلك التوصيف استفزازًا من قبل الحلف وتشجيعًا على التوتر والاضطراب بدلًا من الاستقرار والتعاون(12).
تستغل الصين الموقف بشكل أكثر فعالية في علاقاتها الاقتصادية مع روسيا؛ فقد سمحت العقوبات المفروضة على موسكو للصين بمساعدة شريكها في تقليل الضرر الاقتصادي من خلال زيادة حجم التبادل التجاري، الذي ارتفع بنسبة 35.9%، سنة 2021، ليصل إلى مستوى قياسي بلغ 146.9 مليار دولار. ومثَّلت صادرات الطاقة الروسية 70% من مجموع صادرات موسكو إلى الصين، وهو ما يسهم في ضمان أكبر لأمن الطاقة الصيني(13).
من ناحية أخرى، تقف الصين منتظرة إفرازات هذه الحرب، التي يمكن أن تمنحها أفضلية على حساب منافسيها في الغرب، بفعل ما تسببه من إنهاك للموارد الاقتصادية والمالية والعسكرية لحلفاء أوكرانيا في أوروبا والولايات المتحدة. وعلى الرغم من الصلات العميقة بين روسيا والصين، إلا أن بيجين يمكنها أن تستفيد من ضعف نسبي في القوة الروسية مقارنة بما كانت عليه قبل الحرب، بفعل استنزاف مواردها وإمكاناتها في ذلك الصراع، والتأثير السلبي للعقوبات الغربية على اقتصادها، بما يزيد من قوة ونفوذ العملاق الآسيوي على حسابها. غير أنه ليس من مصلحة الصين أن تخرج روسيا من هذه الحرب وهي منهزمة ومنهكة كليًّا، لأن ذلك يطيح بحليفها الإستراتيجي وشريكها في مسار تشكيل نظام دولي تعددي(14).
لا يمكن لحسابات الصين أيضًا أن تغفل أهمية العامل الأميركي، بالنظر للموقع الريادي لواشنطن عالميًّا ودورها المحوري في هذا الصراع تحديدًا. تزداد أهمية هذا العامل في سياق العلاقات المعقدة بين واشنطن وبكين، لاسيما في السنوات الأخيرة التي شهدت تفاقمًا في قضايا الخلاف والتنازع بينهما. ووصل الأمر بالرئيس الأميركي، جو بايدن، حدَّ تهديد الصين بالعقوبات إذا ما قدمت أية مساعدات عسكرية لروسيا. وقد رفضت الصين تلك التهديدات، وامتنع رئيسها عن الاستجابة لطلب الرئيس الأميركي ممارسة الضغط على روسيا. وجاء على لسان الرئيس، شي جين بينغ، في مكالمة مع نظيره الأميركي، بتاريخ 18 مارس/آذار 2022، قوله: “من وضع الحزام على رقبة النمر هو من عليه أن ينزعه”، في استعارة لمثل صيني قديم يفيد تحميل المسؤولية لصاحبها الحقيقي(15).
وتراقب بيجين الدور الذي يلعبه حلف الناتو، وحدود فعاليته في تحقيق الأمن الأوروبي، وتحول توسعه شرقًا إلى مصدر لعدم الاستقرار الإقليمي والعالمي، وعينها على التحركات الأميركية في منطقة الهندوباسيفيك وشبكة التحالفات التي تنسجها واشنطن من حولها. فهذه التحركات تستهدف بالأساس احتواء الصين وإجهاض مشروع صعودها. وقد عبَّرت بيجين عن موقفها من تلك التطورات أكثر من مرة، واعتبرت أن الولايات المتحدة تسعى لتحويل منتدى الحوار الأمني الرباعي “كواد” إلى “ناتو آسيوي”. جدير بالذكر أن التحركات الأميركية في منطقة الهندوباسيفيك ليست جديدة. ففي الفترة التي سبقت الحرب الروسية على أوكرانيا، شهد هذا الفضاء الجيوسياسي الحساس جدًّا بالنسبة إلى الصين حركية أمنية وعسكرية ودبلوماسية واقتصادية كثيفة بقيادة الولايات المتحدة(16).
ثم جاءت الحرب لتعقِّد الحسابات أكثر وتعزز احتمالات إقدام الصين على غزو تايوان عسكريًّا مثلما فعلت روسيا مع أوكرانيا. فقد وفرت الحرب فرصة للصين لإيصال رسالة للولايات المتحدة والغرب عمومًا، وللنخبة الحاكمة في تايوان خصوصًا، بأنه عندما يتعلق الأمر بقضايا الأمن القومي، فإن قرارات الدول تكون حاسمة ولا تخضع للمقايضات أو المساومات. وما يصدُق على الحسابات الروسية في قضية توسع الناتو يمكن أن يصدق أيضًا على تايوان باعتبارها قضية أمن قومي بالنسبة إلى الصين. فالحسابات الصينية في هذه القضية لا يمكن أن تخضع هي الأخرى للمساومات والمقايضات(17). من جهة أخرى، وفرت هذه الحرب للخبراء الإستراتيجيين وصنَّاع القرار الصينيين مختبرًا عمليًّا لفحص المدى الذي يمكن أن تصل إليه الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى في تعاملها مع أي عمل عسكري صيني محتمل ضد تايوان، ومعرفة الحدود والخطوط الحمراء التي يمكن أن يتوقف عندها الغرب(18).
في خضم هذه الحسابات المعقدة، يبدو أن الصين، وإن لم تصرح بذلك علنًا، قد اختارت في هذه المرحلة، مساندة روسيا في مواجهتها مع الغرب دبلوماسيًّا واقتصاديًّا. يؤكد ذلك الاتصال الذي جرى بين وزيري خارجية البلدين، وانغ يي وسيرغي لافروف، يوم 28 أكتوبر/تشرين الأول 2022، حيث أكد وانغ أن الصين ستدعم بقوة الجانب الروسي “للتغلب على الصعوبات لتحقيق الهدف الإستراتيجي للتنمية وتعزيز مكانة روسيا كقوة عظمى”. ومن جانبه، أكد لافروف استعداد روسيا لتعزيز علاقاتها مع الصين على جميع المستويات، وتعميق التعاون متعدد الأطراف، والحماية المشتركة لمنطقة آسيا والمحيط الهادي، وضمان السلام والاستقرار في العالم(19).
خاتمة
خلقت الحرب الروسية-الأوكرانية تحديات جدية لتوجهات الصين الدبلوماسية والإستراتيجية في التعامل مع صراع بذلك التعقيد وذلك التداخل بين العوامل الجيوبوليتيكية والسياسية. وما يزيد من الصعوبات أمام الصين في التعامل مع هذه الحرب تعدد أدوار الفاعلين، فالصراع هنا لا يقتصر على الطرفين، الروسي والأوكراني، بل يتعداهما إلى قوى حليفة لروسيا مثل بيلاروسيا، وأخرى ذات صلة بأوكرانيا مثل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية. في هذا السياق، تجد الصين نفسها أمام حتمية الإجابة على أسئلة إستراتيجية ملحَّة، أولها: كيفية التوفيق بين المتناقضات في ساحة الصراع الروسي-الأوكراني، التي تختزن في الوقت ذاته فرصًا ومخاطر. وثانيها: كيفية الربط بين ما يجري في هذه الساحة وما يعتمل في الفضاء الجيوسياسي الهندوباسيفيكي الذي يعنيها مباشرة. وهي، في كلتا الحالتين، مطالبة بتحقيق مصالحها وتعزيزها، والمحافظة على التوازنات في علاقاتها مع مختلف أطراف الصراع، والتقليل من التأثيرات السلبية ومن المخاطر الكامنة في هذه الساحة أو تلك.
مركز الجزيرة للدراسات