في مطلع أغسطس/آب 2023، زار واشنطن وفد عسكري عراقي رفيع للتباحث مع البنتاغون حول قضايا ظلت تفاصيلها غير واضحة، برغم أن البيان المشترك الذي صدر عن الجانبين تحدث عن الالتزام “بمواصلة التعاون العسكري الثنائي في جميع المجالات، وخصوصًا مكافحة تنظيم داعش والعمل على منع عودة نشاطه، وتدريب القوات العسكرية العراقية”.
جاءت الزيارة في سياق متوتر في المنطقة ومنها العراق، ولم يكن هناك تمهيد رسمي لها، ولا مناسبة محددة للقيام بها بمستوى عسكري رفيع رأسه وزير الدفاع، ثابت العباسي، وضمَّ بشكل خاص قائد جهاز مكافحة الإرهاب ورئيس أركان الجيش وقادة كبار في الجيش العراقي، ولذلك، فمن الواقعي افتراض أن يكون للتواصل العسكري العراقي مع الولايات المتحدة على أرفع مستوى، علاقة بشكل من الأشكال مع السياق المحلي والإقليمي.
حسب التصريحات الصادرة من الطرفين لا يمكن تسجيل تطابق في المواقف، والبيان المشترك تضمن صيغًا عامة، منها الاستمرار في محاربة تنظيم داعش وتدريب القوات العراقية وتطوير قدراتها، وكذلك محافظة الولايات المتحدة على سيادة العراق، والتزام بغداد بحماية “أفراد ومستشاري الولايات المتحدة والتحالف الدولي والقوافل والمنشآت الدبلوماسية”، ولم يخرج رئيس الوفد العراقي وزير الدفاع، ثابت العباسي، عن هذه العموميات، بقوله: إن من المهم “الحفاظ على الانتصارات” التي حققتها القوات العراقية والأميركية بالفعل، وكذلك تعزيز العلاقات والتعاون مع الولايات المتحدة. لكنه تجنب الخوض في القضايا المعقدة، وأبرزها تكرار العراق عدم رغبته في بقاء قوات قتالية على أرضه، وهي العبارة الفضفاضة التي طالما سمحت للحكومات العراقية منذ طرد تنظيم داعش مع نهاية 2017 بتخطي انتقادات أطراف داخلها، وتبرير بقاء نحو 2500 عسكري أميركي من خلال وصفهم بأنهم مدرِّبون ومستشارون عسكريون.
وكان العباسي أكثر وضوحًا حينما أبلغ لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي أن زيارة الوفد العسكري كانت “ناجحة” وأنها لم تتضمن إبرام أية عقود جديدة مع الولايات المتحدة، ولكن جرت مناقشة العقود القديمة وخصوصًا عقود طائرات إف 16 ودبابات الأبرامز وموضوع إدامتها وخدماتها ووجود الخبراء والمستشارين الأميركيين في العراق.
وكرر رئيس الوزراء، محمد شياع السوداني، منتصف أغسطس/آب، ذلك بقوله: إن “العراق اليوم ليس بحاجة إلى قوات قتالية أجنبية”، مبينًا أن “حوارات متقدمة جارية من أجل تحديد شكل العلاقة والتعاون المستقبلي مع التحالف الدولي، في إشارة على ما يبدو إلى زيارة الوفد العسكري العراقي لواشنطن، أو إلى لقاءاته المتكررة مع السفيرة الأميركية النشطة في بغداد، آلينا رومانوسكي، التي شاركت في اجتماعات البنتاغون ضمن مفاوضي بلادها مع الوفد العراقي.
على الجانب الآخر، جاءت تصريحات المسؤولين الأميركيين الذي شاركوا في المفاوضات مع الوفد العراقي بسقف أعلى من التوقعات؛ حيث قال وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، الذي رأس وفد بلاده في المحادثات مع الوفد العراقي الزائر: إن الولايات المتحدة “تدرك أن مهمتها العسكرية ستتغير في العراق مع بناء القوات المحلية لقدراتها، واصفًا المباحثات بأنها جزء من “الخطوة التالية في شراكتنا الدفاعية الإستراتيجية”، وهو ما كانت تحدثت عنه قبل اجتماع الوزيرين، نائبة مساعد وزير الدفاع الأميركي للشرق الأوسط، دانا سترول، بقولها: إن بلادها مهتمة بإقامة علاقة دفاعية دائمة مع العراق ضمن شراكة إستراتيجية لسنوات عديدة قادمة.
ومن سياق التصريحات المتبادلة، يمكن فهم المواقف الرسمية للطرفين، العراقي والأميركي، كالتالي: ينظر العراق إلى الوجود الأميركي على أنه ينبغي أن يقتصر على مهام التدريب والاستشارات وفي أدنى الحدود، وألا يكون للقوات الأميركية قواعد خاصة داخل البلاد، ولذلك تؤكد بغداد دومًا أن الأميركيين يوجدون في قاعدة عين الأسد غربي الأنبار إلى جانب قوات عراقية تتخذ من تلك القاعدة معسكرًا ثابتًا لها، لكن السلطات العراقية لا تتناول وجود القوات الأميركية في قاعدة أخرى داخل مطار بغداد الدولي، كانت أنشأتها بعد الغزو عام 2003 مباشرة، ولم يشاركهم فيها أحد من العراقيين، وما زالت تمثل مركزًا أساسيًّا لعملياتها.
وكانت القاعدة الأميركية في المطار قد استُخدمت بشكل خاص في إدارة عملية اغتيال الجنرال الإيراني، قاسم سليماني، والمسؤول العراقي، أبو مهدي المهندس، قرب المطار في مطلع العام 2020 وهي العملية التي كانت وراء قرار مباشر من البرلمان يطالب الحكومة بإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق، وتسببت -وما زالت- بضغوط على الحكومة العراقية من قبل إيران ومؤيديها داخل العراق، لتجنب الاقتراب كثيرًا من الولايات المتحدة.
ومن الناحية النظرية، لم يعد العراق بحاجة إلى وجود عسكري أميركي واسع بعد القضاء على خطر تنظيم داعش، كما أن عمليات التدريب والصيانة تقتصر على فئات محددة من الأسلحة الأميركية أبرزها طائرات الإف 16، وهو ما يجعل تبرير الوجود الأميركي في قواعد داخل العراق من دون مهام محددة متفق عليها مع الحكومة العراقية، أمرًا ملتبسًا، استخدمته قوى سياسية وفصائل مسلحة تعتبر نفسها جزءًا من (محور المقاومة) الإيراني، للضغط باتجاه خروج القوات الأميركية بالكامل، وبعضها شارك في هجمات ضد قواعد وأرتال أميركية في العراق وسوريا لتحقيق هذا الهدف، رغم أن هذه القوى والفصائل تعتبر أيضًا قريبة من الحكومة وجزءًا منها، وبعض مسؤوليها يتولون مهام قيادية داخل الحشد الشعبي التابع نظريًّا للقائد العام للقوات المسلحة، ومن أبرز هؤلاء زعيم كتائب حزب الله العراقي، عبد العزيز المحمداوي المكنى (أبو فدك)، الذي يتولى مهام قائد أركان الحشد الشعبي والرجل القوي فيه.
علاقة قلقة
يقع العراق في قلب منطقة التجاذب الأميركي-الإيراني، وكان في بعض الأوقات مسرحًا للصراع بين الطرفين، وكان لشكل العلاقات بين الطرفين، توافقًا أو خلافًا، تأثير مباشر على استقراره السياسي والأمني منذ ما بعد الغزو الأميركي، عام 2003.
بَنَتْ إيران شبكة واسعة من النفوذ والمؤيدين في العراق، وقد تجلى ذلك بأحزاب وقوى سياسية وأذرع اقتصادية وفصائل مسلحة ووسائل إعلامية وواجهات دينية. وبالمقابل، حققت الولايات المتحدة قدرًا أقل من النفوذ الميداني، لكنها استخدمت قدراتها السياسية والعسكرية كقوة عظمى، وربطت العراق بالتزامات معقدة، من بينها اتفاقية الإطار الإستراتيجي عام 2008، التي وضعت قواعد تسمح باستمرار الوجود العسكري الأميركي في العراق بعد الانسحاب عام 2011، وكذلك ربط حركة الأموال المتحصلة من مبيعات النفط العراقية بالخزانة الأميركية، بعدما اتخذ الحاكم الأميركي السابق للعراق، بول برايمر، في يونيو/حزيران 2003، قرارًا وضع بموجبه جميع الأموال العراقية في حساب خاص في البنك الفيدرالي الأميركي، بدعوى حمايتها من دعاوى الحجز والتعويض؛ الأمر الذي جعل قدرة العراق على سحب أمواله مرهونة بموافقات أميركية، فضلًا عن أن العراق لم يعد يستطيع التعامل بغير الدولار، وما زال هذا النظام ساريًا حتى اللحظة.
استخدمت الولايات المتحدة هذا النظام المعقد للسيطرة على الاقتصاد العراقي، ومنع الحكومات العراقية المتعاقبة من التمادي في التقرب من إيران على حساب المصالح الأميركية، كما أنه كان من أبرز وسائل مراقبة الأموال المتجهة من العراق إلى إيران، أو إلى أذرعها في المنطقة، من خلال شركات ومصارف أهلية اتُّهمت بشراء الدولار من البنك المركزي العراقي وتحويله إلى إيران وانتهاك العقوبات الأميركية؛ الأمر الذي تسبب بمعاقبة 18 مصرفًا عراقيًّا بمنعها من التعامل بالدولار، منها 14 مصرفًا خلال يوليو/تموز الماضي. واتهمت هذه المصارف، حسب صحيفة وول ستريت جورنال، بغسل أموال ومعاملات احتيالية، واحتمال مشاركة أفراد مشمولين بالعقوبات في بعضها، مع مخاوف من أن إيران قد تستفيد من هذه المعاملات.
وكان البنك الفيدرالي الأميركي قد اتخذ، في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2022، إجراءات صارمة بشأن تحويل الدولار إلى العراق، قالت الصحافة الأميركية في حينه إنها “تهدف للحد من عمليات غسيل الأموال والوصول غير القانوني للدولار إلى إيران ودول أخرى”. وبموجب تلك الإجراءات جرى حظر نحو 80 في المئة من التحويلات المالية الدولية اليومية للعراق، والتي بلغ مجموعها في السابق أكثر من 250 مليون دولار، على أساس “عدم وجود معلومات كافية حول وجهة الأموال النهائية أو أخطاء أخرى”.
تسببت الإجراءات الأميركية في حينها بانخفاض قيمة الدينار العراقي وارتفاع الأسعار وظهور أزمة اقتصادية وسياسية واجتماعية تزامنت مع تسلم السوداني مهامه رئيسًا للوزراء؛ الأمر الذي دعاه إلى وصف قرارات بنك الاحتياطي الفيدرالي بأنها تضر بالفقراء وتهدد ميزانية حكومته لعام 2023، وقال في مقابلة صحفية: إن “هذا الأمر محرج وحاسم” بالنسبة له، لكن أطرافًا سياسية أخرى في العراق توصف بأنها قريبة من إيران، كانت أكثر تشددًا في انتقاد الإجراءات الأميركية، واتهام واشنطن “باستخدام العملة سلاحًا لتجويع الناس”، كما جاء في تصريح لزعيم منظمة بدر وأحد أبرز قادة الإطار التنسيقي الشيعي الحاكم، هادي العامري .
ورغم أن هذه الإجراءات الأميركية استُخدمت من قبل ولنفس الأسباب، كما في العام 2015، إلا أن سياقها هذه المرة، ولاسيما بسبب التجاذب الأميركي-الإيراني، طرح تساؤلات عديدة في العراق عن حدود السيادة على الأموال الوطنية، وقدرة العراق فعليًّا على الخروج من دائرة الهيمنة الأميركية على قراراته، وكذلك فرص أي رئيس وزراء للعراق في تنفيذ مسؤولياته، في حال قطعت واشنطن إطلاق الأموال المطلوبة من قبل البنك المركزي العراقي، التي تكون حاسمة لعمليات الاستيراد وتوزيع الرواتب والأجور وبنود الميزانية التشغيلية، وهو ما يستهلك معظم الموازنة العراقية.
السياق الإقليمي
تزامنت الاتصالات العسكرية بين العراق والولايات المتحدة مع إعلان التوصل إلى بوادر اتفاق بين طهران وواشنطن حول إطلاق سراح خمسة سجناء أميركيين لدى إيران، ومثلهم من الإيرانيين لدى الولايات المتحدة، إلى جانب السماح بإطلاق 10 مليارات دولار من الأموال الإيرانية المجمدة في كل من كوريا الجنوبية والعراق بموجب نظام العقوبات الأميركي لتستخدمها إيران في استيراد الأغذية والأدوية والمواد الإنسانية.
من المفترض أن يكون الاتفاق قد نزع قدرًا من التوتر في العلاقة بين الجانبين، حسب صحيفة نيويورك تايمز، وربما أشاع بعض الثقة لتحقيق نتائج ذات شأن في المباحثات النووية المتعطلة بين إيران والغرب، كما أن طهران قامت على هامش الاتفاق بتخفيض حدة الهجمات التي تشنها فصائل مسلحة مدعومة إيرانيًّا على القوت الأميركية في العراق وسوريا، حسب تصريح مسؤول أميركي للصحيفة.
لكن ملامح خفض التوتر التي يفترض أن يحققها الاتفاق الذي توسطت فيه قطر وتعتبر ضامنًا أساسيًّا له، تزامنت مع تعرض القاعدة الأميركية في حقل (كونيكو) للغاز الطبيعي في ريف دير الزور الشمالي إلى قصف مجهول المصدر بثلاثة صواريخ، أواسط أغسطس/آب الحالي، وهو حدث لا يتكرر كثيرًا، لكنه عزز هذه المرة موجة من التسريبات حول توتر عسكري واسع في غرب العراق وشرق سوريا، وتوقع نشوب مواجهة بين القوات الأميركية في قواعد شرق وجنوب شرقي سوريا تساندها قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وبين الفصائل المسلحة المدعومة إيرانيًّا والمسيطرة على الطريق البري في محافظة الأنبار العراقية باتجاه منفذ الوليد الحدودي مع سوريا ومنه عبر البوكمال السورية ودير الزور باتجاه أنحاء سوريا ومنها إلى لبنان.
يعتبر هذا الطريق شريانَ ما يسمى (محور المقاومة) وعصبه الرئيس، وسيؤدي غلقه بقوات أميركية أو مساندة لها، إلى زيادة الضغوط بشدة على قوى هذا المحور داخل سوريا وقطع طريق الإمداد عن الأذرع الإيرانية ولاسيما حزب الله اللبناني، ولذلك بدا أن ارتفاع منسوب التوتر متوقع وطبيعي، وظهر خصوصًا بصيغة تسريبات عن حشود أميركية وكذلك من الفصائل المسلحة وهي تتجه نحو تلك المنطقة، فضلًا عن تدوينات لأفراد قريبين من (محور المقاومة) تتحدث عن معركة حتمية في حال محاولة غلق (رئة المقاومة) على الحدود العراقية مع سوريا.
ولم يؤكد أي مصدر رسمي هذه المعلومات، إلا أن وكالة “أسوشيتد برس”، كانت نقلت، في منتصف يوليو/تموز الماضي، عن “مسؤول دفاعي أميركي كبير” قوله: إن بلاده “تدرس عددًا من الخيارات العسكرية للتعامل مع العدائية الروسية المتزايدة”، في سماء سوريا، منذ مارس/آذار الماضي، ومع “تنامي” التعاون والتنسيق بين موسكو وطهران والنظام السوري لمحاولة الضغط على الولايات المتحدة للمغادرة. وأضاف أن بلاده لمست مزيدًا من التعاون والتخطيط وتبادل المعلومات الاستخبارية، بين الروس وقادة “فيلق القدس” الإيراني في سوريا، للضغط على الولايات المتحدة للانسحاب من هناك، حيث يوجد نحو 900 جندي أميركي في البلاد، بيد أنه أكد أن واشنطن لن تتنازل عن الأراضي التي تعمل فيها في شرق وشمال شرقي سوريا.
مثل هذا التوتر يرتبط بتداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، والاتهام الأميركي لإيران بدعم روسيا عسكريًّا لاسيما بالطائرات المسيرة من طراز (شاهد)، وبجملة تطورات إقليمية أخرى بعضها يتخذ طابعًا عسكريًّا مباشرًا، مثل الغارات الإسرائيلية المتكررة على أهداف توصف بأنها لقواعد إيرانية داخل سوريا، أو تعزيز القوات الأميركية في الخليج بآلاف الجنود وبقطع بحرية قتالية لمواجهة ما وصفته واشنطن بـ”التهديدات الإيرانية للسفن وناقلات النفط”، وقد زاد تزامن هذه التعزيزات مع أنباء التوتر في شرق سوريا، من منسوب التوقعات بتصعيد ممكن هناك.
ولا تبدو إشارات المواجهة حتمية في شرق سوريا برغم تصاعد التوتر، فمن ناحية لا تريد كل من واشنطن وطهران إفساد لحظة التفاهم النادرة وما يمكن أن تحققه مستقبلًا بعد النجاح في إبرام صفقة تبادل السجناء، كما أن إدارة الرئيس، بايدن، وهي لا تبدو حتى الآن، على الأقل وهي على وشك الدخول في سنة انتخابية، في وارد الذهاب إلى مواجهة قد تتحول إلى حرب شاملة مع الفصائل المدعومة من إيران؛ الأمر الذي قد يربك إستراتيجية التركيز على الحرب في أوكرانيا، ومنع روسيا من تشتيت الانتباه الدولي واستنزاف الموارد والاهتمام الأميركي في حرب في الشرق الأوسط، وهنا قد تكون الاستعدادات العسكرية الأميركية في الخليج أو سوريا، مجرد وسيلة ردع لمنع الروس أو الإيرانيين وأذرعهم من التمادي في استهداف القواعد الأميركية شرقي سوريا أكثر من كونها استعدادات لمواجهة عسكرية.
العراق في الوسط
لأسباب كثيرة يجد العراق نفسه عالقًا وسط دائرة التوتر الذي تكون إيران أو الولايات المتحدة طرفًا فيه، ولذلك تحرص الحكومات المتعاقبة في بغداد على بناء توازن حذر في العلاقة مع الدولتين، ومحاولة البقاء (قدر الإمكان) بعيدًا عن الانحياز لأي منهما على الأقل في الجانب السياسي.
فرضت طبيعة الاحتلال الأميركي للعراق، والتنسيق الذي حدث، لاسيما خلال عهد الرئيس الأسبق، باراك أوباما، مع إيران حول الملفات السياسية والأمنية، على تكريس نوع من الفصل بين مصالح الطرفين، وتأسيس نمط من (قواعد الاشتباك) سمحت بتعاون أمني لاسيما في الحرب ضد داعش، وكذلك في ملفات سياسية تتعلق بأوضاع عراقية داخلية، لكن هذا القدر من التوافق الذي بقي غير رسمي لكنه عملي ومؤثر، تعرض لنكسة كبيرة وحاسمة مع نهاية العام 2019 حينما حصلت جملة أحداث بدأت بقتل مقاول مدني أميركي بقصف قاعدة أميركية قرب كركوك بشمال العراق، وانتهت مطلع العام 2020 باغتيال طائرة أميركية مسيَّرة الجنرال الإيراني، قاسم سليماني، ورفيقه المسؤول العراقي، أبو مهدي المهندس، في بغداد.
وخلال السنوات الماضية منذ تلك الحوادث تعاملت ثلاث حكومات عراقية بحساسية عالية مع تصعيد مستمر ومتبادل، بين الطرفين داخل العراق، لم يتخذ مظهرًا عسكريًّا كبيرًا، لكنه كان يضغط على الحكومة لاتخاذ موقف من الولايات المتحدة، تقوده أطراف مؤثرة في المشهد السياسي من الأحزاب الدينية الشيعية المعروفة بقربها التقليدي من إيران، وتسيطر عمليًّا على مجاس النواب ومعظم الأجهزة الأمنية، لكن نفس هذه السنوات كانت شهدت أيضًا تغييرات مهمة في المشهد السياسي العراقي بسبب تداعيات حراك تشرين، واضطرار رئيس الوزراء المقرب من الأحزاب الشيعية، عادل عبد المهدي، للاستقالة، واختيار مصطفى الكاظمي، العلماني الشيعي، بدلًا عنه.
لقد شهدت سنوات ولاية الكاظمي (2020-2022) الكثير من التجاذب العنيف بينه وبين قوى سياسية ومسلحة منتظمة ضمن الحشد الشعبي أو تعتبر نفسها جزءًا من (محور المقاومة) طالبته بطرد القوات الأميركية تنفيذًا لقرار البرلمان واعتبرت أنه كان قريبًا أكثر مما يجب من واشنطن والغرب ودول عربية كانت على خلاف مع إيران في حينه وأبرزها السعودية، ومارست هذه القوى المسلحة قدرًا كبيرًا من الضغوط على الكاظمي كان من بينها قصف منزله بطائرة مسيرة، ومحاصرة مقره الحكومي في مناسبة أخرى، ولم تنجح زيارات عدة قام بها إلى إيران في تقريبه من هذه الفصائل المسلحة أو بناء نمط من التوازن بين علاقاته الغربية والإيرانية.
ويبدو أن خَلَفه في رئاسة الحكومة، محمد شياع السوداني، أكثر حظًّا في تهدئة القوى المسلحة بسبب ترشيحه بالأصل من قبل الإطار التنسيقي الذي يضم القوى السياسية الشيعية الرئيسية والمؤثرة في المشهد السياسي والأمني والأقرب عراقيًّا إلى إيران، ولذلك فهو لم يجد معارضة علنية في الأقل لاستقباله المتكرر بشكل غير مسبوق للسفيرة الأميركية، ولا في التنسيق السياسي أو الأمني مع واشنطن، أو في علاقاته العربية، أو حتى في بعض الإجراءات الصارمة التي اتخذها ومن بين ذلك إغلاق منصة تليغرام بسبب قيام بعض الحسابات العراقية التابعة لجماعات شيعية تدَّعي علاقتها بالفصائل المسلحة بنشر ما وصفته الحكومة بمعلومات تنتهك البيانات الشخصية ولمخاوف تتعلق بالأمن القومي، وقد أُعيد فتح المنصة لاحقًا بعدما ذُكر عن (تعهدات) قدمتها إدارة المنصة روسية الأصل بمنع نشر المعلومات غير المسموح بها.
ويعلن السوداني عن حرصه على تنفيذ برنامج تنموي واسع بميزانية ضخمة، كما أن القوى السياسية الشيعية والفصائل المسلحة الني تدعمه وتعتبره مرشحها، تؤكد أنها لن تقوم بما يمكن أن يتسبب بفشله، ومن بين ذلك بطبيعة الحال إحراجه في مواجهة مع الولايات المتحدة التي تمسك بالاقتصاد العراقي وبجزء أساسي من الأسلحة الثقيلة والطائرات العراقية، وهي التي أشرفت على تدريب وتجهيز جهاز مكافحة الإرهاب العراقي الذي يعتبر قوات نخبة، ويتصل مباشرة بالقائد العام للقوات المسلحة، دون تبعية للجيش.
لكن مثل هذا الحرص من قبل السوداني أو رعاته ومؤيديه في الإطار التنسيقي، على استمرار الهدوء الأمني والسياسي، سيتعرض لاختبار حاد في حال تصاعد التوتر على الحدود مع سوريا، وقيام فصائل عراقية بالمشاركة في مواجهة القوات الأميركية هناك، فحينها سيكون من مسؤولية الحكومة العراقية أن تغلق حدودها لمنع مسلحين عراقيين من الانتقال إلى سوريا وهو ما يبدو أمرًا صعبًا عمليًّا، وحينها ستغامر بامتداد المواجهات المحتملة إلى داخل الأراضي العراقية، وتحمل تكاليف عالية أمنيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا.
وقد لا يكون وزير الدفاع العراقي أو مرافقوه قد ناقشوا أيًّا من هذه الاحتمالات في واشنطن، لكن بناء قنوات اتصال فعالة قد يكون ملائمًا لتجنب تداعيات أي سياق متوتر. وقد تبدَّى الاهتمام بنتائج زيارة الوفد العراقي وبما تريده واشنطن، بعد عودة السفيرة الأميركية التي شاركت في المفاوضات ضمن وفد بلادها والتقائها في بغداد وخلال 48 ساعة برئيس الوزراء وعدد كبير من القادة السياسيين في مقراتهم، في نشاط استثنائي هو أقرب إلى إيصال رسائل أو تعميم موقف منه إلى مناقشات إجرائية.
مركز الجزيرة للدراسات