إيران: خدعة الاعتدال مقابل التشدّد

إيران: خدعة الاعتدال مقابل التشدّد

قد يختلف البعض على نسبة نجاح تصدير الثورة الإسلامية وكلفة توسيع نفوذ إيران، لكنّ النجاح الإيراني كان يأتي معظم الأوقات نتيجة مفاجأة وخداع الغرب والدول الراغبة في تحسين علاقاتها مع طهران من خلال إعطاء إشارات متناقضة حول توجّهاتها وسياستها الداخلية، فيؤدّي ذلك إلى إرباك وضياع هؤلاء بتفسير صراع مزعوم بين متشدّدين وإصلاحيين داخل النظام.

أميركا وتبسيط الأمور
الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة، تفضّل تبسيط الأمور ومحاولة فهم الوضع الداخلي في إيران بين معتدل ومتشدّد، إصلاحي ومحافظ، فيما إيران تفضّل التورية والرماديّة.
كان الجدل في العواصم الغربية ينتهي دائماً إلى قناعة بضرورة انتهاج سياسة تساعد خطّ الاعتدال وعدم الذهاب إلى أقصى التشدّد مع طهران كي لا يؤدّي ذلك إلى تقويض قوى الاعتدال داخل النظام ومساعدة المتشدّدين. وقد استفاد النظام لعقود من هذه المقاربة.
على الرغم من مرور عقود من سوء فهم السياسة الإيرانية والفشل في ثنيها عن مغامراتها في المنطقة والعالم، ما يزال الغرب يعاني من التوصّل إلى الإجابة عمّا إذا كان يوجد حقّاً حمائم وصقور داخل النظام. قد يكون أحد أهمّ عوامل الضبابية في فهم إيران داخلياً، هو عدم تمييز الإصلاحيين من المعتدلين. الحركة الإصلاحية المعارضة قويّة، لكن من يُسمّون الحمائم والمعتدلين والبراغماتيين موجودون في صفوف النظام يتبوّؤون مناصب عليا، سواء في القضاء أو المؤسّسات الثورية، وينفّذون أدواراً يفصّلها المرشد حسب مقتضيات المرحلة وحاجات النظام.

الجدل في حقيقة توجّهات إيران ليس محصوراً بالغرب، فالدول العربية، وتحديداً الخليجية، عانت من محاولة فهم السياسة الإيرانية، وكانت دائماً تقع في حبال لعبة المتشدّدين مقابل المعتدلين

تاريخ العلاقات الأميركيّة الإيرانيّة
في تاريخ العلاقات الأميركية الإيرانية المعقّدة، تبرز فضيحة “إيران غايت” وصفقة الرهائن كنقطة محورية، وتذكّرنا بأوقات من التوتّر والتسوية السياسية.
في تشرين الثاني 1986، تمّ الكشف عن فضيحة عُرفت باسم “إيران غايت”، كانت تتعلّق بتورّط الولايات المتحدة في بيع أسلحة إلى إيران. تجلّى ذلك خلال فترة الحرب الإيرانية العراقية، حين قامت الإدارة الأميركية ببيع الأسلحة لإيران في ضوء اعتبارها عاملاً للاستقرار في المنطقة ورغبةً من واشنطن بتقوية الجناح المعتدل.
في الوقت نفسه، كانت الولايات المتحدة تحاول التوسّط للإفراج عن الرهائن الأميركيين الذين تمّ احتجازهم في لبنان من قبل جماعات مرتبطة بإيران. تطوّرت الأمور إلى ما عُرف بصفقة الرهائن والأسلحة، التي قامت الإدارة الأميركية وفقها بتقديم أسلحة إلى إيران مقابل إطلاق سراح الرهائن. وتبريراً للتعاطي مع إيران المعادية للولايات المتحدة ورافعة شعار الموت لأميركا، اعتقد البعض أنّ هناك فرصة سانحة لتعزيز معسكر المؤيّدين للانفتاح على واشنطن داخل النظام.
في آذار 1986، قام روبرت ماكفارلين، مستشار الأمن القومي الأميركي في ذلك الوقت، بزيارة سرّية لطهران في محاولة لتحسين العلاقات بين البلدين. كانت هذه الزيارة هي الأولى من نوعها منذ الثورة الإسلامية في إيران في عام 1979. ثمّ تبيّن فيما بعد لواشنطن أنّها كانت تطارد أوهاماً ووقعت في سراب المتشدّدين مقابل المعتدلين، لأنّ إيران استمرّت بتمويل المنظّمات الإرهابية التي تضرب مصالح الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة.
كانت العواصم الأوروبية تقع أيضاً فريسة الإشارات المتناقضة مع طهران. ففي الوقت الذي كانت تنتهج فيه سياسة انفتاحية مع طهران من أجل استمالتها لتصبح أكثر انسجاماً مع المعايير الدولية، كانت طهران تقوم بعمليات تصفية لمعارضين إيرانيين في الخارج.
لكنّ سجلّ إيران المخادع للغرب لم يثنِ واشنطن والعواصم الغربية عن انتهاج سياسة دعم تيار “معتدل” في طهران، فكان الاتفاق النووي في 2015. ومع ذلك لم تغيّر إيران من نشاطاتها في المنطقة، وفسّرت التساهل الغربي معها على أنّه ضعف، فتشجّعت على المضيّ في سياساتها التوسّعية.

ماذا عن العرب؟
الجدل في حقيقة توجّهات إيران ليس محصوراً بالغرب، فالدول العربية، وتحديداً الخليجية، عانت من محاولة فهم السياسة الإيرانية، وكانت دائماً تقع في حبال لعبة المتشدّدين مقابل المعتدلين.
هنا يسجّل أنّ تفجير الخُبر في السعودية الذي حصل في 25 حزيران 1996 واستهدف مجمّع الخُبر السكني، الذي كان يقطن فيه العديد من الجنود الأميركيين، وقع في عهد رئاسة هاشمي رفسنجاني المعروف بعلاقاته الجيّدة مع المملكة العربية السعودية، وكان يُعرف ببراغماتيّته. وتبيّن فيما بعد أنّ هناك خيوطاً تؤكّد تورّط مجموعات مرتبطة بإيران في حادثة التفجير.

إقرأ أيضاً: إيران – السعوديّة: تعايش لا تقارب

تحاول المملكة العربية السعودية اليوم أن تفسّر موقف إيران الحقيقي من موضوع التقارب معها. يحظى الاتفاق الإيراني بدعم إيران الرسمية ووزير الخارجية الذي يمثّل الدولة. ولكنّ الجميع يجتهد ليعرف حقيقة موقف الحرس الثوري، وتحديداً القوى التي ما تزال تعيش حلم تصدير الثورة، وما إذا كانت تريد أن تعطّل الاتفاق السعودي الإيراني.
وحده المرشد يلعب دور المايسترو. فهو يهادن بوجوه يطلق عليها الغرب لقب الاعتدال أمثال خاتمي وروحاني وقبلهما رفسنجاني، ويواجه بالمؤسّسات التابعة له مباشرة وحسب مقتضيات المرحلة. هكذا تكون لعبة المتشدّدين مقابل المعتدلين من أهمّ أدوات السياسة الإيرانية، ولا أحد يعرف أهدافها إلا مرشد الثورة. وحدها إسرائيل كانت ترفض منطق الدول الغربية القائم على ضرورة الانفتاح وتشجيع قوى الاعتدال لتكون لهذه الأخيرة الغلبة في الجدل داخل النظام.