أعادت قضية الخيام التي نصبها “حزب الله” اللبناني في منطقة مزارع شبعا على طول الخط الأزرق بين لبنان وإسرائيل بتاريخ 11 يونيو 2023، طرح العديد من التساؤلات حول التداعيات على مفهوم الردع المتبادل بينه وبين إسرائيل منذ آخر اشتباك بينهما في يوليو 2006، خاصة بعد تعثر التحركات الدبلوماسية لحل القضية، واستمرار الحزب في نصب إحدى الخيمتين بعد إزالة الأخرى، مع حفاظه على نفس العدد من مقاتليه.
وجاءت قضية الخيام بعد سلسلة سابقة من القضايا والأحداث بين الطرفين؛ كقضية حقل “كاريش” للغاز، والعبوة المتفجرة في منطقة “مجدو” شمال إسرائيل، وإطلاق صواريخ من الأراضي اللبنانية صوب المستوطنات الإسرائيلية، ومباشرة إسرائيل ببناء جدار أمني حول قرية “الغجر”، بالإضافة الى قضية ترسيم الحدود ما بين إسرائيل ولبنان. وهي كُلها تدعو إلى التساؤل حول احتمالات تطور قضية الخيام وفقاً لطبيعة التحرك الإسرائيلي تجاهها والرد المتوقع من قبل “حزب الله”.
خلفية تاريخية حول مناطق نصب الخيام
تعود أهمية قضية مزارع شبعا المتنازع عليها بين لبنان وإسرائيل، إلى موقعها الاستراتيجي على المثلث الحدودي بين لبنان وإسرائيل وسوريا، والتي احتلتها إسرائيل عام 1967. لكن الجدل حول أحقية السيادة على تلك المزارع والتلال المحيطة بها برز بعد رفض إسرائيل التنازل عنها وعن الجزء الجنوبي من قرية الغجر عقب انسحابها من جنوب لبنان عام 2000 وترسيم ما عرف بالخط الأزرق، بحجة أنها أراض سورية وليست لبنانية، وهو ما توافق مع موقف هيئة الأمم المتحدة من تلك المزارع. وقد زادت القضية تعقيداً بعد اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بالسيادة الإسرائيلية الكاملة على هضبة الجولان في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في العام 2019، وهو ما يعني الاعتراف الأمريكي الضمني بسيادة إسرائيل على مزارع شبعا والتلال المحيطة بها.
ويأتي تحريك قضية مزارع شبعا من جانب “حزب الله” في ظل أوضاع “متأزمة” على مستوى الإقليم، كما على المستويات اللبنانية والسورية والإسرائيلية، سواء من جهة التصعيد الإسرائيلي الإيراني، ومن جهة الأزمة السياسية والاقتصادية في لبنان والتي يُعد “حزب الله” طرفاً فيها، ومن جهة تعقيدات الأزمة السورية، وأخيراً من حيث الأزمة الداخلية في إسرائيل بسبب خطة الإصلاحات القضائية التي يقودها الائتلاف الحكومي.
وبذلك؛ يُدرك “حزب الله” ومن ورائه إيران، التعقيدات السابقة، وخاصة ما يرتبط منها بالداخل الإسرائيلي، ويبدو أنه يسعى لاستثمار اللحظة في تحقيق أهداف سيادية لبنانية، قد تقوي من موقفه تجاه الملفات اللبنانية الشائكة وفي مقدمتها انتخاب رئيس للجمهورية. وبنصب الخيام فإن الحزب يُرسل رسالة سياسية وعسكرية إلى إسرائيل، تُعززها المناورات التي أطلقها بالقرب من الخط الأزرق في جنوب لبنان في مايو 2023، وما تلاها من أحداث؛ منها محاولة عناصر من الحزب استهداف السياج الحدودي مع إسرائيل قبل إصابتهم بنيران إسرائيلية في 12 يوليو. إلى جانب المؤشرات على تنامي دور الحزب في تقديم الدعم اللوجستي والتدريب للمجموعات المسلحة في الضفة الغربية.
ماذا يريد “حزب الله”؟
يسعى “حزب الله” من خلال نصب الخيام في المناطق المتنازع عليها، لتحقيق جُملة من الأهداف المركبة، والتي تتداخل مع الاعتبارات السياسية والأمنية الإيرانية، ومع المعطيات الداخلية اللبنانية وموقف الحزب منها، وتكمن تلك الأهداف فيما يلي:
أولاً: تقليص قدرة الردع الإسرائيلية: يستغل الحزب الانقسامات العميقة في المجتمع الإسرائيلي والتي يعتقد أنها تضعف الحكومة والجيش الإسرائيليين عن الإقدام على خطوات ضد الحزب قد تُفضي إلى تصعيد بين الجانبين وإن كان محدوداً، وبذلك فإن خطوات الحزب تندرج ضمن سياق الحرب النفسية المعنوية الموجهة.
ثانياً: تحقيق انتصار تكتيكي: يتمثل في الضغط على إسرائيل للتراجع عن بناء السياج الشائك والجدار الإسمنتي المحيط بقرية الغجر، وهو السياج الذي بدأت إسرائيل ببنائه في يوليو 2023. ومن شأن نجاح الحزب في ذلك أن يُعزز مكانته في الساحة اللبنانية، ويمنحه هامشاً من المناورة لتصعيد المطالبات اللبنانية الأخرى المتعلقة باستعادة السيادة على مزارع شبعا والتلال المحيطة بها.
ثالثاً: إحياء قضية المناطق المتنازع عليها إقليمياً ودولياً: يتطلع الحزب لإحياء قضية الأراضي اللبنانية المحتلة في الإقليم، وإعادة فتح النقاش حولها في الهيئات الدولية، في ضوء عدم الاعتراف اللبناني بالخط الأزرق كخط للحدود مع إسرائيل، واقتراب موعد التجديد لقوات اليونيفيل.
رابعاً: تعزيز وضع الحزب في لبنان: يهدف الحزب إلى التخفيف من حدة الاستقطاب السياسي في الداخل اللبناني، وتصاعد النقد الموجه إليه من قبل تيارات وأحزاب سياسية أخرى، خاصة بعد تعثر الحكومات المتعاقبة عن حلحلة الأزمات الداخلية اللبنانية.
خامساً: التأكيد على “وحدة الساحات”: وهي الاستراتيجية الإيرانية لتطويق إسرائيل وإضعاف قُدرتها على المُبادرة في مهاجمة أهداف عسكرية ونووية إيرانية، وهو ما يتطلب بقاء الساحة اللبنانية مفتوحة وجاهزة أمام احتمالات التصعيد مع إسرائيل.
احتمالات التصعيد العسكري بين إسرائيل و”حزب الله”
رغم أنّ المؤشرات الظاهرة تميل لصالح احتمالات الحل السياسي لقضية “الخيمة” بسبب المخاطر الكبيرة التي تحملها المواجهة العسكرية للطرفين، وفي ضوء نجاح الحزب في دفع الفواعل الدولية للتدخل دبلوماسياً واقتراح الحلول السياسية، والتي كان آخرها المقترح الأمريكي القاضي بتفكيك “الخيمة” مقابل توقف إسرائيل عن بناء السياج والجدار الإسمنتي حول قرية الغجر، وتزايد احتمالات قبول الحزب لذلك المقترح بعد إشارة أمين عام الحزب حسن نصر الله في 12 يوليو 2023 إلى ضرورة الانسحاب الإسرائيلي من عدة نقاط عند الحدود مع لبنان، مؤكداً أنه “لا بد من تكامل الجهود بين الدولة والمقاومة بمساندة من الشعب اللبناني، لكي نستعيد أرضنا المحتلة في قرية الغجر”.
ستراتيجيكس-خيام-حزب-اللهin-2.jpg
إلا أنّ احتمالات تطور تلك القضية نحو مواجهة عسكرية محدودة تبقى قائمة، خاصة في ظل الضغوط على الحكومة الإسرائيلية مع استمرار عمليات إطلاق النار التي تستهدف المستوطنين في الضفة الغربية، والتي كان آخرها عمليتي حوارة والخليل، وتزايد اتهامات أحزاب اليمين لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بالعجز عن وقف تلك الهجمات التي تستهدف الإسرائيليين، ومن دلالات ذلك قرارات المجلس الوزاري المصغر للشؤون الأمنية والسياسية “الكابينت” في 20 أغسطس بتفويض وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، بالتحرك لتنفيذ سلسلة “إجراءات” تم الاتفاق عليها لـ “محاربة” منفذي العمليات و”من يقف خلفهم ويمولهم”. وذلك القرار يشرعن لوزير الدفاع تحريك الجيش لإزالة خيمة “حزب الله”، ما يعني اندلاع اشتباك مباشر مع الحزب، والتي قد تبدأ محدودة لكنها في الوقت نفسه مُرشحة للاتساع إلى حرب طويلة تمتد لأيام وربما أسابيع. وهو الأمر الممكن بحكم العديد من الحوادث الحدودية عالمياً. من أمثلتها ما حدث في منطقة وادي “غالوان” على الحدود الهندية الصينية، إذ تطورت حالة التوتر والاحتقان إلى مناوشات يومية بين جنود الدولتين، وصلت ذروتها في يونيو 2020 حين اشتبك الجيشان باستخدام الأسلحة البيضاء والهراوات، ما أدى الى مقتل عشرين جندياً هندياً، وأربعة جنود صينيين.
وأخيراً؛ شكلت قضية خيام “حزب الله” فصلاً جديداً من فصول التوتر مع إسرائيل، حيث حافظ الطرفان على مستوى متقدم من ضبط النفس خلال فصول التوتر المختلفة بينهما منذ العام 2006، لكن تشير معادلات الردع والتغير الحاصل في موازين القوى، وتعدد ساحات التصعيد الإسرائيلي الإيراني، سواء في الضفة الغربية أو قطاع غزة أو جنوب لبنان، أن احتمالات الاشتباك بين إسرائيل و”حزب الله” ترتفع يوماً بعد يوم، حتى إذا ما تم تحقيق إنجاز سياسي في قضية الخيام بتطبيق المقترح الأمريكي للحل، فإن بؤر التصعيد والتوتر متعددة وقائمة.