شهدت مدينة السويداء، جنوب سوريا، أمس الجمعة، الفعالية الجماهيرية الأوسع منذ بدء الاحتجاجات على النظام في 20 آب/أغسطس الماضي، وتصادت ردود فعل مرحّبة في درعا، المجاورة، وفي المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في الشمال، وتم منع فعاليات تأييد مشابهة في مناطق سيطرة النظام، مثل دير الزور، لكنّ أصداء التضامن مع تلك الاحتجاجات كان يمكن تلمّسها في مجمل مناطق سوريا.
يعبّر هذا الاحتشاد الكبير عن تزايد أعداد المواطنين المجترئين على المشاركة في حراك علنيّ سلميّ في ظل نظام فائق الوحشية والقسوة والاستهانة بأدنى حقوق البشر، وهو أمر يحمل معاني مهمّة كثيرة، ليس بالنسبة لمناطق الاحتجاجات فحسب، بل لمجمل الوضع السوري.
انطلقت الاحتجاجات بعد قرار لحكومة النظام برفع الدعم عن الوقود، غير أن إحدى المسائل المهمّة التي نجح الحراك في رفعها والتأكيد عليها، هي الربط بين تدهور الأوضاع الاقتصادية المهول، وسياسات النظام العامّة، منذ قراره مجابهة احتجاجات شعبية واسعة مشابهة، في مجمل المحافظات السورية، عام 2011، حتى الآن.
استعادت احتجاجات السويداء شعارات المظاهرات السلميّة العظيمة للثورة التي طالب فيها السوريون، حينها، بحقوقهم كبشر، وما لبث اتخاذ النظام للخيار القمعيّ المعمّم إلى تجذر المطالب، وصولا إلى المطالبة بإسقاط النظام. استوعب أهل السويداء المنتفضون هذه الخبرة الثورية، واستخدموا خواتيمها السياسية الآنفة، فانتقلت الاعتصامات العفوية المحدودة المطالبة بالتراجع عن القرارات الاقتصادية البائسة الأخيرة إلى مظاهرات شعبية كبيرة تقوم بترديد شعارات سياسية واضحة في منطقها مثل «سوريا لنا وليست لبيت الأسد» و«سوريا حرّة. بشّار برّه».
لا يمكن فهم أهمية هذا الحراك الكبير من دون فهم المثال الذي يقدمّه في مواجهة الانسداد السياسي الكامل الذي يشكّله بقاء نظام لم تعد لديه عوامل البقاء.
لقد فقد نظام الأسد، بداية، القدرة على الحفاظ على الاستقرار الداخليّ، فإضافة إلى كونه ممنوعا بالقوة من السيطرة على جغرافيا البلد، المقسمة ضمن سلطات احتلال عديدة، فهو لا يملك حتى مقدّرات سلطته الذاتية (باستثناء سلطة قمع السوريين) كونه محكوما بتوازن قوى بين روسيا وإيران، اللتين تملكان، إضافة إلى قواهما العسكرية، والميليشيات التي تتحكمان بها، سلطة سيادة على النظام نفسه، إلى درجة أن بعض الفرق العسكرية الضاربة، مثل «الفرقة الرابعة» التي يقودها أخو الرئيس ماهر الأسد، تعتبر أحد أذرع إيران في سوريا، وهو ما دفع روسيا لتشكيل ما يسمى «الفيلق الخامس» المؤلف من فصائل صالحت النظام تحت إشراف موسكو، وتقوم هاتان الجهتان بالتنافس على جبايات المعابر، بينما تشرف الفرقة الرابعة على «دولة المخدرات» الكبيرة التي تدرّ المليارات.
لقد تحوّلت مهام قوات النظام السوري، على عكس جيوش العالم الأخرى، من حماية أمن البلاد واستقرارها والرد على أعدائها والحفاظ على السلم العام وضمان الممتلكات والحقوق والقانون إلى أدوات لقوى خارجية، وأجهزة لقمع الشعب وتهديد حقه في الحياة، ورعاة لعصابات المخدرات الموظفة للتهريب إلى الدول العربية والأجنبية.
انعدم، في ظل سياسات النظام السوري، الحد الأدنى من تأمين فرص العمل والخدمات الصحية والتعليمية والإدارية، ولم يبق من صورة النظام وشرعيته المهزوزة غير التهديد بالعنف الأقصى، الذي خبره السوريون لعقود، واللعب على التمايزات الطائفية، التي ظهرت مؤخرا عبر شرائط فيديو لمؤيدين للنظام فاقعة في تهديداتها للدروز، الذين يشكلون أغلبية سكان السويداء، بالعلويين، الذين ينحدر الرئيس وعائلته منهم!
يعيد حراك السويداء، للأسباب الآنفة كلها، الروح لسوريا المُفقرة المنتهكة المعذبة والمشرذمة، ويذكّرها بحلم الحرية والخلاص من العسف والاستبداد والفساد وحكم العائلة البائس، كما يذكّرها بوقائع كان فيها سكان السويداء، في قلب النضال الوطني العامّ، ومعارك التحرر من الاستعمار، حين توافق السوريون، على زعيم المنطقة، سلطان باشا الأطرش قائدا للثورة السورية الكبرى ضد الفرنسيين، وهي لحظة، ولو تأخرت، فإن أهمّيتها لا تنقص البتة.
القدس العربي