تشهد محافظة السويداء جنوب سوريا ذات الغالبية الدرزية منذ 17 أغسطس (آب) الماضي تظاهرات مناهضة للحكومة احتجاجاً على ارتفاع التكلفة المعيشية بعد رفع الدعم الحكومي عن المحروقات، بالتزامن مع ارتفاع سعر صرف الدولار، مما خلق أجواء من التململ مع انتشار مظاهر الفقر في المحافظة، علماً بأن غالبية السوريين يعيشون تحت خط الفقر، ويعاني أكثر من 12 مليوناً من انعدام الأمن الغذائي، وفقاً للأمم المتحدة.
ساد الإضراب العام المحال التجارية والمرافق العامة في محافظة السويداء. وكان رئيس النظام السوري بشار الأسد أصدر نهار 16 أغسطس مرسوماً قضى بزيادة الأجور بنسبة 100 في المئة، زيادة الحد الأدنى لأجور العاملين في القطاع الخاص إلى قرابة 13 دولاراً في حين يراوح راتب موظف القطاع العام بين 10 و25 دولاراً، وفق سعر الصرف في السوق السوداء، لكن في المقابل كانت الحكومة قد أعلنت قرارات برفع أسعار المحروقات بنسبة تصل إلى 200 في المئة.
وكانت عناوين التظاهرات قد تغيرت من معيشية إلى سياسية وصولاً إلى المطالبة بإسقاط النظام، وانتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي فيديوهات لتجمعات احتجاجية، تخللها إحراق إطارات وقطع طرقات مع هتافات بينها “الحرية” و”يسقط بشار الأسد”، و”بدنا ناكل يا بشار” و”ارحل، ارحل يا بشار”.
كما تداول نشطاء صوراً للافتات طالبت بتنفيذ القرار الأممي رقم 2254 الذي تحدث عن تحقيق عملية الانتقال السياسي بهدف إنهاء النزاع وعلى أن الشعب السوري هو من سيحدد مستقبل بلاده.
يقول ناشط من مدينة شهبا، في تصريح خاص، إن أهازيج مثل “ما منكل وما منمل يا بشار ارحل وفل”، ويا بشار ما بدنا أعذار ما بدنا تجار بس اتركنا وارحل”، وغيرها من الهتافات المطالبة بإسقاط رئيس النظام السوري بشار الأسد، انتشرت بين القرى والبلدات التي تحيي وقفات احتجاجية ليلية، يشير إلى أن دروز الجولان السوري وفلسطين أعلنوا تضامنهم مع الحراك الشعبي في السويداء، ودعوا إلى تنفيذ وقفات تضامنية مع ثورة السويداء وانتفاضة الشعب السوري ضد نظام الأسد.
ونشر ناشطون على مواقع التواصل دعوة من الحراك الشعبي في الجولان إلى وقفة تضامنية تحت شعار “لا تحرير للجولان من دون شعب حر مالك لإرادته وكرامته ومقدراته”، في ساحة سلطان الأطرش في مجدل شمس. كما كان لافتاً تضامن ناشطين من الساحل السوري مع ثورة السويداء عبر رفع لافتات تؤيد الحراك الشعبي وتطالب برحيل الأسد.
“تظاهرات السويداء سياسية”
“اندبندنت عربية” تحدثت مع أكثر من جهة ومراقبين حقوقيين في منطقة السويداء، طلبوا عدم ذكر أسمائهم، كي لا يتهموا من قبل النظام أنهم تابعون لجهات خارجية.
يقول محام وناشط في الثورة، الناس منذ بداية نزولها إلى الشارع كانت واعية تماماً أن المسؤول الوحيد عما آلت إليه الأوضاع هو بشار الأسد. لذا ومنذ اليوم الأول كانت التظاهرات بقصد إسقاط النظام ورحيل بشار.
يضيف، أن التظاهرات التي حملت عنوان “قانون عدالة كرامة”، لم تعد حكراً على ساحة الكرامة (الواقعة في قلب مدينة السويداء)، بل بدأت تأخذ طابعاً تنسيقياً خصوصاً بعد انضمام القرى الدرزية الواحدة تلو الأخرى، وإعلانها الانضمام إلى التظاهرات، وتشهد جميعها وقفات مسائية تأكيداً على الاستمرار في الاحتجاج والمطالبة بالانتقال السياسي السلمي، وتعزيز نظام اللامركزية الإدارية.
يوضح، أن أكبر التظاهرات هي التي خرجت في الأول من سبتمبر (أيلول) الحالي، وذلك منذ بدء الحرب السورية عام 2011، إذ كان لافتاً الحضور النسائي وخرجن بزي أهل السويداء التقليدي ورفعن علم الموحدين.
يرى ناشط إعلامي من داخل السويداء، أن أهمية احتجاجات الجمعة الماضية أنها حظيت بمباركة مشيخة العقل لطائفة الموحدين الدروز حكمت الهجري. ويشدد أن نظام بشار يعد بحكم الساقط داخل السويداء، حيث تمزقت صوره ونزعت اللافتات المؤيدة له وكل ما يدل على رموز النظام وأغلقت مراكز “حزب البعث”.
مباركة مشايخ العقل
وكان الشيخ حكمت الهجري، الذي تنحصر مكانته الدينية في الريف الشمالي والشمالي الشرقي والريف الغربي للسويداء (دار القنوات)، أعلن دعمه للاحتجاجات في السويداء منذ بدايتها، علماً بأن “مشيخة العقل” في السويداء هي هيئة روحية وزعامة دينية متوارثة منذ العهد العثماني، وهناك ثلاثة شيوخ عقل يتصدرون رأس الهرم في الطائفة الدرزية، هم إضافة إلى الهجري، يوسف جربوع وحمود الحناوي، واختلفت مواقف مشايخ العقل الثلاثة في السويداء من الاحتجاجات على رغم الاتفاق في نهاية المطاف على تأييدهم جميعاً لمطالب الشعب.
الهجري من جانبه أصدر بياناً في 23 أغسطس الماضي، أكد فيه “نفاد الصبر وفوات الأوان”، وقال إن “الصمت لا يعني الرضا، فقد طاولت التصرفات والإجراءات لقمة العيش، فآن الأوان لقمع مسببي هذه الفتن والمحن ومصدري القرارات الجائرة المجحفة الهدامة، ولنقتلع من أرضنا كل غريب وكل مسيء”.
أضاف أنه من “حق الناس أن تصرخ وتستغيث، من حق الناس أن تتوقف عن عمل أصبح يجلب لهم الإذلال، ومن العيب أن نرى هذا التدمير ونبقى صامتين” وأيد الحراك، وطالب المتظاهرين بعدم الاعتداء على أي مؤسسة حكومية والحفاظ على سلمية التظاهرات.
وكان المتظاهرون رفعوا صور الشيخ الهجري مع عبارته “اللي بدو يبيع كرامتو يصطفل، بس مش مخول يبيع كرامة ربعو (الذي يريد بيع كرامته حر، لكن لا حق له في أن يبيع كرامة أهله)”.
p3_(4).jpg
صورة عن بيان أمين فرع حزب البعث في السويداء (اندبندنت عربية)
بدوره، أشاد شيخ العقل حمود الحناوي، الذي تنحصر مكانته في منطقة سهوة البلاطة في الريف الجنوبي للسويداء بحضور المرأة، ووصفها بـ”المرأة المعروفية أخت الرجال”، أي التي تنتمي لبني معروف طائفة الموحدين الدروز.
وأضاف موجهاً خطابه لمن ينتقدون مشاركة رجال الدين في تظاهرات السويداء، “نحن، رجال الدين، لسنا رجال سياسة، لكننا نقول للملأ إننا نعرف بالسياسة ونحسنها حين تعترض البلاد مواقف حرجة ستجدون مشايخ العقل”.
وكان عدد من الضباط المتقاعدين على رأسهم العميد نايف العاقل زاروا الشيخ حكمت الهجري وقدموا رؤيتهم لسير الأمور في السويداء ومقترحاتهم، وأصدروا بعد ذلك بياناً، أعلنوا فيه مشروعاً لإدارة السويداء وريفها من خلال تشكيل لجنة مجلس مؤقت ولجنة عسكرية لإدارة شؤون المحافظة وتسيير أمور السكان فيها بعد طرد وإيقاف عمل الدوائر التابعة لحكومة دمشق كافة.
ونص البيان في أحد بنوده على تشكيل هيئة متخصصة تضم جميع أطياف ومكونات المجتمع في السويداء، لتأكيد وحدة الأراضي السورية، وشدد البيان على ضرورة العمل من أجل الخروج من الأزمة السياسية في البلاد عبر دعم الحل السياسي السلمي وفق القرار 2254.
السويداء معضلة النظام
من المهم الإشارة إلى أن السويداء لطالما تمتعت بخصوصية وحالة سياسية وأمنية فريدة، وفقاً لدراسة أعدها “مركز جسور للدراسات”، إذ لا يملك النظام سيطرة فعلية على المحافظة، على رغم أنها تصنف نظرياً ضمن المناطق الخاضعة لسيطرته، وفي الوقت نفسه فإنها لم تتعرض لاجتياح عسكري من قبل النظام لاستعادة السيطرة الفعلية عليها، نظراً لمعادلات داخلية وخارجية وفرت للمحافظة هذا التموضع المتفرد، هذا ما سمح لكثير من الشباب البقاء خارج الخدمة العسكرية الإلزامية خلال السنوات الماضية، كما أدى غياب المعارك العسكرية التي تستهدف المحافظة إلى غيابهم تقريباً عن قوائم النازحين واللاجئين، بالتالي لم تتلوث أيديهم بدماء أهلهم من السوريين، وهو ما يفسر مساعي النظام السوري الحثيثة لإشعال الفتن وخلق حالة من التوتر فيها، بهدف إحداث ثغرة يمكن من خلالها اختراق المحافظة القريبة من درعا، وهو ما يفسر حقد وخوف النظام وسياسة الانتقام الممنهجة التي ينفذها ضد المحافظتين الجارتين “درعا مهد الثورة” وجارتها السويداء.
التركيبة الدينية للمحافظة شكلت أيضاً معضلة سياسية للنظام، الذي عمل على تقديم نفسه تاريخياً باعتباره “حامياً للأقليات” في سوريا، الأمر الذي تحول إلى قيد كبل به يديه في حالة السويداء، بالتوازي مع القيود التي فرضها عليه الإسرائيليون والروس في هذا الإطار.
p5.jpg
لافتة تدعو لتنفيذ القرار الأممي 2254 (اندبندنت عربية)
وكان بيان انتشر، حصلت “اندبندنت عربية” على نسخة منه، منذ اللحظة الأولى للتظاهرات أرسله أمين فرع حزب البعث في السويداء فوزات شقير، بتاريخ 19 أغسطس، إلى أمناء الشعب الحزبية طلب فيه استنفار البعثيين لحماية مقار “البعث” “والتصدي بحزم لأي اعتداء محتمل”. لكن عدداً كبيراً من الفرق الحزبية، ومقر فرع “حزب البعث” نفسه قد أغلق من قبل الأهالي منذ فترة التعميم.
يقول المحامي المصدر وهو من حركة “رجال الكرامة” في السويداء، إن تسجيلاً صوتياً لمسؤول بالدفاع الوطني في دمشق ضغط باتجاه خروج تظاهرات مؤيدة للنظام، وحدد أن يكون الناس باللباس المدني، وأن يخرجوا ضمن حي التضامن في دمشق، حيث نسبة الدروز مرتفعة جداً وفيها مجلس ديني درزي، لكن أحداً لم يلب النداء.
لمَ تقلق السويداء بشار الأسد؟
يقول الكاتب المفكر السوري وصاحب التأثير الأقوى ضمن محافظة السويداء ماهر شرف الدين، المقيم في واشنطن، إن تظاهرات السويداء هذه المرة مختلفة عن سابقاتها لأسباب عديدة، أولاً بسبب ضخامة الأعداد المشاركة فيها، وثانياً بسبب مشاركة فئات كانت في السابق غير محسوبة على المعارضة، وثالثاً بسبب الغطاء الديني الذي أمنه لها الرئيس الروحي لطائفة الموحدين الدروز الشيخ حكمت الهجري، ورابعاً بسبب السقف السياسي المرتفع لمطالبها أي رحيل بشار الأسد.
ويعتبر شرف الدين أن موقف الرئيس الروحي للموحدين الدروز الشيخ الهجري تاريخياً بكل ما للكلمة من معنى، إذ يملأ اليوم الفراغ الذي خلفه سلطان الأطرش برحيله مطلع ثمانينيات القرن الماضي، الذي لم يسمح نظام الأسد لأي شخصية بأن تملأ. وعن دخول التظاهرات أسبوعها الثالث، يقول إن هذا يعني بأن الناس في السويداء حسموا أمرهم في المضي قدماً في حراكهم السلمي.
50.jpg
لقاء الضباط المتقاعدين وشيخ عقل الدروز في سوريا حكمت الهجري (اندبندنت عربية)
ورطة النظام
يقول الكاتب السوري إن النظام في ورطة حقيقية تجاه حراك السويداء، لأنه لا يستطيع اتهام المتظاهرين بالإرهاب، فالسويداء معقل إحدى الأقليات التي يدعي الأسد بأنه يحميها، ولا يوجد إسلام سياسي في السويداء، ولا وجود للإخوان في السويداء، لذلك يعزف أبواق النظام على نغمة الانفصال، وهي نغمة مردود عليها، لأن سلطان الأطرش، قائد الثورة السورية الكبرى، هو الذي أعاد توحيد سوريا، وأحفاد سلطان ماضون على نهجه.
يتابع أن حالة هائلة من الوعي الشعبي تجاه ما يقوم به النظام لتشويه صورة الاحتجاجات، وهذا الوعي الشعبي أبرز أداة لمواجهة كل خطط النظام ضد الحراك، كما أن لافتات السويداء أعادت إحياء لافتات كفرنبل الشهيرة، وهي بمثابة الجسر الذي ربط بين بدايات الثورة وبين حراك السويداء الذي ذكرنا بتلك البدايات.
يوضح، أن المتظاهرين رفعوا صور الراحل كمال جنبلاط الذي اغتاله حافظ الأسد سنة 1977، وهذا يقول الشيء الكثير عن أنه في نهاية الأمر لن يصح إلا الصحيح، ويزيد أن السويداء تحيي المدن السورية، والمدن السورية ترد لها التحية، وهذه التحية تعيد وصل ما انقطع، أو بالأصح ما قطعه نظام الأسد، بين المدن والمناطق والطوائف في سوريا.