لفترة طويلة ألقت طبيعة العلاقة بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية بظلالها على جل ملفات المنطقة، لدرجة لا يمكن فيها النظر إلى أية قضية من قضايا الإقليم بمعزل عن دورات التنافس والصراع التي خاضتها طهران والرياض مرة تلو أخرى. ويبدو أن هذا النمط من العلاقات السياسية قد أرهق كاهل الطرفين لدرجة دفعتهما إلى محاولة بناء إطار مختلف للعلاقة، يقتضي الوصول إليه تخطي عقبات كبيرة تتجاوز مسألة استئناف العلاقات الدبلوماسية وإعادة تبادل الهيئات الدبلوماسية.
وصل علي رضا عنايتي إلى الرياض ليباشر عمله سفيرًا لإيران في السعودية، وذلك بعد أكثر من 3 أشهر على قرار تعيينه (أواخر أيار). وقد بدأت السفارة السعودية نشاطها الفعلي من فندق في طهران إلى حين يتم حل إشكالية مبنى السفارة، فيما سبق للسفارة والقنصلية العامة الإيرانيتين في الرياض، أن بدأتا نشاطهما رسميًّا في يونيو/حزيران 2023.وكذلك أعلنت السعودية يوم الثلاثاء، وصول سفيرها إلى طهران لمباشرة عمله، بعد أكثر من 7 سنوات من القطيعة. وقالت وكالة الأنباء السعودية (واس) أن “سفير خادم الحرمين الشريفين المعين لدى الجمهورية الإسلامية الإيرانية عبدالله بن سعود العنزي وصل إلى العاصمة الإيرانية طهران اليوم وذلك لمباشرة مهام عمله”. وصرح العنزي لدى وصوله إلى طهران بضرورة
نقل العلاقات بين البلدين “نحو آفاق أرحب كون المملكة وإيران جارين ويمتلكان الكثير من المقومات الاقتصادية والموارد الطبيعية والمزايا التي تساهم في تعزيز أوجه التنمية والرفاهية والاستقرار والأمن في المنطقة وبما يعود بالنفع المشترك على البلدين والشعبين الشقيقين”.
أسهمت الصورة الإدراكية التي حكمت البيئة السياسية لدى الجانبين في تعميق حالة الصراع، ومؤخرًا بات من السهل ملاحظة التغيير في طبيعة هذه الصورة أو لنقل بصورة أدق: صناعة وهندسة التغيير لهذه الصورة الإدراكية، وباتت مفردات “الجوار” و”الأخوة” ملاصقة للخطاب السياسي للبلدين، ومع ذلك لا يمكن الرهان على تغيير الخارطة الإدراكية، على أهميته، لخلق حالة مستدامة من العلاقات الحسنة بين البلدين. وكما أنهما مؤثران في ملفات التنافس والصراع في الإقليم فهما متأثران أيضًا بتعقيدات العلاقات الدولية وإكراهاتها؛ مما يطرح أسئلة حول قدرة طهران والرياض على التحرك خارج حدود دوامة هذه التعقيدات.
خطت طهران والرياض حتى اليوم خطوات دبلوماسية مهمة وجرى تبادل الزيارات بمستويات عليا فقد زار عبد اللهيان الرياض وسبقه ابن فرحان بزيارة إلى طهران، لكن الحذر سمة لا تزال ملازمة لعملية التقارب السعودي الإيراني، وما زال كثير من الملفات المؤثرة مفتوحًا على مصراعيه، وإن بدأنا نشهد مقاربات مختلفة، وذلك واضح جدًّا في السياسة الخارجية لحكومة إبراهيم رئيسي على هذا الصعيد، أما الملفات الصعبة المفتوحة فهي كثيرة، ونضع أهمها في التالي:
التنافس الإقليمي: كان التنافس الإقليمي واحدًا من أبرز ملفات توتر العلاقات بين إيران والسعودية، ونتج عن هذه المنافسة خلافات سياسية، ظهرت تجلياتها وتبعاتها وأثمانها الصعبة في العراق وسوريا واليمن والخليج.
الأزمات: ما زالت المنطقة تغص بأزماتها السياسية وفي مقدمتها الأزمة في اليمن المستمرة إلى اليوم، والحال في سوريا ليست أفضل وإن تراجع منسوب الصراع. ورغم دور الطرفين في تصاعد هذه الأزمات فإن هناك شكوكًا كبيرة تحيط بقدرتهما على حل هذه الأزمات بفعل التعقيد ومستوى الدمار الذي لحق ببلدان الأزمات، فضلًا عن تعدد اللاعبين وتضارب مصالحهم.
الملف النووي الإيراني: لم يفض الاتفاق النووي مع إيران، في 2015، إلى تحسن في العلاقات بين إيران والسعودية، لكن فشل إحياء الاتفاق النووي قد يؤدي إلى تصعيد تكون من تبعاته دخول المنطقة في سباق نووي، تتحدث إيران اليوم عن الانتهاء من مناقشاتها مع الأطراف الأخرى في الاتفاق النووي وتم تدوينها، والوثيقة المعروفة باسم “وثيقة سبتمبر” بين إيران وبين الأطراف الأخرى، تقدم على أنها وثيقة “بديلة” عن خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي). وقد أثار حديث أمير عبد اللهيان في مقابلة مع صحيفة “اطلاعات” الإيرانية حول مستقبل الاتفاق والمفاوضات مع الولايات المتحدة وما أطلق عليه “وثيقة سبتمبر” كثيرًا من الأسئلة حول ما إذا كانت الوثيقة تمثل اتفاقًا جديدًا، وهو ما اقتضى توضيحًا من وزارة الخارجية الإيرانية بأن الوثيقة ليست بديلًا عن الاتفاق الموقع في 2015. ما أكده عبد اللهيان أن إيران كانت على وشك التوصل إلى اتفاق لكن بعض التطورات أثرت عليه وأجلته، ومن ذلك محاولة الدول الغربية استغلال الحالة الاحتجاجية التي شهدتها إيران في العام 2022، ومن ذلك أيضًا الحرب في أوكرانيا؛ حيث سعت الأطراف الأوروبية إلى استغلال ذلك لفرض شروط على إيران وهو ما قوبل بالرفض. وفيما يتعلق بالاتفاق النووي فهو محكوم بمجموعة من القضايا، أهمها:
سيكون أكتوبر/تشرين الأول من العام 2023 تاريخًا فاصلًا فيما يتعلق بالملف النووي الإيراني، حيث ينتهي القرار الأممي المؤطِّر للاتفاق النووي، وما عدا السلاح النووي فإن جميع استخدامات الطاقة النووية ستكون “مباحة ومشروعة” لإيران بعد هذا التاريخ، كما ستُرفع الموانع عن مشروع إيران الصاروخي، وهو ما سيجعله ملفًّا يتصاعد الخلاف بشأنه.
أن التزام إيران بفتوى عدم صناعة السلاح النووي مسألة مرتبطة بتصاعد التهديد وإذا ما وصل إلى مرحلة توجيه ضربة عسكرية لإيران فستقرر الخروج من معاهدة انتشار السلاح النووي والتراجع عن خيارها السابق لتتجه إلى إنتاج السلاح النووي، وهو ما يعني تغييرًا في عقيدة إيران الأمنية.
تبعات الخروج عن الاتفاق النووي ستكون خطيرة وقد تسفر عن نتائج سيئة بالنسبة للمنطقة.
وعليه، فهناك ضرورة لتعزيز الجهود الدبلوماسية لحل إشكاليات الملف النووي الإيراني، وهي محور مهم في أي خارطة طريق للعلاقات السعودية-الإيرانية.
الموقف الأميركي: كانت السعودية -وعلى مدى عقود- حليفة مهمة للولايات المتحدة في المنطقة، فيما خرجت إيران من دائرة هذا التحالف بعد انتصار الثورة الإسلامية عام 1979 وهي الثورة التي أخذت العلاقة بين طهران وواشنطن إلى مربع القطيعة والعداء، وبقيت علاقة الرياض بطهران تحت تأثير هذه التغيرات، التي لا يمكن إسقاطها عند الحديث عن إشكالية العلاقة بين البلدين. قد تكون السعودية بدأت برسم سياسة خارجية مستقلة عن الخطوط التي رسمتها عملية التحالف الطويل مع واشنطن، وقالت وثيقة مسربة حصلت عليها صحيفة واشنطن بوست بأن ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، هدَّد بإجراء تغيير جذري في العلاقة الأميركية-السعودية المستمرة منذ عقود وفرض تكاليف اقتصادية كبيرة على الولايات المتحدة إذا ردت على سياسة السعودية النفطية. وتنقل الوثيقة أن ولي العهد قال إنه “لن يتعامل مع الإدارة الأميركية بعد الآن”، وتوعد “بعواقب اقتصادية كبيرة على واشنطن”.
ورغم هذه المؤشرات قد يكون من غير الصائب الذهاب بعيدًا في توصيف ابتعاد هذه السياسة عن متطلبات الحليف وشروطه.
العلاقة مع إسرائيل: حتى وقت قريب كانت السياسية الإسرائيلية تركز على مقولة: بناء مصالح إقليمية مشتركة مع دول الخليج وخاصة السعودية في إطار ما تطلق عليه ضرورة مواجهة التحديات الأمنية التي تمثلها إيران، وكان يتم على الدوام استحضار النفوذ الإقليمي لإيران وبرامجها الصاروخية والنووية عناوين في خطاب منظِّري التطبيع والتقارب بين إسرائيل ودول الخليج والمدافعين عنه. ولعل السؤال المهم يتعلق فيما إذا كان التقارب السعودي-الإيراني سيوقف مسار التطبيع فيما يتعلق بالعربية السعودية، خاصة أن تسريبات كثيرة تحدثت عن محادثات مستمرة بهذا الخصوص. وأيضًا كيف سيؤثر هذا التطور إن حدث على مسار التقارب الإيراني-السعودي، خاصة أن طهران تنظر إلى التطبيع الخليجي مع إسرائيل بوصفه تهديدًا مباشرًا لأمنها.
حرب الظل الإيرانية-الإسرائيلية: تصاعدت “حرب الظل” بين إيران وإسرائيل خلال السنوات الماضية وتجلت في حرب السفن، ومهاجمة منشآت إيرانية وتعزيز موقع حلفاء إيران داخل فلسطين المحتلة وعلى حدودها. ولذلك فالسؤال القائم اليوم يتعلق بمساحة وساحة حرب الظل هذه وتأثيرها على الديناميات الإقليمية وعلى العلاقات بين إيران والسعودية، خاصة إذا حدثت عملية التطبيع التي تسعى إليها إسرائيل وتدعمها الولايات المتحدة الأميركية فيما تحاول الرياض أن تحصل على ثمن مقابل هذا “السلام” يعزز من موقعها الإقليمي. ولا يمكن أيضًا إسقاط تأثير العامل الإسرائيلي في التطورات الإقليمية والدولية؛ حيث تسعى إسرائيل وبشكل حثيث إلى التأثير على مسار العلاقات بين إيران والسعودية من خلال علاقاتها الإقليمية والدولية، وخاصة مع الولايات المتحدة الأميركية.
في افتتاح الدورة الثانية من مؤتمر الحوار العربي الإيراني الذي عُقد في الدوحة، في مايو/أيار 2023، قال كمال خرازي: “إنَّ ما نحتاجه اليوم هو ظهور منطقة قوية تتكون من فاعلين أقوياء؛ حيث لا يتطلب أمننا واقتصادنا تحقُّق قوة كلٍّ منَّا فحسب بل قوة المنطقة بأسرها”. ومن وجهة نظره، فإنه يمكن” إرساء الأمن الجماعي، وتحقيق النمو والتنمية، من خلال بذل جهد جماعي للحد من التوتر، وإحلال التعاون بدلًا من المنافسة، والثقة بدلًا من الخوف والشك، وحل الخلافات بالحوار والتواصل”. وخلص إلى القول بـ”الحاجة إلى تعاون إقليمي من أجل توفير الأمن والرخاء والتقدم للمنطقة بأسرها، فضلًا عن أن نكون فاعلين ومؤثرين على المستوى الدولي، ونُثَبِت مكانة منطقتنا في الساحة الدولية”.
وإذا ما كان صانع القرار في السعودية يلتقي مع صانع القرار الإيراني على هذه الخطوط العريضة، فذلك يحتاج إلى خطة عمل مشتركة بأفق زمني محدد، ومراحل تفصيلية، ويحتاج أيضًا معالجة الملفات بصورة منفصلة ومؤثرة بحيث يستشعر الإقليم النتائج الإيجابية للتقارب السعودي-الإيراني بما يتجاوز البلدين في أزمة اليمن وسوريا ولبنان وغيرها.