القراءة المعمقة في مواقف الحكومتين الأمريكية والفرنسية من الانقلاب العسكري في النيجر وتطوراته، منذ وقوعه قبل أكثر من شهر، تكشف للعلن ما يتقد بين واشنطن وباريس حالياً من تباين في الموقف وصراع في الإرادات، ومن تنافس على ساحة النيجر.
فبينما تبنت فرنسا موقفاً متشدداً من الانقلاب منحازة لاستخدام القوة لإبعاد الانقلابيين، وإعادة الرئيس المخلوع محمد بازوم إلى كرسي الحكم، سلكت الولايات المتحدة مسلكاً مغايراً يجمع بين طلب العودة للوضع الدستوري والدعوة للحل الديبلوماسي من زاوية التعامل مع الواقع.
ويرى ساسة فرنسيون، بينهم السياسي البارز فرانسوا أسلينو، أن “تعامل ماكرون مع الوضع في النيجر كان شاذاً، وغير مؤسس على نظرة إستراتيجية، بل إنه موقف يقوم على الأوهام، وعلى تجاهل الواقع”.
سلكت الولايات المتحدة مسلكاً مغايراً يجمع بين طلب العودة للوضع الدستوري والدعوة للحل الديبلوماسي من زاوية التعامل مع الواقع.
ولم يستبعد أسلينو، في تحليل عرضه على قناة حزبه “الحزب الشعبي الجمهوري”، “وقوف الولايات المتحدة وراء انقلاب النيجر، أو التنسيق معها في شأنه مبكراً بعد تنفيذه”، وهو ما يرى أسلينو أنه “يتضح من خلال عناصر، منها أن الجنرال عبد الرحمن تياني، قائد الانقلاب، خريج من المدارس العسكرية الأمريكية، ومنها سرعة التفهم الأمريكي للانقلاب، ووقوف واشنطن مبكراً إلى جانب الحل الديبلوماسي، وهو ما منح الانقلابيين الوقت الكافي لتوطيد لنظامهم، كما أنه موقف أثّر كثيراً على قرار المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا الخاص باستخدام القوة لإفشال الانقلاب”.
وجاء القرار الأمريكي المتعلق بإرسال السفيرة الأمريكية الجديدة كاتلين فيزجبون إلى نيامي، قبل تقديم أوراق اعتمادها، ليشكل اعترافاً ضمنياً بنظام الانقلاب، وقد غطته الحكومة الأمريكية بجملة وردت في مهمة تكليف السفيرة تقول فيها: “وجود السفيرة في نيامي يعود للحاجة الضرورية في هذه الظروف، لوجود موظف سامٍ في عاصمة النيجر”.
وفي سياق هذا التطليق، بدأ الأمريكيون نقل قاعدتهم الجوية “101”، التي كانوا يتشاركونها مع فرنسا، من نيامي وإعادة نشرها مدموجة مع القاعدة 102 بأغاديس شمال النيجر.
وأعلن البنتاغون، يوم الخميس الماضي، عن بدء عملية إعادة نشر الفرق العسكرية الأمريكية، التي يبلغ مجموع أفرادها ألف جندي، مع بقائها في النيجر، ومغادرتها للقاعدة التي كانت الولايات المتحدة تتشاركها مع فرنسا.
وتتوفر الولايات المتحدة على ثلاث قواعد عسكرية في النيجر؛ أولاها القاعدة 101، التي تقرر نقلها عن نيامي، والثانية القاعدة 102 في أغاديس شمال النيجر، والثالثة القاعدة 103، وهي قاعدة سرية قيل إنها لا تتبع لوزارة الدفاع وإنما للاستخبارات الأمريكية.
وبقرار الانفصال عن التنسيق مع فرنسا، التي تواجه بالرفض المتشدد نظام الجنرال تياني، تكون الولايات المتحدة قد قررت أخذ مسافة من فرنسا، ولذلك دلالاته الكثيرة على مسارات التنافس على البقاء في النيجر.
وقوف واشنطن مبكراً إلى جانب الحل الديبلوماسي منح الانقلابيين الوقت الكافي لتوطيد لنظامهم
وبينما تتلكأ فرنسا في سحب قواتها من النيجر، وإن كان التفاوض قد بدأ بهذا الشأن، أكدت صابرينا سينغ، الناطقة باسم البنتاغون، “أن قرار إعادة نشر القوات الأمريكية إجراءٌ احتياطي، فليس هناك ما يهدد قواتنا، ولا وجود للعنف في الميدان”. وأكدت: “ومع ذلك فقد قرر البنتاغون نقل القاعدة 101 من نيامي وضمها للقاعدة 102 في أغاديس، حيث تتوفر الولايات المتحدة على قاعدة للطائرات المسيرة، مع الإبقاء على عدد محدود من الجنود في نيامي”.
وحتى يوم 26 يوليو/ تموز الماضي، كانت الولايات المتحدة تتولى مهام تدريب الجيش النيجري.
وكانت الولايات المتحدة تضع تحت تصرف الجيشين النيجري والفرنسي وسائلها الاستخباراتية المتطورة في مجال تتبّع وملاحقة المجموعات الجهادية المسلحة. ومنذ وقوع الانقلاب، والموقف الأمريكي يتسم بحدة أقل بكثير من الموقف الفرنسي، وتبعاً لذلك جرى تعليق التعاون الأمني بين فرنسا والنيجر.
وحرصت الناطقة باسم البنتاغون على التأكيد بأنه “لا علاقة بين قرار إعادة نشر القوات الأمريكية في النيجر مع ما تقوم به فرنسا”.
وأثارت التظاهرات القريبة من القاعدة الأمريكية 101 التي كانت مشتركة مع فرنسا، قلق الأمريكيين، وبخاصة بعد تركيز الاحتجاجات على محيط القاعدة.
ومع أن تأمين هذه القاعدة، التي ترابط فيها قرات أوروبية، تتولاه القوات النيجرية فإن أجواء التوتر والانقلاب تجعل الأوروبيين غير واثقين من توفر أمن حقيقي ومستمر.
القدس العربي