سياسة الإنكار الإيرانية ووثيقة أيلول

سياسة الإنكار الإيرانية ووثيقة أيلول

إياد العناز 

تستمر حالة التصاعد في الأحداث الميدانية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط وتتعزز فيها المصالح العليا للدول الكبرى وتتسابق في الحفاظ على مكانتها وديمومة تواجدها وتأثيرها على الأوضاع القائمة باستمرار علاقتها مع بلدان المنطقة بما يحقق أهدافها وتوجهاتها الاستراتيجية، ومن هنا كانت التحركات الأمريكية تجاه المنطقة العربية بتحريك أساطيلها البحرية وقواتها البرية في منطقة الخليج العربي ومضيق هرمز وصولاً إلى داخل الأراضي السورية في مناطق نفوذها شرق الفرات، تزامنت التحركات مع الحوارات واللقاءات التي تمت بوساطة عُمانية قطرية تمكنت من تحديد آفاق العلاقة مع الإدارة الأمريكية والنظام الإيراني والتي كان من أهمها توصل الطرفان إلى عقد صفقة سياسية تتعلق بإطلاق سراح السجناء الامريكان من أصول إيرانية مقابل الموافقة على رفع القيود عن بعض الأموال المجمدة الإيرانية في دول دولتي كوريا الجنوبية والعراق ودعم مفاوضات إيران مع البنك الدولي لاطلاق مبلغ 7 مليار دولار بموافقة أمريكية.
جاءت الصفقة لتبين حقيقة الوسائل التي تتبعها الإدارة الأمريكية في التمسك بمصالحها والحفاظ على تأثيرها في الشرق الأوسط ودعم تحركات الرئيس جو بايدن في الانتخابات الرئاسية القادمة عام 2024 وتعزيز مكانته لدى الناخبين الامريكان وتحقيق حالة من التأييد الشعبي عن وصول المحتجزين إلى واشنطن وتكون بذلك قد حققت أهداف داخليةو ابتعدت عن سياسة الضغط والردع التي تستخدمها مع النظام بخصوص البرنامج النووي.
أوضحت هذه الصفقة طبيعة السياسة الأمريكية تجاه الإيرانيين والتي ينكرها العديد من مسؤولي النظام في طهران بابتعادها في حوارتها عبر الوسيط العربي عن المهمة الرئيسية للتأثير على الموقف الإيراني وشروطه الخاصة بالبرنامج النووي معتبرة ان تبادل السجناء حالة خاصة وتعاملت معها على أنها لا تمثل امتداداً للمواقف الأمريكية من النشاطات النووية الإيرانية لهذا فهي لم تبدي اي موقف تجاه عمليات تخصيب اليورانيوم او زيادة خزين أجهزة الطرد المركزي وسياسية النفوذ والتمدد الإيراني في المنطقة.
أتت الوقائع لتؤكد رؤيتنا وما ذهبنا اليه حول العلاقة بين واشنطن وطهران بأنها تتسم بالحفاظ على مصالحهما المشتركة وتوجهاتهما في منطقة الشرق الاوسط والوطن العربي باعطاء مساحة من التفاهمات السياسية ذات الطبيعة الميدانية في جميع الساحات التي تتواجد فيها أذرع ونشاطات الحرس الثوري الإيراني وأجهزته الاستخبارية والعسكرية، وهذا ما أكده المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني بقوله ( أن أروقة الجمعية العمومية للأمم المتحدة في دورتها الحالية ستشهد محادثات مباشرة مع الدول الموقعة على الاتفاق النووي عام 2015 وغير مباشرة مع الولايات المتحده بهدف إيجاد أليات تساعد على إعادة أحياء هذا الاتفاق)، إن هذا التوجه يحدد مسارات العلاقة بين جميع أطراف الحوار ويعطي دلالة واضحة على أن الموقف الأمريكي جاد في عملية التواصل مع النظام الإيراني بما يحقق له أهداف مرحلية يرى فيها أعضاء الحزب الجمهوري وبعض أصحاب القرار السياسي الأمريكي انها تمثل تنازلات أمريكية امام إيران.
تأتي هذه السياسية وفق النظرة الأمريكية والقبول الإيراني لإحياء ما تم الاتفاق عليه في أيلول 2022 بين الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية والنظام الإيراني من تفاهمات وحوارات أدت الى اعداد وثيقة تتعهد بها جميع الأطراف على إيجاد صيغ فعالة واتفاق جديد للبرنامج النووي يرضي الجميع، والذي يحدد مسارات العمل وفق أليات جديدة يلتزم بها الإيرانيون بالتراجع عن تخصيب اليورانيوم بنسبة 60٪ وبناء حالة من الثقة والعمل الميداني وتطبيق أليات العودة للاتفاق النووي وتنفيذ خارطة الطريق التي قدمها ( جوزيف بوريل) منسق العلاقات السياسية الخارجية في الاتحاد الأوربي والتي تتضمن الحوار الجدي مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية وتجميد عملية تخصيب اليورانيوم والإجابة على اسئلة مفتشي الوكالة بوجود نشاطات نووية في مواقع ( تور فوز أباد و ورامين)، مع احتفاظ إيران بالبنية التحتية لمنشأت الطرد المركزي ولكن بفصل التيار الكهربائي عنها ولتلبي الشرط الذي قدمه المرشد الأعلى علي خامنئي في اجتماعه مع رئيس المفاوضين الإيرانيين والعاملين في الوكالة الوطنية الإيرانية للطاقة الذرية بضرورة الاحتفاظ بالبنية التحتية للمنشأت والاماكن الخاصة بالبرنامج النووي والتي اعتبرت شرط رئيسي في اي تفاهمات او لقاءات تتعلق بالأنشطة النووية، على ان تقوم الإدارة الأمريكية بعد تنفيذ إيران لهذه الوثيقة بإصدار امر من الرئيس جو بايدن يلغي جميع العقوبات التي أصدرها الرئيس ترامب تجاه النظام الإيراني، ولم يتسنى التوقيع على الإتفاقية بسبب تطور الأحداث الداخلية في إيران وانطلاق التظاهرات الشعبية الداعية للإصلاح وتغيير النظام بعد مقتل الشابة الكردية ( مهسا اميني) منتصف أيلول 2022.
أمام هذه المعطيات فإن النظام الإيراني حريص على العودة لمناقشة هذه الوثيقة بعد العلاقة التي توطدت مع الإدارة الأمريكية ونجاح صفة السجناء، بتحقيق لقاءات وحوارات على هامش اجتماعات منظمة الأمم المتحدة هذا الشهر واعادة تفعيل الدور الإيراني عبر الوفد المشارك بحضور اجتماعات الجمعية العمومية برئاسة الرئيس الإيراني ايراهيم رئيس ووزير الخارجية ورئيس وفد المفاوضين في حوارات البرنامج النووي على باقري كني.
ان النظام الإيراني ملتزم بالعمل ضمن إطار سياسة الانفتاح واعادة العلاقات مع المنظومة العربية وتحقيق لقاءات مع قادة دول الخليج العربي والاتجاه نحو بناء منظمة إقليمية تجمع دول المنطقة وإيران وهو المقترح الذي تحدث به وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان أثناء زيارته للملكة العربية السعودية في 17أب 2023، وإظهار الجدية والعقلانية في التمسك بعلاقات جيدة مع المحيط العربي والانفتاح على الغرب تنفيذاً لتوجيهات المرشد الأعلى علي خامنئي.
إن وثيقة أيلول والتطور الحاصل في العلاقة بين واشنطن وطهران والذي يحاول المسؤولين الإيرانيين التغطية عليه، يعطي انطباعات جادة عن نوايا الإدارة الامريكية في إبقاء علاقتها مع النظام الإيراني وفق سياسة الحفاظ على المصالح المتبادلة القواسم المستركة خاصة في الملف العراقي الذي تسعى فيه واشنطن الي تحديد المسارات المستقبلية بالحفاظ على بنود الإتفاقية الأمنية الاستراتيجية التي وقعتها مع الحكومة العراقية عام 2008 ، في حين تعمل إيران على توسيع نفوذها وتعزيز مكانتها في المشهد السياسي العراقي والحفاظ على أمنها القومي والدفع باتجاه إحباط جميع النشاطات التي تتعرض إليها من قبل فصائل واحزاب المعارضة الكردية الإيرانية المتواجدة في أراضي اقليم كردستان العراق والتي حددت يوم 19 أيلول 2023 مهلة للحكومة العراقية البدأ بنزع سلاح المقاتلين الأكراد وغلق مقراتهم ومنع ممارسة نشاطاتهم وإبعاد هم عن الحدود الإيرانية العراقية المشتركة والا فإنها وعلى لسان نائب الحرس الثوري ورئيس اركان الجيش الإيراني ستشن حملة عسكرية كبيرة داخل الأراضي العراقية لمطاردة هذه الاحزاب.
واستكمالاً للتعاون والحفاظ على المصالح الدائمة واشنطن وطهران، وجه النظام الإيراني قيادات الفصائل المسلحة التي ترتبط بالحرس الثوري المتواجدة على الأراضي السورية بوقف عمليات التصعيد والمواجهة العسكرية مع القوات الامريكية في محور شرق الفرات وتغيير قواعد الاشتباك وتأمين الأوضاع الأمنية ضماناً للمصالح الإيرانية وتحقيقاً للأهداف الأمريكية.

وحدة الدراسات الايرانية

مركز الروابط والبحوث والدراسات الاستراتيجية