حداد يُعلن وتهديد بالعقوبات يُشهر، وعود بالتعويضات وتقديم العلاج في الداخل والخارج للجرحى. إقالات لمسؤولين قيل إنهم يتحملون وزر ما حدث في قضاء الحمدانية في محافظة الموصل العراقية. هذه هي الإجراءات الحكومية العراقية، التي جاءت بعد أن التهم حريق كبير، قاعة للمناسبات في هذا القضاء، الذي تقطنه غالبية مسيحية يوم الثلاثاء المنصرم، إذ اجتمع المئات من العوائل في هذه القاعة للمشاركة في حفل زفاف محلي، لكن الحفل ما لبث أن تحوّل إلى كارثة إنسانية بكل معنى الكلمة، ودمار راح ضحيته أكثر من مئة من المحتفلين، والمئات من الجرحى وبعض المفقودين، الذين بسبب شدة النيران تفحمت أجسادهم وغابت كل ملامحها، حتى أصبح من الصعب التعرف عليهم.
هذا الحدث ليس الأول من نوعه في العراق، فقد تكررت حوادث الحريق بشكل لا يُصدّق، فطالت مؤسسات حكومية وأهلية، وزارات ومدارس ومستشفيات ومعامل ومصانع ومخازن، وحتى مطار بغداد الدولي، حتى إن الدفاع المدني العراقي أعلن في منتصف شهر آب/أغسطس الماضي إحصائية تقول، بأنه وقعت أكثر من تسع عشرة ألف حادثة حريق منذ بداية العام الحالي، عازيا أسبابها إلى مخالفات في البناء وإهمال السلامة العامة، خاصة في موضوع التوصيلات الكهربائية. وهنا تجب الإشارة إلى أن عام 2021 شهد تعرض مستشفى في بغداد إلى حريق كبير، وأخرى في محافظة ذي قار جنوب البلاد، كانا مخصصين لمعالجة المواطنين المصابين بفيروس كورونا. وقد راح ضحية الحادثين أكثر من 150 مريضا.
مشكلة دولة لا يتحمل فيها المسؤولون مسؤولية صيانة الدولة وتحقيق الأمن والاستقرار والسلم المجتمعي، فمنذ عام 2003 وحتى اليوم عرف العراقيون أياما سوداء
إن الموجود في العراق ركام دولة وليس دولة حقيقية فيها مؤسسات وقوانين وجهات رقابية، إضافة إلى وجود جهات ظل متعددة تتصارع في ما بينها من أجل السيطرة وتحقيق النفوذ. فقضاء الحمدانية هو جزء من سهل نينوى الذي تبلغ مساحته 370 كم مربع، وهو جزء من عملية صراع بين أكثر من جهة مسلحة. وكل المسؤولين في هذه البقعة الجغرافية هم جزء من المحاصصة، حالهم حال بقية المسؤولين في كل العراق، وبذلك هم محميون من المساءلة من قبل الجهات الساندة لهم، وحتى عندما يكون الحادث جللا ويتطلب اتخاذ موقف لحفظ ماء وجه السلطات أمام المواطنين، فإن التضحية بهؤلاء المسؤولين يكون وقتيا ولفترة زمنية قصيرة، حيث نجدهم بعد حين يتبوؤن مناصب في أماكن أخرى، حسب قانون المحاصصة، وبالتالي الضحية في هذا المشهد هو المواطن من أبناء المنطقة، حيث تستمر حالة الانهيار التام للبنى التحتية في كل مرافق الدولة العامة والخاصة، ويتغول الفساد في الإدارات العامة، وتتغلب العلاقات الشخصية والابتزاز المالي على قضايا الأمن والسلم المجتمعي. فتصبح الصورة اليومية في العراق قائمة على أساس التصرف الحر مقابل المال، حيث يتلخص عمل الجهات الرقابية بمراقبة ما يتم إنشاؤه من أبنية ومنشآت من قبل المواطنين، ثم تأتي هذه الجهات كي تُخيّرك بين هدم ما بنيت، أو الدفع المادي لحساب المدير أو المسؤول. وقيمة المال ستكون وفقا لمساحة البناء وطبيعة ونوع العمل، وما يدره من أرباح. أما الطريق الآخر فهو الاتكاء على جهة حزبية أو ميليشياوية، واستحصال الموافقات الخاصة بالبناء، والعمل عن طريقها مقابل مبالغ مالية، وتنطبق سياسات الابتزاز هذه حتى على الشركات الأجنبية، التي حاولت العمل في العراق، وعليه فإن سلوك هذه الطرق يجعل من جميع المنشآت المشيدة تفتقر إلى السلامة وشروط الأمان، لأن الجهات الرقابية لم تعد مهتمة بسلامة المواطن بقدر اهتمامها بالمقابل المادي الذي ستحصل عليه.
نعم لقد أنهت اللجنة التحقيقية الخاصة بحادث الحمدانية عملها بسرعة فائقة، وأصدرت الجهات الحكومية قراراتها بإقالة مسؤولين محليين في القضاء، منهم المسؤول الإداري الأول ومدير البلدية ومدير الكهرباء ومدير الدفاع المدني، لكن السؤال الأبرز هو، هل إدانة مسؤولين محليين صغار في هذه المدينة قد حقق العدالة لأهالي الضحايا؟ أم جرت التضحية بهم ككبش فداء لحماية مسؤولين أكبر، وزراء ورئيس وزراء وزعماء ميليشيات وأحزاب وكتل سياسية؟ يقينا أن إدانة هؤلاء لا تكفي لتحقيق العدالة، لأن المشكلة أكبر من ذلك بكثير، هي لا تخص قضاء الحمدانية وحدها، بل تشمل العراق من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، إنها مشكلة دولة لا يتحمل فيها المسؤولون مسؤولية صيانة الدولة وتحقيق الامن والاستقرار والسلم المجتمعي، فمنذ عام 2003 وحتى اليوم عرف العراقيون أياما سودا وحوادث جللا، أزهقت فيها أرواح مئات الآلاف من الأبرياء، وغيب فيها آلاف من المظلومين، وانتهكت فيها حرمات وممتلكات، وحتى اليوم لم تتحقق العدالة في هذا البلد، بل ما زال السارق يتولى منصب حماية أموال العراق، والمجرم يتولى منصب تحقيق العدالة بين الناس، والخائن يتولى صيانة الأمن الوطني، لذلك سقط اليقين الذي كان الناس يعتصمون به، من أن الدولة هي دولتهم، وأن الساسة هم أخيارهم وعلى قدر المسؤولية الملقاة على عاتقهم، فعلى مدى أكثر من عشرين عاما لم يقدم أي منهم أمثلة على أنهم وطنيون جاءوا لخدمة أبناء شعبهم ورفع راية بلدهم. لقد أنشأت العملية السياسية في العراق واقعا يُعسكر فيه الخوف والموت والدماء، ويتم فيها تمجيد الفساد وهدر الدماء، وإضفاء طابع مؤسسي على كذب وخداع السلطات، لقد وعدوا العراقيين بالجنة على الأرض، فكان الحصاد جفاف الأنهار واستباحة الوطن من قبل الغرباء، أليست مفارقة كبرى أن تجف أنهار العراق، بينما يبقى نهر الدم العراقي متدفقا ولا يتوقف؟ أليست مأساوية الحدثين تدفع بك إلى عالم الخيال؟ فتظن أن الوصف مبالغ فيه حد التطرف، أو أنه تصريح معارض يحاول التكسب السياسي بتهويل الامور. لكن الحقيقة التي تراها في الصورة، وتقرأها في الصحف والمواقع الإلكترونية، ويرويها الناس على مسامعك، هي الواقع العراقي بلا رتوش. عندها تضطر فتسأل نفسك كيف يمكن لسلطة أن تجلس على أشلاء شعب يحترق، وأرض تموت من العطش؟ كيف يمكن أن ينحدر ضمير السياسي إلى هذا الدرك الأسفل من العار؟ لكنك لو أمعنت النظر قليلا لوجدت أن المراهنة على العملاء والخونة والموتورين سباق أحمق.
السؤال ذو الحدين هو هل يقتصر واجب رئيس الوزراء على حضور مجالس العزاء على ضحايا حادثة عرس الحمدانية كما فعل؟ أم أن الواجب هو أن يستقيل ويترك المسؤولية لأن الحادث أثبت أنه ليس على قدرها؟ أليست المشكلة الكبرى هو أن الكلمات التي قالها وهو يعزي أهالي الضحايا، على عكس تلك التي نشرها لسان حاله العاجز عن الفعل؟ أليست الأفعال تتحدث بصوت أعلى من الكلمات؟ يقينا أن قصة المسؤول الذي يهرب دائما من المسؤولية تنمو في هذا البلد منذ عام 2003 وحتى اليوم، ويبدو أنها ستستمر في النمو والتكاثر.