في وقت واصلت فيه الأجهزة الأمنية الإسرائيلية عقد اجتماعات تقييمها للوضع الأمني وسبل ضمان الهدوء على جبهة قطاع غزة، عادت القدس إلى أجندة الأحداث بعد اقتحام مستوطنين الحرم القدسي الشريف، لأداء ما تسمى “بركة الكهنة” في ساحة البراق، لتعزز الشرطة وحرس الحدود والوحدات الخاصة الإسرائيلية عناصرها حول الأقصى وفي البلدة القديمة.
وفيما دافع وزراء ومسؤولون في الحكومة الإسرائيلية عما سموه “حق اليهود في الصلاة في ساحة البراق” حذر أمنيون وسياسيون من تداعيات هذه الاقتحامات خصوصاً وأنها تتزامن وذكرى انتفاضة الأقصى الثانية في عام 2000، عندما اقتحام رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق، أرييل شارون، الأقصى مما أدى إلى إشعال الوضع الأمني حينها.
الأبحاث الأمنية التي بدأت، بعد ظهر أمس الأحد، لتقييم الأوضاع الأمنية تجاه غزة والضفة ولبنان وإيران وأيضاً في الداخل الإسرائيلي، استمرت في أعقاب اقتحامات المستوطنين، اليوم الإثنين، بعد أن استحوذ قرار نتنياهو إبعاد وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير عن تلك الأبحاث، على اهتمام غير مسبوق في إسرائيل نظراً لكونه الوزير المسؤول عن الأمن الداخلي. وأضاف هذا القرار جانباً من الشرخ والتصدع، ليس فقط ضمن الحكومة الإسرائيلية إنما داخل المجتمع الإسرائيلي، وهناك من اعتبر وصول آلاف المستوطنين إلى القدس والصلاة في ساحة البراق والإعلان عن نشر قوات الشرطة وحرس الحدود لحماية المستوطنين، رداً أولياً من بن غفير على قرار استبعاده، وهو أمر استدعى استئناف تقييم الوضع في ظل تقديرات إسرائيلية بأن الأحداث الداخلية تنعكس مباشرة على وضع إسرائيل إزاء من تعتبرهم تل أبيب أعداءها. وكما صرح مسؤول أمني فإن “أعداء إسرائيل يستغلون هذه الوضعية من أجل تحقيق أهدافهم سواء في استمرار الاستعداد والتحضير للهجوم على مواقع إسرائيلية أو لتنفيذ عمليات تسلل أو محاولات استفزازية لتصعيد الوضع”.
جهود لضمان هدوء الجبهة الجنوبية
وفي حين صنفت الأجهزة الأمنية جبهة غزة كثالث الجبهات الأكثر خطراً، بعد اتخاذ عدة قرارات لضمان التهدئة هناك، ما زال هناك خطر من إشعال هذه المنطقة، وفق تقرير إسرائيلي، أكثر من أي وقت مضى في أعقاب التطورات الأمنية التي تشهدها القدس (بعد اقتحام المستوطنين) والضفة بعد تنفيذ اقتحامات خصوصاً في جنين والمنطقة المحيط بها.
وكان أول القرارات، الذي اتخذته اجتماعات الأجهزة الأمنية هو تقديم تسهيلات لغزة من خلال تنفيذ خطوات اقتصادية لتحسين الوضع في القطاع. وبحسب ما تبين من تقييمات الوضع، أجرت إسرائيل اتصالات مع قطر للتنسيق حول كل ما يتعلق بنقل الأموال لحركة “حماس”، كما تدرس إمكانية زيادة عدد العمال الفلسطينيين، الذين سيدخلون إلى إسرائيل واتخاذ خطوات اقتصادية لتحسين الوضع في قطاع غزة، من بينها تقديم تسهيلات في شروط إدخال البضائع إلى القطاع.
ويرى سياسيون إسرائيليون أن الأحداث التي شهدتها الحدود الجنوبية تجاه غزة، أخيراً، سواء التظاهرات على طول الجدار مع إسرائيل وإطلاق النار نحو الجيش الإسرائيلي هي محاولة ضغط على إسرائيل للتراجع عن إجراءات حصارها إزاء الضائقة الاقتصادية في القطاع.
غير أن الاقتحامات المستمرة في الضفة، خصوصاً في جنين والبلدات المجاورة لها تجعل هذه المنطقة أكثر اشتعالاً من غزة، وقررت الأجهزة الأمنية استمرار الاقتحامات والعمليات للقضاء وفق ما سماها الإسرائيليون البنى التحتية للمنظمات الفلسطينية. ويبرر الجيش الإسرائيلي عملياته بادعاء أن التنظيمات الفلسطينية في الضفة تستعد لمواجهات عنيفة ضد إسرائيل وتقوم بصناعة أسلحة محلية. وادعى الجيش في بيان له أنه عثر على أربع مخارط في الأقل لصناعة الأسلحة في بيتونيا، في الضفة الغربية.
التأثر بسياقات عالمية وإقليمية
أما الدافع لعقد الاجتماع الذي دعا إليه نتنياهو لتقييم الأوضاع الأمنية، فجاء أيضاً بعد تحذيرات أمنيين من تداعيات استمرار القصف الإسرائيلي على سوريا واستهداف عناصر وأهداف إيرانية وأخرى تابعة لـ”حزب الله”، ووضع المنطقة الشمالية برمتها أمام خطر الاشتعال.
وبحسب ضابط الاحتياط موشيه نيدام، وهو أحد العسكريين البارزين في “حركة الأمنيين” الذي يعارضون سياسة حكومة نتنياهو، فإن “احتمال إشعال المنطقة يتزايد مع سياسة الحكومة الإسرائيلية تجاه الخارج وفي الداخل الإسرائيلي أيضاً”. ويقول نيدام “تجد إسرائيل نفسها اليوم، في ذروة موجة إرهاب متصاعدة من مختلف الجبهات وما أعلنته الأجهزة الأمنية عن إحباط 200 عملية لنشاطات معادية في الجبهات المختلفة، يومياً، هو أمر جنوني. واضح أننا إزاء معركة متعددة الجبهات، وهي معركة مركبة ومتفجرة وذات احتمال اشتعال فوري في واحدة من الساحات أو فيها جميعها. إذ إن كل حدث صغير يمكن أن يخرج عن السيطرة ويؤدي إلى معركة شاملة”.
وبالنسبة إلى موشيه نيدام وغيره من العسكريين والأمنيين الحاليين والسابقين، فإن “جميع الأحداث التي تشهدها مختلف الجبهات المحيطة بإسرائيل يتم تنسيقها من قبل إيران”. ويضيف “ليس صدفة أن كل ما نشهده سواء تجاه لبنان من قبل عناصر “حزب الله” أو غزة والضفة يتم تزامناً، ومعظمه في وقت واحد، فجميعه ينفذ بتنسيق من إيران، صحيح أن الوضع لم يصل بعد إلى مواجهات، لكن الأحداث تتأثر بسياقات عالمية وإقليمية وداخلية”.
ويعرض نيدام أربعة عوامل من شأنها تقريب إمكانية اندلاع الحرب:
العامل الدولي، وبحسبه “يتعلق هذا العامل بأعمال وأحداث تقوم بها القوى العظمى وغيرها من الدول التي تؤثر في اللاعبين المركزيين في منطقتنا. فهناك تقارب “محور الشر” (روسيا، وإيران، والصين، وكوريا الشمالية) الذي يتيح لإيران التقدم في مسألة النووي وإثارة الإرهاب وعدم الاستقرار.
العامل الداخلي الإسرائيلي– اليهودي، الذي يظهر التصدع الداخلي، والذي ينعكس في النشاطات الاحتجاجية ضد خطة الإصلاح القضائي، مضيفاً أن “إدخال الجيش إلى الجدل السياسي أدى إلى مس شديد بأمن إسرائيل وبالجيش نفسه”.
العامل الثالث، وهو العامل الأمني، وبحسبه فإن “هذا يتضمن تهديدات ونشاطات منظمات الإرهاب، بينما ينبع تعاظم التهديدات والنشاطات المعادية سواء من العامل الأول أو مما يجري في الداخل الإسرائيلي، من العامل الثاني، حيث يرى أعداء إسرائيل أنها ضعفت في السنة الأخيرة، وفتحت نافذة فرص لتحقيق أحلامهم القديمة – الجديدة”. ويركز نيدام على الساحة الشمالية والأمين العام لـ”حزب الله”، حسن نصر الله. ويقول “في الساحة الشمالية، نصر الله يغير الاتجاه في أعقاب حدث المسيرات نحو طوافة كريش ’يوليو (تموز) 2022’ وينتقل من الحذر إلى الغرور والاستفزاز ويأخذ أخطاراً عدة ويخرج إلى سلسلة أحداث قاسية، ليس فقط عند الحدود الشمالية. أما في الضفة فنرى الجبهة تشتعل فترة طويلة. السلطة الفلسطينية تستصعب أو لا تريد التصدي للواقع وتستعد لليوم التالي لأبو مازن ويبدو أن الحملات الموضعية استنفدت نفسها، أما غزة فحرصت على البقاء خارج دوائر العنف، لكنها في الأيام الأخيرة تغير الاتجاه من خلال أعمال إخلال قاسية على الحدود”.
ويرى نيدام في فلسطينيي 48 عاملاً رابعاً له مكانته أيضاً في التطورات الأمنية وبرأيه “هناك كميات هائلة من الوسائل القتالية في الوسط العربي وهي كميات جنونية وواضح جداً أن هذه الأعمال ستوجه في وقت ما بكل قوتها نحو إسرائيل”.
وإزاء هذا الوضع يحذر نيدام من وضعية الجيش الإسرائيلي قائلاً “كان أحد استنتاجات لجنة أغرانات (التي تم تشكيلها بعد حرب أكتوبر)، القيام بتوسيع الوحدات البرية للجيش الإسرائيلي، لكن في السنوات الأخيرة، ومن دون الدخول في التفاصيل والأعداد، يعمل الجيش الإسرائيلي في مسار معاكس. والسؤال هنا إذا كان حجم القوات البرية مناسباً لحرب كبيرة متعددة الساحات؟ على مثل هذا السؤال نقول إنه كما هو معروف في الشرق الأوسط لا مكان للضعفاء. اللغة هنا هي القوة والاختبار في نهاية الأمر، العبرة في الأفعال وليست في الأقوال”.
معضلة إيران
وجاء في تقرير إسرائيلي في أعقاب اجتماعات تقييم الأوضاع الأمنية، التي شارك فيها رؤساء الأجهزة الأمنية والاستخباراتية إلى جانب نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت ورئيس أركان الجيش هرتسي هليفي، أن الإسرائيليين أجمعوا على أن تل أبيب تواجه معضلة في كل ما يتعلق بالملف الإيراني. وجاء في التقرير الذي نقل عن جهات أمنية شاركت في الاجتماعات، أن “هناك تورطاً إيرانياً كبيراً للغاية، الأمر الذي يثير المعضلة الدائمة حول ما إذا كان سيتم الرد عليها وبأي عمق، لكن الواضح أن إسرائيل ستصل إلى وضع ترد فيه على إيران وربما في الداخل الإيراني”.
وبحسب ادعاء الإسرائيليين فإن 80 في المئة من تمويل “حماس” يأتي من إيران، فيما يتم العمل في الضفة الغربية على توزيع الأموال والأسلحة بمنتهى الحرية. وجاء في التقرير الإسرائيلي أن “إيران هي التي تقوم بتهريب الأسلحة عبر الأردن. وعلى رغم تأكيد تورطها في العمليات ضد إسرائيل وفي تجنيد عناصر لها في الضفة وبين فلسطينيي 48، فإن تل أبيب لم تتحرك حتى الآن بشكل مباشر ضد طهران”.
هذه الوضعية وبحسب ما قال مقربون من غالانت، سيناقشها وزير الدفاع خلال زيارته، الشهر الجاري، إلى واشنطن للقاء نظيره الأميركي لويد أوستن، حيث سيكون النشاط الإيراني المتزايد في مركز المباحثات إلى جانب التطورات السياسية الإقليمية أيضاً.