ردود أفعال الإدارة الأمريكية تجاه عملية «طوفان الأقصى» التي شنتها المقاومة الفلسطينية من قطاع غزة نحو مستوطنات وكيبوتسات وعمق الاحتلال الإسرائيلي، اتخذت وجهة الأفعال والإجراءات العسكرية الميدانية، التي سبقها سيل من الأقوال والتصريحات جرت على ألسنة كبار المسؤولين، وفي طليعتهم الرئيس الأمريكي جو بايدن نفسه.
والطيران الحربي الإسرائيلي كان قد انخرط في جولة جديدة من عمليات القصف التدميري العشوائي والوحشي الذي استهدف المساكن والمساجد والأسواق الشعبية في مدينة غزة ومحيطها ومخيماتها المجاورة، وكانت سلطات الاحتلال تمعن أكثر من ذي قبل في سياسة عقاب جماعي همجي ضد الملايين من المدنيين الفلسطينيين فتقطع عنهم الماء والكهرباء والغذاء والدواء، ولم يتردد وزير الحرب الإسرائيلي في إطلاق تصريح عنصري وفاشي سار هكذا: «نحن نقاتل الحيوانات البشرية ونتصرف وفقا لذلك».
في غضون هذا التوحش الإسرائيلي، وخلال مظاهر أخرى له ليست أقل بربرية، كانت حاملة الطائرات الأمريكية «يو إس إس فورد» تسابق الزمن والمحيطات نحو التمركز قبالة السواحل الفلسطينية، ترافقها قطع بحرية إضافية ومدمرة مجهزة بالصواريخ، وغواصات وطرادات وطائرات حربية مقاتلة، ومفاعلات نووية وأجهزة قتال بالليزر، و4200 بحار وضابط. وكأن أرقى الصناعات الحربية الأمريكية ومفخرة سلاح البحرية كانت تمخر عباب المحيط في طريقها إلى ساحة حرب عالمية ثالثة، وليس إلى قطاع هو الأشد اكتظاظاً بالمدنيين، محاصَر براً وبحراً وجواً منذ 16 عاماً.
التصريحات السياسية في المقابل لم تخرج عن المألوف في استهلاك التنميطات مسبقة الصنع حول حق دولة الاحتلال في الدفاع عن النفس، وإدانة الهجمات على «مدنيين» هم في الأغلبية مستوطنون يقيمون على أراض فلسطينية محتلة، وتزويد الاحتلال بكل ما يحتاجه من مساعدات عاجلة يحدث غالباً أنها طويلة الأمد وهجومية والأعلى تكنولوجية على امتداد المنطقة. الجديد، الذي انطوى أيضاً على فضيلة إبراز المزيد من تخبط الدبلوماسية الأمريكية، كان التشديد على أن أحد أبرز أهداف عملية «طوفان الأقصى» هو قطع الطريق على الجهود الأمريكية لريادة التطبيع السعودي ـ الإسرائيلي، وأن هذه السيرورة لا تزال قائمة وتبشر بالخير.
وكما في كل مقاربة رسمية أمريكية لملفات التطبيع، سواء عكف عليها جيمي كارتر أو بيل كلنتون أو دونالد ترامب أو جو بايدن، تُغفل الإدارات المتعاقبة حقائق الفارق الصارخ بين أنظمة حاكمة لاهثة خلف قاطرات التطبيع، وبين شعوب عربية لا ترفض اللحاق باللاهثين فقط، بل حدث ويحدث مراراً أنها جمّدت المسارات أو حتى أوقفتها عملياً. الأمثلة اتضحت وترسخت منذ اتفاقيات كامب ديفيد ووادي عربة، وليس مصير اتفاقيات أوسلو سوى تكملة أشد وضوحاً.
وفي الأروقة المغلقة كان بعض رجالات إدارة بايدن يتداولون نظرية جاريد كوشنر، عراب اتفاقيات أبراهام، حول رفع القضية الفلسطينية عن خرائط المنطقة لتحل محلها خريطة «الشرق الأوسط الجديد» كما ترسمها خطوات التطبيع المتلاحقة، أو كما حملها رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو إلى منبر الأمم المتحدة مؤخراً. ما خلا أن مسارعة حاملة الطائرات الأمريكية «يو إس إس فورد» نحو سواحل فلسطين تفيد دلالات شتى مختلفة، في عداد أبرزها أن القضية الفلسطينية حاضرة في صدارة الخريطة.