أعاد انسحاب نادي اتحاد جدة السعودي لكرة القدم من مباراته مع نادي سباهان أصفهان الإيراني في إطار الجولة الثانية لمنافسات المجموعة الثالثة من دوري أبطال آسيا، التي كان مقرر لها أن تجري في 2 أكتوبر 2023، الجدل حول ما يمكن وصفه بـ”تسييس إيران للرياضة”، وذلك بعد إعلان اتحاد الكرة الآسيوي إلغاء المباراة، بسبب “ظروف غير متوقعة”. إذ اعترض نادي اتحاد جدة على وجود مجسم لقائد فيلق القدس السابق، قاسم سليماني، في ممر دخول اللاعبين لملعب “نقش جهان”، إضافة إلى لافتات تحمل إشارات سياسية، ما دفع لاعبي الفريق السعودي إلى ترك الملعب، عقب رفض إدارة نادي سباهان إزالة المجسم واللافتات. وبعدها، أعلن وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبداللهيان، يوم 4 أكتوبر الجاري، عن اتفاق بلاده مع الجانب السعودي على إعادة المباراة بين الفريقين، قائلاً إن “العلاقات مع السعودية تسير في الطريق الصحيح، ویجب علینا عدم السماح للرياضة بأن تصبح أداة سياسية بيد أي طرف”.
اللافت للنظر في هذا الحدث، كان رد فعل الجماهير الإيرانية التي سارعت بالإعلان عن موقفها فور تأكيد مراقبي المباراة إلغاءها، حيث تم رشق المجسم محل الخلاف بالحجارة وزجاجات المياه، وترديد هتافات تدعو إلى عدم تسييس كرة القدم، وعدم إقحام الملاعب في الخلافات السياسية، وحرمان الجماهير من المباريات.
ويمكن وصف هذا المشهد بالملتبس في ظل الإشارات المتناقضة التي ترسلها طهران في هذا الإطار، إذ يأتي إصرار إداريي نادي سباهان على عدم إزاحة مجسم لسليماني محل الجدل، في الوقت الذي استطاعت فيه إيران استضافة مباراة أخرى لنادي النصر السعودي قبل أسابيع دون أية مشكلات، ثم تنظيمها مباراة مع نادي الهلال السعودي عقب هذه الأزمة بيوم واحد دون أية عراقيل.
توظيف متبادل:
على الرغم من تأكيد إدارة نادي سباهان أصفهان أن الاتحاد الآسيوي لكرة القدم قد وافق على ملعب “نقش جهان” بما احتواه من مجسم لسليماني، وأن هذا المجسم يوجد في أرض الملعب منذ أكثر من 3 سنوات، ولم يُوضع حديثاً قبل المباراة مع فريق اتحاد جدة، وأن الاحتفاء بمن سمتهم “الأبطال الوطنيين” في أرض الملاعب أمر عادةً ما تشهده المباريات المهمة في العديد من الدول؛ فإن موقف نادي اتحاد جدة يعيد إلى الأذهان الحديث عن تفضيل الوفد الدبلوماسي السعودي تغيير القاعة المخصصة لمؤتمر صحفي في مقر وزارة الخارجية الإيرانية في يونيو الماضي بين وزير الخارجية السعودي، الأمير فيصل بن فرحان، ونظيره الإيراني، عبداللهيان، بسبب وجود صورة للجنرال قاسم سليماني.
وهذا ما يدفع إلى القول إن الجانب الإيراني لم يضع في اعتباره رد الفعل المتوقع من الفريق السعودي تجاه وجود مجسم لسليماني، أو ربما أصر على الثبات على موقفه، وعدم تلبية طلب حكام ومراقبي المباراة بإبعاد المجسم عن أرض الملعب؛ نظراً لسيطرة التيار المتشدد على مفاصل الجهاز الإداري الرياضي في البلاد، فضلاً عن مسؤوليته عن تأمين الملاعب. غير أن موقف الجماهير الإيرانية التي عبّرت عن استيائها من تسييس إداريي الجهاز الرياضي للعبة الأكثر شعبية في البلاد، وليس من انسحاب الفريق السعودي، يشير إلى أن ملف تسييس الرياضة من قِبل النظام الإيراني بات محل انتقاد شديد في الداخل.
ويمكن القول إن للنظام الإيراني سوابق عدة في توظيف الرياضة لأهداف سياسية منذ سنوات. فعلى سبيل المثال، تولت وزارة الخارجية الإيرانية، في نوفمبر 2022، ملف شكوى الأندية الإيرانية التي قررت الانسحاب من بطولة دوري أبطال آسيا لكرة القدم احتجاجاً على قرار الاتحاد الآسيوي القاضي بسحب حق الاستضافة من إيران، لدواعي عدم استقرار البلاد أمنياً، حيث كانت الوزارة مسؤولة عن إجراءات تقديم شكوى رسمية لمحكمة التحكيم الرياضي، بدلاً من أن يتولى الاتحاد الإيراني لكرة القدم هذا الملف. واعتبر وزير الخارجية الإيراني آنذاك، جواد ظريف، أن قرار الاتحاد الآسيوي حينها “مسيس” وناتج عن ضغوط مُورست عليه.
وبالتالي عادةً ما تتدخل الأجهزة السياسية والبرلمان الإيراني في الأزمات الرياضية طالما كانت مع أطراف خارجية، بعكس المُعتاد من أن يقتصر التعاطي معها على الأجهزة الرياضية المختصة. فنجد، على سبيل المثال، موقفاً صاخباً من السلطة القضائية الإيرانية ضد كندا التي قررت إلغاء مباراة ودية مع إيران في مايو 2022، حيث اعتبر مساعد الشؤون الدولية في السلطة القضائية وأمين لجنة حقوق الإنسان في إيران، كاظم غريب آبادي، أن قرار كندا بمثابة “شهادة على أن من تدّعي أنها أرض الحرية لا تستطيع إبعاد الرياضة عن السياسة”.
ومع التسليم بأن النظام الإيراني هو المبادر بتسييس الرياضة، فإنه على الجانب الآخر شهدت الرياضة العام الماضي تسييساً واضحاً من قِبل المعارضين للنظام، ولاسيما في ظل الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة التي شهدتها البلاد منذ منتصف سبتمبر 2022 إثر مقتل الشابة مهسا أميني. إذ كان للرياضة والرياضيين حضور قوي في تأييد هذه الاحتجاجات، من قِبل لاعبي ألعاب فردية مثل لاعبة الشطرنج سارة خادم الشريعة، التي قررت المشاركة في ألعاب الشطرنج في كازاخستان في ديسمبر الماضي من دون حجاب وعدم العودة إلى طهران، دعماً للاحتجاجات في بلادها، ومتسلقة الجبال إلناز ركابي التي ظهرت في مسابقة تسلق الصخور الآسيوية في كوريا الجنوبية دون ارتداء الحجاب أيضاً، والتي تعرضت هي وأسرتها لمضايقات من قِبل النظام الإيراني، مما دفعها إلى تقديم اعتذارها عن تخليها عن الحجاب لاحقاً، وكذلك نيلوفر مرداني التي فازت بمسابقة التزلج الفني للسيدات في تركيا، وعبّرت عن دعمها للاحتجاجات الإيرانية أثناء البطولة.
غير أن موقف المنتخب الإيراني لكرة القدم الذي سجل لاعبوه دعمهم للمحتجين من خلال امتناعهم عن ترديد النشيد الوطني للبلاد في مباراتهم الافتتاحية بكأس العالم لكرة القدم في قطر أمام إنجلترا، في نوفمبر 2022، كان الأكثر ضجة وجدلاً في هذا الإطار، مما دفع التلفزيون الرسمي الإيراني إلى حجب صور اللاعبين خلال البث الحي لعزف النشيد الوطني قبل المباراة. واعتبر رموز التيار المتشدد أن لاعبي الفريق الإيراني قد انحازوا إلى المتظاهرين الساعين لإسقاط النظام الإسلامي في البلاد، ولاسيما أن جدلاً واسعاً قد سبق هذه المباراة من قِبل الجماهير الإيرانية التي تطلعت إلى توظيف فريقها للحدث العالمي كمنصة للتعبير عن التضامن مع المحتجين، حيث ساد شعار “أرجوكم ادعمونا” خلال المظاهرات قبيل موعد مشاركة المنتخب الإيراني في المونديال.
وتعرض لاعبو الفريق الإيراني لكرة القدم إثر موقفهم هذا، لتهديدات بالحبس والقتل، واضطر أغلبهم لتغيير مسكنه أكثر من مرة، فضلاً عن تعرض اللاعب الشهير وأسطورة كرة القدم الإيرانية، علي دائي، في ديسمبر الماضي، لاستدعاءات قضائية وإغلاق تعسفي لمحل تجاري ومطعم يمتلكهما في طهران.
دلالات متعددة:
في ظل التوظيف الذي بات متبادلاً بين النظام الإيراني ومعارضيه لملف الرياضة، تبرز العديد من الدلالات لهذا التوظيف لدى الطرفين، كالتالي:
1- على صعيد تسييس النظام الإيراني للرياضة، يمكن الإشارة إلى دلالتين مهمتين، هما:
أ- تأكيد نفوذ الحرس الثوري: يتضح ذلك بجلاء من خلال ملابسات انسحاب نادي اتحاد جدة السعودي من مباراته مع نادي سباهان، والتي تشير إلى عدم قدرة الأخير على إزالة مجسم لقاسم سليماني، بالرغم من أن النادي لا يتبع مباشرة مؤسسة الحرس الثوري، مما يشير إلى أن نفوذها يتغلغل في المجالات الحيوية كافة في إيران، ومن ضمنها المجال الرياضي. ويحاول الحرس الثوري، من خلال هذا النفوذ، إرسال رسائل عدة إلى الداخل والخارج، مفادها وجوده على رأس تفاعلات الداخل، وحرصه على التذكير بحضور عناصره وتمجيدهم، وخاصةً العناصر المسؤولة عن نفوذ إيران الخارجي، وفي مقدمتهم قاسم سليماني، ولاسيما في ظل وجود تيار داخل الحرس الثوري يعارض محاولات تقارب طهران مع محيطها الإقليمي، ويفضل التنافس على بسط القدر الأكبر من النفوذ الإيراني في الخارج مهما كانت التداعيات على علاقات طهران بدول الجوار.
وما يؤكد هذا الطرح هو ما تبع المباراة المُلغاة من رد فعل للتيار الأصولي في إيران، حيث قامت بلدية طهران التي يرأسها المتشدد على رضا زكاني بتعليق مكثف لصور سليماني في عدة مناطق بالعاصمة قبل مباراة نادي الهلال السعودي وناساجي الإيراني التي أُقيمت يوم 3 أكتوبر الجاري، مدونة عليها عبارات مثل: “حتى وهو ميت يخشونه” و”يخافون عيناه”، بينما لم يتضمن ملعب نادي ناساجي مازندران صوراً لسليماني.
ب- تأكيد استقرار إيران وقدرتها على تنظيم فعاليات كبرى: بعكس مباراة اتحاد جدة وسباهان أصفهان، استطاع النظام الإيراني توظيف مباراة النصر السعودي وبرسيبوليس الإيراني في إطار منافسات الجولة الأولى من البطولة ذاتها في 19 سبتمبر الماضي لصالحه، ولاسيما مع مشاركة اللاعب البرتغالي الشهير كريستيانو رونالدو. وجاء ذلك في ظل اعتبارين مهمين؛ أولهما توقيت المباراة التي تزامنت مع الذكرى الأولى لاحتجاجات العام الماضي، وثانيهما أن هذه المباراة كانت الأولى لفريق سعودي في إيران، عقب اتفاق عودة العلاقات بين البلدين في مارس الماضي برعاية صينية. إذ استطاعت طهران التأكيد بشكل مباشر استقرارها وأمنها في هذا التوقيت الحرج الذي سادت حوله تكهنات بتجدد الاحتجاجات مرة أخرى، وبالتالي تأكيد قوة النظام الإيراني وسيطرته على ما يهدد استقراره في الداخل، حتى إنه سمح بالتجمهر للترحيب بالنجم رونالدو، دون ظهور لقوات أمنية تسيطر على موجات الجماهير المتلاحقة الساعية للترحيب بوجود اللاعب الشهير في طهران.
2- بالنسبة لمحاولات توظيف المعارضة الإيرانية للرياضة، يمكن الإشارة إلى ما يلي:
أ- تدويل قضايا المعارضة الإيرانية بعيداً عن طائلة النظام: في ظل الانغلاق الذي يعاني منه المجتمع الإيراني، تُعد الرياضة النافذة ربما الوحيدة في البلاد على الخارج، لذا برزت أصوات اللاعبين الإيرانيين المحترفين في الخارج، والذين يعيشون في دول أوروبية، بشكل فاق أولئك الذين يعيشون في إيران. وهذا ما ينسحب أيضاً على مجال الفن، حيث استطاع الممثلون الإيرانيون العالميون تأييد الاحتجاجات في أكثر من محفل فني، وعلى حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي بالخارج، في ظل التضييق على استخدام الإنترنت وحظر الولوج إلى مواقع التواصل الاجتماعي في إيران خلال الاحتجاجات التي استمرت لما يقرب من ستة أشهر.
ب- تأكيد وجود نماذج أخرى يمكن الاحتفاء بها: على الأرجح لم يشهد الشارع الإيراني استقبالاً حافلاً لشخصية شهيرة أجنبية كما حدث مع اللاعب كريستيانو رونالدو، الذي تسابقت الجماهير للحصول على توقيع منه والتصوير معه. وهذا ما يحمل دلالة مهمة من ناحية إمكانية وجود شخصيات من خارج النظام الإيراني يمكن الاحتفاء بها في البلاد، بعيداً عن تلك النماذج التي يفرضها النظام على الشعب من رجال دين وزعماء سياسيين وعسكريين، ويضع سيرتهم في مقررات التعليم، وصورهم في الشوارع ووسائل المواصلات والفعاليات الاجتماعية.
ختاماً، يمكن القول إنه على الرغم من أن توظيف الرياضة سياسياً في إيران سواءً من قِبل النظام الحاكم أم معارضيه، يبقى الهدف منه إرسال رسائل وتسجيل مواقف بعينها؛ فإن تأثير هذا التوظيف وتداعياته يظل مرهوناً بمدى حنكة الطرفين، وهو ما يُلاحظ جلياً من خلال توظيف النظام لملف الرياضة وفق أنماط تسييس متناقضة ويسودها الالتباس إلى حد كبير، بما يجعله ينجح مرة في الحصول على مكاسب، ومرات أخرى يتعرض من وراء ذلك لخسائر هو على الأرجح في غنى عنها في هذا التوقيت الحرج، داخلياً وخارجياً. وعلى العكس، تكون أنماط تسييس المعارضة الإيرانية التي عادةً ما تنجح في حشد مزيد من الضغط الخارجي على النظام الحاكم في مجال الحريات.