في جزء أول من تصريحاته، خلال مؤتمر صحافي مفتوح مع الإعلام الأجنبي، كان كبير المتحدثين العسكريين الإسرائيليين قد نصح أهل غزة أن يواجهوا القصف الإسرائيلي بوسيلة التوجه إلى مصر عبر معبر رفح، الذي يعلم أنه لا يزال مفتوحاً. وفي جزء لاحق كان الناطق إياه قد نُبّه إلى أن المعبر مغلق، فأصدر توضيحاً بهذا المعنى، تعمد أن يغيّب عنه حقيقة أن جيش الاحتلال الإسرائيلي كان قد قصف الجهة الفلسطينية من المعبر على دفعتين، متعمداً إخراجه من الخدمة كخطوة إضافية ضمن سياسة العقاب الجماعي التي تفرضها دولة الاحتلال على القطاع وسكانه.
وسواء تقصد المتحدث الإسرائيلي ارتكاب خطأ في المعلومة أصلاً، أم دفعته إليه مظاهر الارتباك الكثيرة التي سادت مختلف أسلحة جيش الاحتلال وأجهزته، فإن خيار طرد الغزاويين خارج أرضهم ليس جديداً ولا طارئاً على مستويات القرار في مؤسسات دولة الاحتلال أو في التفكير الصهيوني على امتداد عقود طويلة. وإلى جانب كونه متمماً منطقياً لسياسات اقتلاع الفلسطينيين من قراهم وبلداتهم ومدنهم قبل النكبة وبعدها، وطردهم خارج فلسطين التاريخية طبقاً لعمليات الـ»ترانسفير» التي تكشفت بمرور الزمن وافتُضحت أغراضها، فإن إفراغ القطاع من سكانه الفلسطينيين وتهجيرهم قسراً صوب سيناء هو صيغة مباشرة لتوريط مصر وإرباك خياراتها بصدد القضية الفلسطينية عموماً، وهذا قبل اتفاقية كامب ديفيد وبعدها أيضاً.
عدوى المراجعة، إذا جاز وصف سلوك المتحدث الإسرائيلي تحت هذه المفردة، كانت قد انتقلت إلى مؤسسات الاتحاد الأوروبي التي كانت في مرحلة أولى قد تميزت غضباً واستُنفرت دفاعاً عن دولة الاحتلال الإسرائيلي في ضوء عملية «طوفان الأقصى» فلم تكتف بسيول من تصريحات مساندة الاحتلال وإدانة المقاومة الفلسطينية وإلصاق تهمة «الإرهاب» كيفما اتفق، بل قررت أيضاً تعليق المساعدات المقدمة للفلسطينيين. وأياً يكن السبب، خاصة حين أعلنت إسبانيا أنها لا توافق على تعليق تلك المساعدات، فإن الاتحاد أصدر لاحقاً بياناً مقتضباً أعلن فيه أنه لن يكون هناك تعليق، فكان السلوك أقرب إلى الفضيحة منه إلى الارتباك.
لا تراجع، في المقابل، لدى خمسة من زعماء الديمقراطيات الغربية، الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا، الذين أصدروا بياناً مشتركاً أكد مجدداً «دعمهم الثابت والموحد» لدولة الاحتلال. ورغم عدم الغرابة في صدور هذا الموقف عن هذه الدول تحديداً، خاصة أن في عدادها ثلاثاً من إمبراطوريات الاستعمار القديم، فقد تعمد الزعماء إغفال تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي التي ترقى إلى بيان عنصري صريح وجريمة حرب، حول قطع الماء والكهرباء والغذاء عن القطاع لأن الاحتلال يتعامل مع «وحوش بشرية».
كذلك تجاهل الزعماء مواقف مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، التي اعتبرت حرمان الناس من أسباب البقاء على قيد الحياة إجراء محرّم طبقاً للقانون الدولي، أو بيان منظمة «هيومان رايتس ووتش» التي رأت أن السلوك الإسرائيلي «مروّع» و«مثير للاشمئزاز» فضلاً عن كونه يرقى إلى جريمة حرب معلنة.
وبين فضائل «طوفان الأقصى» الكثيرة أنها أيضاً أسقطت المزيد من الأوهام حول مسمى المجتمع الدولي، ولعل القادم أعظم في المراجعات وانكشاف الخرافات.