الانحياز الأميركي المطلق لمصلحة إسرائيل معروفٌ وثابت، ولا يحتاج دليلاً أو توثيقاً، إذ إن الولايات المتحدة نفسها لا تفتأ تُذَكِّرُ به وتجترّه، بغضّ النظر عن هوية الجالس في البيت الأبيض وانتمائه، أو الحزب الذي يملك الأغلبية في الكونغرس. لكن العادة جرت أن واشنطن، حتى وهي في قمّة انحيازها وتواطئها مع تل أبيب، تحاول تلطيف ذلك الانطباع والتخفيف من حدّته. ومن ثمَّ، حرصت غالبية الإدارات الأميركية، على مدى العقود السبعة الماضية، حتى وهي تقدّم الدعم العسكري المهول لإسرائيل في ميدان المعارك، وتُسبغ على جرائمها الحصانة الدبلوماسية في الأمم المتحدة، وتذود عنها في المحافل الدولية، على أن تدعو إلى ضبط النفس، وتجنّب إيقاع ضحايا بين المدنيين قدر الإمكان، والبحث عن حلولٍ سياسية. أما جو بايدن، الذي وصل إلى البيت الأبيض، مطلع عام 2021، بعد سنوات دونالد ترامب “العجاف”، واعداً بـ”استعادة سلطة أميركا الأخلاقية”، فقد قرّر هذه المرّة أن يدوس تلك الأخلاق تحت قدميه، وأن يطلق العنان لحكومة بنيامين نتنياهو، التي وصفها هو نفسه بأنها الأكثر تطرّفاً في تاريخ إسرائيل في الخمسين عاماً الماضية، لارتكاب مجازر وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزّة المحاصر من دون رقيب أو عتيد.
لم يكتف بايدن، فحسب، بإرسال مزيد من الأسلحة والذخائر العسكرية، الدفاعية والهجومية الفتاكة، إلى إسرائيل، ولا حتى بنشر حاملة طائرات مع مجموعاتها المقاتلة في شرق البحر الأبيض المتوسط، والثانية في الطريق، بهدف “ردع” أطراف أخرى عن دخول القتال، ولا بتعزيز أسراب المقاتلات الأميركية، إف- 15 وإف- 16 وإيه- 10، في المنطقة، ولا بنشر قوات مهام خاصة مع الجيش الإسرائيلي لتقديم العون له، كما قيل، استخباراتياً وتخطيطياً. بل، إنه تبنّى، كذلك، خطاباً تحريضياً عنصرياً بغيضاً تجاه الفلسطينيين، يصل إلى حدِّ حضِّ إسرائيل على ارتكاب جرائم إبادة في قطاع غزّة المحاصر منذ أكثر من 16 عاماً. “مثل كل دولة في العالم، يحقّ لإسرائيل الردّ، بل من واجبها الردّ، على هذه الهجمات الوحشية. “لقد أنهيت للتوّ المكالمة الهاتفية الثالثة مع رئيس الوزراء نتنياهو. وقلت له إذا واجهت الولايات المتحدة ما تعيشه إسرائيل فإن ردّنا سيكون سريعاً وحاسماً وساحقاً”، هذا ما قاله بايدن في مؤتمره الصحافي، يوم الثلاثاء الماضي.
في المؤتمر الصحافي ذاته، تبنّى بايدن مقاربة “إنسانية انتقائية”، ولم يتورّع عن الاستفاضة في تقديم سرديةٍ أحادية الجانب صوّرت الطرف اليهودي ضحيةً والطرف الفلسطيني مجرماً. قام بذلك، وكأن تاريخ الصراع في فلسطين المحتلة بدأ يوم السابع من أكتوبر / تشرين الأول الجاري، لا منذ 75 عاماً، عندما اقتحمت وحدات في كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، الحدود مع إسرائيل، وسيطرت على مستوطنات ومعسكرات يهودية في غلاف غزّة، فضلاً عن قتل وأسر مئات من الجنود والمستوطنين. أيضاً، لم يبخَل بايدن في توظيف عبارات مشحونة وخطيرة، عندما زعم أنه “تمَّ ذبح أكثر من ألف مدني (وليس مجرد قتل، بل ذبح) في إسرائيل”. وزعم أن أطفالاً قتلوا، وأنه “تمَّ اغتصاب النساء والاعتداء عليهنَّ وعرضهنَّ كجوائز”، فضلاً عن اختطاف أطفال من بين أذرع أمهاتهم، وأجدادهم على الكراسي المتحرّكة.. إلخ. مضيفاً: “إن وحشية حماس – وهذا التعطش للدماء – يعيدان إلى الأذهان أسوأ حالات هيجان داعش”. لن أخوض في مزاعم بايدن هذه التي تنفيها المقاومة الفلسطينية، بل إن البيت الأبيض نفسه سارع إلى تكذيب زعم أطلقه الرئيس، يوم الأربعاء الماضي، عندما قال في لقاء مع قادة اليهود الأميركيين، إنه رأى “صوراً مؤكدة لإرهابيين يقطعون رؤوس أطفال”.
لم تحرّك واشنطن ساكناً بعد اعتداءات مستوطنين يهود متطرّفين، في يونيو/ حزيران الماضي، على مواطنين أميركيين وممتلكاتهم في قرية تُرمسعيا
على أي حال، هذه المشاعر البغيضة التي عبّر عنها بايدن ضد الفلسطينيين، دونما تفرقة، وهو ما يفهم من تحريضه إسرائيل أن يكون ردّها “سريعاً وحاسماً وساحقاً” ضد قطاعٍ محاصرٍ لا تتجاوز مساحته أكثر من 365 كيلومتراً مربعاً ويقطنه أكثر من 2.3 مليون إنسان، وجدت ترحيباً من نتنياهو، الذي اعتبر أنه حصل على ضوء أخضر أميركي لاجتياح قطاع غزّة عسكرياً وارتكاب مجازر وحشية مروّعة فيه ضد سكانه المدنيين. بكل عنجهيةٍ، دعا نتنياهو سكّان القطاع إلى الرحيل عنه “الآن لأننا سنعمل بقوة في كل مكان”. لكن أين يرحلون، ودولته تحاصر القطاع برّاً، على حدوده الشمالية والشرقية، وهي تسيطر على البحر الأبيض الذي يقع عليه القطاع، في حين تغلق مصر حدودها الجنوبية الغربية معه؟ أما المغادرة جواً، فهي أمرٌ لا سبيل إليه، إذ لا يوجد مطار ولا طائرات في غزّة. أما وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، فقد بلغت به العنصرية أن يأمر بحصار شامل للقطاع، بحيث لا يدخله ماء ولا طعام ولا كهرباء، على أساس أن إسرائيل تحارب “حيوانات بشرية”.
يتغاضى بايدن وجلُّ الإعلام الأميركي السائد عن هذا كله. ولمَ لا، وهم ما زالوا يتحدّثون عن “الجرائم الفظيعة المروّعة” و”المأساة الإنسانية” في الجانب الإسرائيلي، في حين لا يعبأون ولا يلتفتون إلى الجرائم الفظيعة المروّعة التي ترتكبها إسرائيل حاليا في قطاع غزّة ضد المدنيين العزّل، من نساء ورضّع وأطفال ورجال وكبار سن، بأسلحة أميركية، والمأساة الإنسانية التي تترتب على ذلك؟ ومن المهازل، أن تقول المتحدّثة باسم مجلس الأمن القومي الأميركي، أدريان واتسون، إن إدارة بايدن تدعم “اتخاذ إسرائيل الإجراءات اللازمة والمتناسبة للدفاع عن بلادها وحماية شعبها”، ولكنها لا تحدّد أبداً الخطوط التي لا ينبغي عليها تجاوزها. ليس هذا فحسب، ففي وقتٍ يتداعى بايدن وأركان إدارته لتأمين عودة العالقين من الإسرائيليين الأميركيين إلى الولايات المتحدة، فإنهم يصمون آذانهم عن صرخات الفلسطينيين الأميركيين في قطاع غزّة التي تناشدهم تأمين خروجهم من جحيم العدوان الإسرائيلي. ولكن، لمَ العجب، وإدارة بايدن، التي أرسلت قوات خاصة للتعامل مع ملف الرهائن الإسرائيليين الأميركيين الذين تحتجزهم فصائل فلسطينية، هي ذاتها التي سبق لها أن تغاضت عن اغتيال الصحافية الفلسطينية الأميركية، شيرين أبو عاقلة، العام الماضي، من جيش الاحتلال الإسرائيلي، كما أنها لم تحرّك ساكناً بعد اعتداءات مستوطنين يهود متطرّفين، في يونيو/ حزيران الماضي، على مواطنين أميركيين وممتلكاتهم في قرية تُرمسعيا شمال رام الله؟.
تبنّى بايدن مقاربة “إنسانية انتقائية”، ولم يتورّع عن الاستفاضة في تقديم سرديةٍ أحادية الجانب صوّرت الطرف اليهودي ضحيةً والطرف الفلسطيني مجرماً
هناك كثير يمكن أن يفسّر هذا الانحياز الشديد من بايدن لمصلحة إسرائيل، رغم بغضه المعلن لنتنياهو وحكومته. أولاً، هناك علاقة التحالف الأميركي – الإسرائيلي الوثيقة. ولا شك أن الهشاشة الأمنية والعسكرية التي بدت عليها إسرائيل صباح يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري فاجأت واشنطن وصدمتها وزعزعت ثقتها في إسرائيل نفسها، ومن ثمَّ فهي حريصة على تعزيز الهيبة الإسرائيلية في المنطقة من جديد وإعادة ترميم قوة الردع لديها. ثانياً، يمثل اقتراب الانتخابات الرئاسية، العام المقبل، فرصة لبايدن وللديمقراطيين لتقديم أنفسهم داعمين أقوياء لإسرائيل وأمنها، بعد سنواتٍ من التوتر مع نتنياهو وحكومتيه اليمينيتين، واستغلال الجمهوريين ذلك لاتهامهم بالتخلي عن إسرائيل، خصوصاً في ظلّ مساعي إدارة بايدن لإحياء الاتفاق النووي مع إيران. ويصرّ الجمهوريون على أن صفقة تبادل السجناء بين إيران والولايات المتحدة، الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول)، وما تضمنته من إفراج مشروط عن ستة مليارات دولار مجمّدة تعود لإيران، ساهمت في تمويل عملية كتائب عز الدين القسام، رغم أن إيران لم تستلم دولاراً واحداً منها بعد. ثالثاً، لا يمكن إغفال الحالة العاطفية والنفسية لبايدن الذي دائماً ما أكّد على هيامه بإسرائيل، وهو لا يفتأ يعيد تصريحاً أطلقه منذ عقود يتباهى فيه بصهيونيّته، “لأنك لا تحتاج أن تكون يهودياً حتى تكون صهيونياً”. كما أنه دائماً ما يكرّر أنه “لو لم تكن هناك إسرائيل، لكان علينا أن نخترع إسرائيل”.
وأخيراً، بغضّ النظر عن نتيجة هذه الجولة العسكرية بين فصائل المقاومة وإسرائيل، وهي لا شك لن تكون معركة سهلة على الفلسطينيين في ظل التفاوت الصارخ في ميزان القوى بين الطرفين، وبغضّ النظر عن مقدار الدعم الأميركي لإسرائيل، إلا أن ثمَّة شيئاً واحداً ثابتاً، أن لا قوّة على وجه البسيطة قادرة على أن تسحق آمال الفلسطينيين وتطلّعهم إلى الحرية والكرامة والتحرير والعودة إلى أرض آبائهم وأجدادهم. ما دام هناك ظلم واحتلال، فسيكون هناك دوماً رفض ومقاومة، حتى يتحقّق العدل ويعود الحقّ إلى أصحابه.