منذ إعلان الرئيس الأمريكي باراك أوباما ـ الاستدارة نحو آسيا عام 2012 ـ بعيداً عن حروب أمريكا الدائمة والمستمرة في الشرق الأوسط وحروب الرئيس بوش الابن الاستباقية ضمن الحرب العالمية على الإرهاب ـ وخاصة حربي واحتلال كل من أفغانستان والعراق، ليطالب الرئيس ترامب بإنهاء حروب أمريكا الدائمة في الشرق الأوسط التي ملها الأمريكيون إدارة وشعباً، واستنزفت قدرات الولايات المتحدة، واستفزت الحلفاء في المنطقة بسبب الانحياز والصلف الأمريكي.
بات واقعاً كل مرة تسعى الولايات المتحدة لخفض وجودها في الشرق الأوسط والخليج العربي مع تراجع الحاجة للطاقة الخليجية، ولتركيز قدراتها لمواجهة صعود وتحديات الصين في شرق آسيا وبحر الصين الجنوبي، وتمدد الصين في مناطق نفوذ الولايات المتحدة، وصولاً إلى نجاح وساطة الصين للمرة الأولى بين السعودية وإيران في مارس 2023 وإعادة العلاقات الدبلوماسية ـ وأول اتصال هاتفي بين ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لمناقشة تدهور الأوضاع والتصعيد في غزة والأراضي الفلسطينية- بعد عملية «طوفان الأقصى» ـ ورد إسرائيل بإعلان حالة الحرب للمرة الأولى منذ 1973، وإعلان جيش الاحتلال عملية «السيوف الحديدية» وارتكاب مجازر وجرائم حرب ـ أدت لاستشهاد 2000، ـ 60٪ نساء وأطفال ـ بينهم 614 طفلاً حتى مساء اليوم السابع من العدوان. وجرح حوالي 8000 وتهجير نصف مليون وتدمير 1300 مبنى، وتطهير عرقي بترحيل سكان شمال غزة 1.1 مليون من شمالها إلى جنوبها بترحيل قسري، يخالف القانون الدولي الإنساني وقانون الحرب، تحقيقاً لمخطط ترحيل سكان غزة إلى سيناء، كما حدث في نكبة 1948. شبهه الرئيس بوتين بحصار النازيين لليننغراد في الحرب العالمية الثانية. ووصفت الجامعة العربية التهجير القسري للفلسطينيين «بجريمة حرب». وأكدت دول عربية رفضها لدعوات التهجير القسري للشعب الفلسطيني من غزة. ووصف أمين عام الأمم المتحدة إجلاء الفلسطينيين بالأمر الخطير والمستحيل. إصرار إسرائيل على تهجير سكان شمال غزة القسري إلى جنوبها 1 بمثابة المستجير من الرمضاء بالنار، لأن قصف إسرائيل مستمر على مدار الساعة، ولم يبق مكان آمن في غزة. وطالبت الأمم المتحدة وعدد من حلفاء إسرائيل باستحياء إسرائيل التفريق بين حماس والمدنيين واحترام القانون الدولي الإنساني بعدما بعد تصاعد القصف.
واضح لم يعد هدف إسرائيل القضاء على حماس فقط، ولكن تحقيق الحلم القديم بترحيل سكان غزة إلى سيناء وتدميرها على رؤوس سكانها المنهكين والمحاصرين، وقطع إمدادات الماء والكهرباء والإنترنت ومنع دخول الفيول والغذاء والدواء، ويوشك القطاع الصحي على الانهيار مع تفاقم الكارثة الإنسانية!! بينما تكرر أمريكا وقوفها ودعمها الكامل لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها!
تبدو إدارة بايدن تائهة ومنحازة مع الأوروبيين لإسرائيل بلا مواربة أو تحفظ، ما يزيد من حجم النقمة على الولايات المتحدة من شعوب ودول المنطقة
أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية منغمسة في حرب غزة، بعد إعلان البيت الأبيض مقتل 24 أمريكياً مزدوجي الجنسية ومواطنين أمريكيين وخطف وأسر حماس 17 أمريكياً آخر. ما يعني أن إدارة بايدن التي تولي أهمية لإطلاق سراح السجناء الأمريكيين وآخرهم من إيران، ستنخرط وتنسق أكثر مع الحلفاء للتوصل لوقف إطلاق النار، وإطلاق سراح الأسرى، وفتح خطوط آمنة لإخراج الرهائن وإيصال امدادات الغذاء والدواء والكهرباء الماء.
تبدو إدارة بايدن تائهة ومنحازة مع الأوروبيين لإسرائيل بلا مواربة أو تحفظ، ما يزيد من حجم النقمة على الولايات المتحدة من شعوب ودول المنطقة. ألقى الرئيس بايدن عدة خطب وأجرى اتصالات مع نتنياهو، وأرسل حاملة الطائرات جيرالد فورد ـ وخصصت ميزانية لتزويد إسرائيل بمعدات عسكرية وقذائف وصواريخ اعتراضية للقبة الحديدية، وأوفد بايدن وزير الخارجية بلينكن الذي استفز العرب والمسلمين بتأكيده عند وصوله لإسرائيل ـ «أتيت لأنني يهودي»! وكذلك أكد وزير الدفاع الأمريكي أوستن وقوف ودعم الولايات المتحدة لإسرائيل لمحاربة الإرهاب والتطرف ومنظمة حماس! ويؤكد نتنياهو المحاصر والذي يُحمّل مسؤولية الكارثة لسياسات أكثر حكومة متطرفة في تاريخ كيان الاحتلال.
في مؤتمر صحافي بين رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري ووزير الخارجية الأمريكي في الدوحة ـ أكد الشيخ محمد بن عبدالرحمن، أن قطر تسعى لوقف القتال وإطلاق سراح الأسرى والعمل على منع تمدد الحرب وفتح ممرات إنسانية للعالقين تحت القصف. وكان ملفتاً فشل بلينكن من انتزاع إدانة عربية واضحة لعملية طوفان القدس. وكان الرد العربي رافضاً بقوة لمخطط إسرائيل بترحيل نصف سكان غزة من الشمال إلى الجنوب.
واضح نسفت مجازر إسرائيل الوحشية الأفق لأي حل سياسي للصراع العربي ـ الإسرائيلي، وفرملت التطبيع العربي مع إسرائيل وجمدت خطوات التطبيع مع السعودية قبل نهاية العام ليسوقه بايدن كإنجاز تاريخي في حملته الانتخابية للرئاسة القادمة. وكذلك أن تجميد إدارة بايدن أرصدة إيران (6 مليارات دولار) التي تحولت من كوريا الجنوبية إلى بنوك قطرية ـ يعيق التهدئة مع إيران.
مجمل ذلك يزيد كراهية إسرائيل في الشارع العربي، بوصفها وحشاً لا يشبع من دماء الأبرياء ومن حكومة أقصى اليمين المتطرفة. تمثل الغضب الشعبي العربي ـ بالتظاهرات والحشود الغاضبة في عدة عواصم عربية.
الاصطفاف الأمريكي مع إسرائيل هو جزء من فقدان السياسة الأمريكية بوصلة واقعية وعقلانية قراراتها تجاه قضايا وأزمات الشرق الأوسط، ما يعمق تراجع ثقة الحلفاء بالولايات المتحدة الأمريكية لتناقض مواقفها. وفيما تبقى استراتيجيتها في الصراع العربي ـ الإسرائيلي ـ حل الدولتين، تحول لشعار ينسفه سلوك إسرائيل بالقمع والقتل والحروب والتنكيل والتهجير وتوسع سرطان الاستيطان، دون أي ضغط وانتقاد أمريكي لسلوك إسرائيل المشين، بل تفهّم واصطفاف ودعم. وفي المقلب الآخر تريد الولايات المتحدة خفض وجودها العسكري في الشرق الأوسط والخليج لتولي أهمية أكبر لمواجهة الصين وهزيمة روسيا استراتيجياً في أوكرانيا وأوروبا. لكن تعود أزمات وحروب الشرق الأوسط لتجذب أمريكا للمنطقة، بزيادة عديد قواتها وأسطولها البحري ومعداتها لمواجهة التهديدات، لتغرق أمريكا مجدداً في رمال الشرق الأوسط المتحركة وتفضح تناقضات وضياع بوصلتها!