إثر العملية النوعية غير المسبوقة، طوفان الأقصى، التي نفذتها الفصائل المسلحة التابعة لحركة حماس في منطقة غلاف غزّة، إلى جانب رشقات القصف الصاروخي المكثفة التي طاولت عدة مواقع ومستوطنات إسرائيلية، ومقتل أكثر من ألف إسرائيلي ومن حاملي جنسيات أخرى من المدنيين (بينهم نساء وأطفال)، والعسكريين والمسلحين، إلى جانب آلاف المصابين؛ وما أعقبها من ردود فعل إسرائيلية عنيفة، تمثّلت في قصفٍ متواصلٍ لمدينة غزة بالطيران والمدفعية، أوقع مئات الضحايا من المدنيين، بينهم عدد كبير من النساء والأطفال، ومطالبة سكّان شمال غزّة بالتوجه نحو الجنوب، تمهيداً لهجوم إسرائيليٍّ برّي، وتفاعلات ذلك كله على الصعيد الشعبي الفلسطيني والعربي، جاء ارتفاع الأصوات الشعبوية التي حاول أصحابها، خصوصا من أنصار محور “المقاومة والممانعة” ركوب الموجة في محاولة لاستغلال العملية، والاستثمار في معاناة الشعب الفلسطيني المستمرّة منذ نحو 75 عاماً، وهي المعاناة التي لم تُعالج المعالجة المطلوبة، وإنما كانت القضية الفسطينية دائما ميداناً للمزايدات والشعارات من الأنظمة العسكرية الجمهورية العربية، التي وجدت في القضية المعنية نعمة لا نقمة، كما حاولت أن تدّعي باستمرار.
كما أهملت الإدارات الأميركية المتعاقبة، الجمهورية منها والديمقراطية، معالجة القضية الفلسطينية معالجةً عادلة مقبولة مقنعة للجانبين الفلسطيني والإسرائيلي؛ وظلت تلك الإدارات تعتمد مع هذه القضية المعالجة العرضية، عبر إعطاء الوعود المناسباتية التسويقية التي لم تتحقق، وإنما ظلت في عداد التطمينات الهلامية. هذا ما كان خلال المباحثات التي أسفرت عن اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل في 1978، وما ظهر جلياً من خلال كيفية التعامل مع مبادرة الأمير- الملك فهد عام 1981، والأمر نفسُه بالنسبة للوعود التي تضمّنتها اتفاقية وادي عربة بين الأردن وإسرائيل 1994. واستمر أسلوب التعامل ذاته مع الاتفاقية التي وقّع عليها في واشنطن عام 1993 كل من ياسر عرفات وإسحق رابين والرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون (اتفاقية أوسلو)، وهي التي كانت حصيلة مباحثات أوسلو السرّية بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل التي كانت قد بدأت بالتزامن مع مؤتمر مدريد في خريف عام 1991 الذي اعتبر في حينه بمثابة جائزة ترضية للدول العربية التي شاركت في حرب إخراج قوات صدّام حسين من الكويت في أواخر الشهر الثاني من عام 1991. ومن ثم كان التعامل غير الجدّي على الصعيد الدولي، سيما من الولايات المتحدة، مع مبادرة الأمير عبدالله التي تبنّتها جامعة الدول العربية في قمّة بيروت عام 2002، وهي المعروفة باسم الأرض مقابل السلام، ورفضتها إسرائيل. واستمر أسلوب التعامل ذاته في عهد الرئيس الأميركي الأسبق أوباما الذي كان قد وعد بإيجاد حلٍّ مقبولٍ للقضية المعنية، ولكن وعوده ظلت مجرّد حبر على ورق. وجاء ترامب ليعبّر عن انحيازه التام لصالح إسرائيل، ويقطع الطريق نهائيا على فكرة حل الدولتين عبر الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل، والصمت على سياسة بناء المستوطنات وتصرّفات المستوطنين، ومن ثم الاعتراف بضم إسرائيل الجولان، ويدفع باتجاه التطبيع الثنائي بين إسرائيل والدول العربية، وأدّى ذلك كله إلى هيمنة الفكر اليميني المتشدّد داخل المجتمع الإسرائيلي على حساب الأصوات المعتدلة التي كانت تُطالب بإنصاف الفلسطينيين، والتوصل معهم إلى حلّ واقعي قابل للحياة والاستمرار.
عملية طوفان الأقصى أتت في أجواء استعدادات كانت قد قطعت شوطاً كبيراً على طريق التطبيع بين السعودية وإسرائيل
ومع استمرار اعتداءات المستوطنين على الفلسطينيين، والاستيلاء على ممتلكاتهم، والعبث بالمقدّسات الإسلامية والمسيحية، ارتفعت وتيرة الاحتقانات، وبات الوضع قابلا للانفجار في أي لحظة، خصوصا في مناخات وجود قوى إقليمية ودولية حاولت، وتحاول، استغلال الموقف لصالح حسابات وملفّات أخرى تخصّها هي بالدرجة الأولى.
واللافت الذي يستوقف أن عملية طوفان الأقصى أتت في أجواء استعدادات كانت قد قطعت شوطاً كبيرا على طريق التطبيع بين السعودية وإسرائيل، مقابل شروط طالبت بها السعودية بضرورة تحقيقها حفاظاً على حقوق الفلسطنيين، وكان من شأن هذه الخطوة، في حال تحقّقها وفق الشروط المطلوبة، أن تسحب ملفّ القضية الفلسطينية من متاجرة نظام ولي الفقيه في إيران الشعبوية بها أكثر من 40 عاماً، فالسعودية بما تحظى من أهمية رمزية استثنانية في العالم العربي والاسلامي، وبما تمتلكه من موارد مالية ضخمة، بالإضافة إلى قدرتها على التأثير في مختلف الأطراف، خصوصا في الداخل الفلسطيني، يمكنها أن تعيد التوازن إلى المعادلات المختلّة الخاصة بالقضية الفلسطينية، سواء من جهة إمكانية تحقيق المصالحة الوطنية الفلسطينية الداخلية، أو على صعيد إظهار موقف عربي داعم للقضية المعنيّة من خلال إطار مجلس التعاون الخليجي التي يعدّ التكتل العربي الأكثر انسجاما، وقدرة على التحرّك إقليميا ودوليا لحشد التأييد للقضية الفلسطينية. فقد أدرك نظام ولي الفقيه أنه سيفقد ورقته الأقوى على صعيد دغدغة عواطف العرب والمسلمين، وشرعنة “محور المقاومة” الذي يستخدمه للتستّر على مثالبه وإخفاقاته، بل على جرائمه في الداخل الإيراني، إذا ما تمكّنت السعودية، بالتعاون مع الدول العربية المؤثرة، من انتزاع ورقة القضية الفلسطينية منه؛ وهذا فحواه أن مشروع النظام المعني الممتد من إيران وصولا إلى لبنان، عبر كل من العراق وسورية، ووصولاً إلى اليمن سيتعرّض لتقويضٍ مدوّ، وسيكشف النقاب عن الانتهاكات والجرائم التي ارتُكبت بحق شعوب تلك الدول التي تحوّلت السلطات المهيمنة عليها إلى مجرّد أدوات تتحرّك بناء على التوجيهات الإيرانية، تلتزم الخطوات المطلوبة منها. وبغية التغطية على دورها التابع المنقاد، تمارس تلك السلطات لعبةً تضليلية اعلامية، لا تصمُد أمام أي جهد عقلي نقدي قادر على الربط بين الشعارات والمواقف والممارسات، ويمتلك ذاكرة بحثية.
ملاحظات كثيرة تسجل على المواقف الغربية من القضية الفلسطينية، وانحيازها إلى إسرائيل
الأمر الآخر الذي يستوقف هو الموقف الروسي على لسان كل من الرئيس الروسي بوتين ووزير خارجتيه لافروف، وهو الموقف الإنتهازي الذي يدّعي الوقوف إلى جانب الفلسطينيين في مواجهة الدول الغربية الداعمة إسرائيل، هذا رغم معرفتنا أن روسيا التي دخلت بجيشها وقوتها الجوية الضارية إلى سورية لتقاتل إلى جانب سلطة بشّار الأسد ضد الشعب السوري، ما كان لها أن تدخل لولا الموافقة الإسرائيلية؛ وهي الموافقة التي اشترطت التنسيق بين الطرفين، الروسي والإسرائيلي، وتجاوزت العلاقة بين الجانبين حدود التنسيق، لتصل إلى حد المغازلة التي تمثلت في إقدام روسيا، وبموافقات ضمنية من بشّار الأسد ومحوره “المقاوم، على تقديم “هدايا” رمزية لاسرائيل، لتكون على ثقةٍ بأن الدخول الروسي إلى سورية لن يكون خطراً عليها، وإنما على النقيض من ذلك سيكون عامل طمأنة لها. فإيران وروسيا اللتان شاركتا فعليا في قتل السوريين وتهجيرهم وتدمير بلادهم تتباكيان اليوم على ما يحصل للفلسطينيين في قطاع غزّة، وهما اللتان التزمتا بكل الاتفاقيات والالتزامات التي كانت بينهما وبين إسرائيل، ولم يعد هذا من الأمور المخفية أو السرّية، بل تشي بها كل التصرفات والتحرّكات.
هناك ملاحظات كثيرة تسجل على المواقف الغربية من القضية الفلسطينية، وانحيازها إلى إسرائيل، خصوصا الموقف الأميركي؛ ولكن في المقابل هناك مواقف غربية كثيرة داعمة للحقوق الفلسطينية، وهناك جهود كبرى في تقديم المساعدات للشعب الفلسطيني. كما أن الدول الغربية لم تتخلّ بصورة رسمية عن مشروع الدولتين. وفي المقابل، لا يمكننا، في جميع الأحوال، الإشادة بالموقفين الإيراني والروسي تجاه القضية ذاتها، وهي الإشادة التي تروّجها بعض الدول والمؤسّسات العربية، في محاول للضغط، وفق اجتهادات المروّجين، على الغربيين، وعلى الأميركان خصوصا، في هذا المجال، فالنظام الإيراني الذي تمكّن من خلخلة مجتمعات ودول عربية عدّة، وتمكّن من التمدّد إلى المفاصل ليتحكّم بها، وهو يستعد اليوم للتدخل في مزيد من الدول، ليساهم في مزيد من التخريب، هذا النظام لم ولن يكون عامل دعم لقضية الشعب الفلسطيني إلا في سياق دعائي يستغل عدالة القضية الفلسطينية، ليتاجر بها، ويستخدمها أداة تجييشية تعبوية لصالح أجنداته الإقليمية، ويعتمد في ذلك على أذرعه المذهبية و”العلمانية”، بغضّ النظر عن انتماءاتها المجتمعية. والأمر ذاته بالنسبة إلى روسيا التي أسهمت 13 عاما في قتل السوريين بصورة غير مباشرة ومباشرة، وغطّت سلطة آل الأسد سياسيا، سيما عبر مجلس الأمن من خلال استخدام حقّ النقض لمنع صدور أي قرار أممي من شأنه إدانة السلطة المعنية.
لن يكون الموقف العربي المتماسك فاعلا في غياب الموقف الفلسطيني الموحّد
بقي أن نقول: ليس الانفجار الحادث حاليا بين الفلسطينيين والإسرائيليين الأول ولن يكون الأخير، ما دامت المعاناة الفلسطينيّة مستمرّة؛ وهي معاناة ستمتد ما لم يتم القطع مع سياسة الاستخدام الوظيفي الديماغوجي للقضية المعنية من مختلف القوى، خصوصا من النظام الإيراني. كما أن المعالجات العرضية التي كانت قد أثبت عدم نجاعتها، من الواضح أنها لن تنجح مستقبلاً. المعالجة المطلوبة هي المعالجة السببية التي من شأنها وضع حلول واقعية مقبولة للمشكلات القائمة؛ وهذا لن يكون من دون تبلور معالم موقف عربي قومي تقودُه دول الخليج.
ولن يكون الموقف العربي المتماسك فاعلا في غياب الموقف الفلسطيني الموحّد. وبعد توفر هذين الشرطين الحيويين تأتي خطوة الدعوة إلى مؤتمر إقليمي دولي، تلتزم أطرافه، بصورة جدّية، بخطّة طريق واضحة المعالم من جهة الخطوات المطلوبة، وسقفها الزمني، تؤدّي، في نهاية المطاف، إلى حل مستدام للقضية الفلسطينية وقضايا المنطقة، يفتح الآفاق أمام الاستقرار الأمني والازدهار الاقتصادي في المنطقة، لصالح سائر شعوبها من دون أي استثناء.