عادة ما تدّعي دولة الاحتلال الإسرائيلي في وسائل الإعلام العالمية أنها تستهدف بعملياتها العسكرية حركات المقاومة الفلسطينية المسلحة فقط وتتجنب المدنيين حينما توجه القصف إلى قطاع غزة، بالطبع هناك دلائل واضحة من المستشفيات الفلسطينية تصدر كل ساعة، نراها في التلفاز وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، تؤكد خطأ وتضليل ذلك الادعاء.
لكن أحد أهم الدلائل على أن إسرائيل لم تهتم لأرواح المدنيين في قطاع غزة -أو أي منطقة أخرى تقصفها- هو استخدامها من قبل لأسلحة التدمير الشامل التي لا تميز بين العسكريين والمدنيين من الأساس، بل ويرجح ذلك أن دولة الاحتلال الإسرائيلي لا تضرب بلا تمييز فقط، بل تتعمد استهداف المدنيين للضغط على خصومها وعلى رأسهم حركات المقاومة مثل حماس، خاصة أنها كانت على مدى عقود تطور أسلحة كيميائية وبيولوجية محرمة دوليا للسبب نفسه، وهو أنها تقتل الجميع بلا تمييز.
ولنبدأ على سبيل المثال لا الحصر من الحرب على غزة بين ديسمبر/كانون الأول 2008 ويناير/كانون الثاني 2009، حيث كانت هناك أدلة قاطعة(1) من الأرصاد على الأرض وحالة المرضى في المستشفيات الذين وصلوا وقد قُطعت أرجلهم، إلى جانب جثث الشهداء التي كانت متفحمة في بعض الأحيان، على أن دولة الاحتلال الإسرائيلي قد استخدمت عددا من الأسلحة المحرمة دوليا ضد المدنيين العزل في القطاع، في عملية راح ضحيتها قرابة ألفي شهيد فلسطيني مع إصابة أضعاف هذا العدد.
من الفسفور إلى قاطعات الأرجل
قصف إسرائيلي بقنابل الفوسفور على المناطق المأهولة بالسكان في مدينة غزة، 11 أكتوبر 2023. (الأناضول)
بشكل خاص، عادة ما يكون التركيز على قنابل الفسفور الأبيض بوصفها أداة مفضلة تستخدمها قوات الاحتلال الإسرائيلي بكثافة في معاركها ضد سكان قطاع غزة، وهي أسلحة حارقة تحتوي على الفسفور الأبيض حمولة أساسية، صُمِّمت لتوليد حرارة شديدة تبلغ قرابة ألف درجة مئوية إلى جانب قوتها التدميرية.
عند ملامسته الجلد، يسبب الفسفور الأبيض حروقا مؤلمة جدا من الدرجة الثانية إلى الدرجة الثالثة، وخاصة أن الفسفور الأبيض يذوب بسهولة في الدهون، وقد يُمتَص بسهولة عبر الجلد إلى بقية الجسم، حيث يمكن أن يسبب أعراضا خطيرة أخرى تصل إلى الوفاة بسبب الأضرار التي لحقت بالكلى والكبد والقلب.
GAZA CITY, GAZA STRIP – JANUARY 15: Smoke rises from the United Nation headquarters after an Israeli air force strike as Israeli artillery shells explode over the area on January 15, 2009 in the center of Gaza city, Gaza Strip. Israel has been condemed for using white phosphorus during an attack in which a UN complex was hit. (Photo by Abid Katib/Getty Images)
طالت إسرائيل اتهامات دولية بإقدامها على جرائم حرب لاستخدامها أسلحة محرمة دوليا، مثل قنابل الفسوفور الأبيض، ضد المدنيين في غزة – 2009 .(الصورة: غيتي)
تخيل معنا المشهد: عندما تنفجر القنبلة، يقوم نظام الإشعال بإطلاق حمولة الفسفور الأبيض إلى خارج القنبلة، تنتشر الحمولة، ويتفاعل الفسفور الأبيض بسرعة مع الأكسجين الموجود في الهواء ويبدأ في الاحتراق بشدة، يُنتج ذلك سحابة كثيفة من الدخان والجزيئات المشتعلة من الفسفور الأبيض تمطر على مساحة تبلغ عدة مئات من الأمتار المربعة، وتستمر جزيئات الفسفور الأبيض في الاحتراق عند ملامستها للهواء أو أي مواد أخرى قابلة للاحتراق، ومنها أجساد البشر والمركبات والنباتات والحيوانات. وبالإضافة إلى خصائصه الحارقة، ينتج الفسفور الأبيض أيضا دخانا كثيفا عندما يحترق، عادة ما يُستخدم لأغراض تكتيكية مثل حجب الرؤية عن التحركات على الأرض.
يمكن لك مما سبق أن تفهم لِمَ هو محرم دوليا استخدام القنابل الفسفورية في الحرب بحسب القوانين والمعاهدات الدولية في هذا النطاق، فناتج هذه القنابل لا يفرق بين الجنود المشاركين في الحرب والمدنيين، لأنه يمكن أن يقتل الناس على مساحة واسعة داخل المدن بين المباني السكنية، وهذا بالفعل ما يحصل في حالة غزة.
إلى جانب ذلك، وجد عدد من التقارير(2،3) أن إسرائيل استخدمت من قبل “المتفجرات المعدنية الخاملة الكثيفة” (DIME) في غزة، سواء بإسقاطها من مسيرات أو وضعها رأسا حربيا للصواريخ. المتفجرات المعدنية الخاملة الكثيفة هي من المتفجرات التي تُحدث نصف قطر انفجار صغير نسبيا ولكنه مدمر جدا، تُصنَّع عن طريق ضبط خليط متجانس من مادة متفجرة مع جزيئات صغيرة من مادة خاملة كيميائيا مثل التنغستن.
إضافة مسحوق التنغستن إلى المتفجرات يزيد من تأثير الانفجار على مساحة صغيرة، ويصنع شظايا دقيقة لا يمكن أن تنتشر إلا لبضعة أمتار، لذلك أُطلق على بعض أنواع هذه القنابل اسم “الذخيرة المميتة المركزة” (FLM).
تتسبب هذه النوعية من القنابل في تمزيق الأنسجة البشرية بشكل مختلف تماما عن الشظايا المعروفة عادة ما يؤدي إلى بتر الأطراف عادة، وكانت مجموعة من العلماء الإيطاليين المنتسبين إلى لجنة مراقبة أبحاث الأسلحة الجديدة قد أعلنت أن جروح هذه النوعية من القنابل غير قابلة للعلاج لأن مسحوق التنغستن لا يمكن إزالته جراحيا، كل هذا ولم نتحدث عن التأثيرات السرطانية لسبائك التنغستن المعدنية الثقيلة، حيث وجدت دراسة أجرتها وزارة الصحة والخدمات الإنسانية الأميركية في عام 2005 أن هذه الشظايا تحفز بسرعة “الساركومة العضلية المخططة” (Rhabdomyosarcoma) في فئران المختبر.
يكفيك أن تعرف فقط أن أكبر استخدامين معروفين لهذه القنابل حول العالم كانا في 2006 غزة، وحرب 2008-2009 غزة، وقد طالت إسرائيل اتهامات دولية بإقدامها على جرائم حرب عبر التعامل مع المدنيين في غزة بتلك القنابل.
ترسانة من السلاح المُحرَّم
تعمل دولة الاحتلال على استكمال ترسانتها النووية بأسلحة بيولوجية وكيميائية، فالسلاح الكيميائي -بقدراته الغازية على الانتشار-يقتل مَن يقابل بلا تمييز، وخاصة الأطفال. (الصورة: الفرنسية)
بل ويمتد الأمر لما هو أعمق من ذلك، ففي عام 1983 أشار تقرير صادر(4) عن وكالة المخابرات المركزية الأميركية إلى أن إسرائيل أطلقت ونفَّذت برنامجا واسعا للحرب الكيميائية، ويوضح التقرير أن أقمارا اصطناعية أميركية للتجسس رصدت منشأة محتملة لإنتاج غاز الأعصاب في منطقة التخزين الحساسة في ديمونا في النقب جنوبي فلسطين المحتلة، ويعتقد الخبراء في هذا النطاق أن الأمر لا يتوقف عند غاز الأعصاب فقط، بل تعمل دولة الاحتلال على استكمال ترسانتها النووية بأسلحة بيولوجية وكيميائية متطورة.
وفي عام 1998 اعترفت(5) إسرائيل بأن طائرة الشحن “إل عال” التي اصطدمت بمبنى سكني في أمستردام عام 1992 كانت تحمل مواد كيميائية لكنها “غير سامة”، في هذه الحادثة اكتُشف 190 لترا من ثنائي ديميثيل فوسفونيت، وهو مادة كيميائية مدرجة في جدول اتفاقية الأسلحة الكيميائية تُستخدم في تصنيع غاز الأعصاب “السارين”.
تأتي غازات الأعصاب مثل التابون والسارين والسومان والسيكلوسارين وڤي إكس في صورة سائل ورذاذ وبخار وغبار لتصيب بشكل مباشر الرئتين والجلد، وما إن يحدث ذلك حتى يصاب الشخص بتشنجات شديدة، مع فقدان السيطرة على الجسم وشلل العضلات جميعا بما فيها عضلة القلب والحجاب الحاجز.
الآثار الضارة لكل هذه العوامل تتصف بأنها “غير محكومة”، أولا لأنها يمكن أن تتركز في مكان دون آخر (الأماكن المغلقة على سبيل المثال)، وهنا يمكن أن تؤدي جميعها إلى الوفاة المباشرة لجميع من يتعرضون لها. أضف إلى ذلك أنها عشوائية، بمعنى أن الرصاص العادي غالبا ما يُستخدم ضد جنود محددين من أعداء يحاربونك (ونقول هنا “غالبا” بنوع من التحفظ)، لكن السلاح الكيميائي -بقدراته الغازية على الانتشار- عشوائي تماما، يمر بين جنبات البيوت والحواري الضيقة فيقتل مَن يقابل بلا تمييز، وخاصة الأطفال.
والواقع أن الفرصة لو حانت لإسرائيل بدون مُساءلة دولية لربما استخدمت السلاح الكيماوي ضد المدنيين، وقد تورطت من قبل بشكل غير مباشر في استخدام هذا السلاح، فالغارة الجوية الإسرائيلية على مخزن للكيماويات الزراعية خلال حرب عام 2021 على غزة كانت بمنزلة “نشر غير مباشر للأسلحة الكيميائية”، وفقا لتقرير(6) يحلل الهجوم وتأثيره أصدرته منصة “فورنسيك أركتيكشر”، وهي وكالة أبحاث في جامعة لندن، حيث أصابت قذائف المدفعية عن عمد مستودع خضير الكبير للأدوية والأدوات الزراعية في شمال قطاع غزة في 15 مايو/أيار، مما أدى إلى إشعال النار في مئات الأطنان من المبيدات الحشرية والأسمدة والمواد البلاستيكية والنايلون، تسببت في مشكلات صحية بما في ذلك تقريران عن حالات إجهاض.
وهذه ليست الضربة الوحيدة التي استهدفت نشرا غير مباشر للسلاح الكيماوي، ففي 17 مايو/أيار بعد يومين من تدمير مستودع الخضير، ضُرب مصنع للإسفنج في غزة بطريقة مماثلة، وفي اليوم نفسه أيضا قُصفت ستة مصانع ومستودعات أخرى من النوع نفسه، مما كشف عن نمط من الضربات المتعمدة يوضح أن الإسرائيليين أرادوا أن تنتشر الأبخرة السامة في تلك الأماكن لتقتل أكبر عدد ممكن من الناس، دون تمييز.
ماذا عن السلاح البيولوجي؟
تُشكِّل الجمرة الخبيثة أكبر خطر على البشر بوصفها سلاحا بيولوجيا، فهي تنتقل في الهواء ولا يمكن اكتشافها بسهولة. (الصورة: غيتي)
ولا يقف الأمر عند السلاح الكيماوي المحرم دوليا فحسب، ففي التسعينيات من القرن الفائت أفادت (7) خدمة أبحاث الكونغرس الأميركي أن إسرائيل تمتلك بعض القدرات في مجال الأسلحة البيولوجية، واستشهدت صحيفة “صنداي تايمز” في عام 1998 بمصدر عسكري إسرائيلي يفيد بأن أطقم طائرات “إف-16 الإسرائيلية” تلقّت تدريبا على تحميل رؤوس حربية كيميائية وبيولوجية نشطة على الطائرات.
الأسلحة البيولوجية هي إما كائنات حية مثل الفيروسات أو البكتيريا أو الفطريات وإما مواد سامة تنتجها كائنات حية تُنتَج وتُطلق عمدا لتسبب المرض والموت للإنسان أو الحيوان أو النبات، يمكن للعوامل البيولوجية أن تُشكِّل تحديا صعبا على الصحة العامة بحسب منظمة الصحة العالمية، حيث تتسبب في أعداد كبيرة من الوفيات في فترة زمنية قصيرة، ومن دون تمييز.
ورغم التكتم الشديد من ناحية دولة الاحتلال الإسرائيلي حول مشروعاتها للأسلحة البيولوجية، فإن علماءها (8) ينشرون أبحاثا علمية في نطاقات عدة متعلقة بالأمر، حيث يعملون على تجارب في نطاق “أبحاث الاستخدام المزدوج المثيرة للقلق”، وهي أبحاث يمكن استخدامها لأغراض تجنب مخاطر الأمن البيولوجي، ولكن يمكن كذلك أن تمثل مصادر لمخاطر الأمن البيولوجي نفسها.
يعمل الباحثون الإسرائيليون على بكتيريا الطاعون وبكتيريا التيفوس والسموم المعوية للمكورات العنقودية وداء الكلب وبكتيريا الجمرة الخبيثة وبكتيريا البوتولينوم وسم البوتولينوم وفيروس الإيبولا. واعتبارا من عام 2011، ركزت منشورات مركز أبحاث دفاعي سري للغاية يديره يموله قسم الأبحاث بوزارة الدفاع الإسرائيلية على بكتيريا الجمرة الخبيثة وبكتيريا الطاعون، وكلاهما سلاح بيولوجي معروف، واستُخدم من قبل (على سبيل المثال في هجمات الجمرة الخبيثة عام 2001 بالولايات المتحدة).
تُشكِّل الجمرة الخبيثة أكبر خطر على البشر بوصفها سلاحا بيولوجيا، فهي تنتقل في الهواء ولا يمكن اكتشافها بسهولة، حيث يبلغ قُطرها عدة ميكرونات فقط، وهي قادرة على الوصول إلى عمق الرئتين عند استنشاقها، وبمجرد وصولها إلى الدم تصبح قادرة على التكاثر والسفر إلى العقد الليمفاوية، وإنتاج السموم التي تؤدي إلى الوفاة. في أحد النماذج الرياضية، ظهر أن إلقاء قنبلة تحوي كيلوغراما واحدا من هذه المادة على مدينة بها 10 ملايين نسمة ستقتل في نهاية الأمر نحو مئة ألف شخص، بلا تمييز بين الجنود وعامة الناس.
خلال 75 سنة مضت، استهدفت دولة الاحتلال الإسرائيلي المدنيين في كل صراع ينشأ بينها وبين المقاومة، ثم خرجت للإعلام الدولي لتقول إنها تستهدف المسلحين فقط، رغم أنه ثبت استخدامها في أكثر من مرة لأسلحة ومحرمة دوليا لا تميز بطبيعتها بين العسكري والمدني، أو بين المقاتل والمرأة وحتى الطفل.