حرب الست ساعات» التي بادرت إليها القيادة الميدانية العسكرية لحركة حماس، ومن معها، وأطلقتها فجر السابع من أكتوبر، تحت اسم «طوفان الأقصى» تأتي ردّاً فلسطينياً على حرب حزيران 1967 المشينة، التي تحرص إسرائيل على تسميتها «حرب الأيام الستة». وقد تمتد ارتداداتها لتصل الى «سايس بيكو» الذي قطّع «بلاد الشّام» وسوريا الكبرى، وإلى «وعد بلفور» ومجمل نتائج الحرب العالمية الأولى.
يخطئ الإسرائيليون عندما يعتقدون أن أمريكا، (والغرب معها) تحميهم وتدافع عنهم. أمريكا تدافع عن دور أمريكا ومصالحها، دورها على رأس النظام العالمي، المترنّح، والآيل الى السقوط في هذه الأيام. وليست إسرائيل، في هذا السّياق، أكثر من أداة، وربما الأهم بين أدوات أمريكا في هذا العصر.
لست مؤرّخاً. لكن كل من يقرأ التاريخ يعرف حقيقة أن من يهيمن على «أرض فلسطين» (عن بُعد، في الغالب الأعم من العصور، إن لم يكن في جميعها) يهيمن على العالم، ويفرض النظام العالمي. هكذا كان منذ بدء تسجيل التاريخ، وهكذا هو حتى الآن، وللقادم من الحقب والعصور أيضاً.
تثبت وقائع التاريخ المُسجّل هذه الحقيقة. هكذا كان الوضع منذ زمن الآشوريين والبابليين، واستمر في العصور اللاحقة جميعاً، عصور الفراعنة والفرس والإغريق والرومان، هكذا كان الوضع في العصر الأموي والعصر العبّاسي، وطوال مئتي سنة الحروب الصليبية.
حتى لا نبحر عميقاً وبعيداً في التاريخ، نكتفي بتسجيل أن «أرض فلسطين» كانت تحت الهيمنة العثمانية عندما كانت هذه الإمبراطورية تسيطر على الجزء الأكبر من أوروبا، من فينّا الى بودابست. وعندما انهارت الخلافة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، ورثت بريطانيا الهيمنة على فلسطين، وبدأت «الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس» في الإعداد لتسليم السيطرة على فلسطين إلى الحركة الصهيونية العنصرية. نجحت بريطانيا في تحقيق مؤامرتها، وظلّت صاحبة الدور بالغ التأثير في القرار العالمي، الى سنة 1956، حيث ارتكبت حماقة الاشتراك في «العدوان الثلاثي» مع فرنسا وإسرائيل، دون التنسيق المسبق مع أمريكا، وكانت النتيجتان الأهم:
ـ توافق المصالح بين الولايات المتحدة (آيزنهاور) والاتحاد السوفياتي (خروتشوف) وخسارة بريطانيا لدورها المنفرد في كل ما هو «شرق السّويس».
ـ تسليم بريطانيا لـ«مفاتيح الهيمنة» على أرض فلسطين إلى أمريكا، وتنازل بريطانيا (العملي، وغير المعلَن) عن أي دور مستقل في سياستها الخارجية، والالتزام بما تقرره أمريكا. ومثال ذلك: الحربان على العراق، وقصة اختلاق «كذبة العصر» بامتلاك العراق لأسلحة غير تقليدية، وغير ذلك الكثير.
بانتقال الهيمنة على «أرض فلسطين» لأمريكا، منفردة، كان الانطباع الأول هو الإعجاب الأمريكي بالأداء العسكري الإسرائيلي، وما ترتّب على هذا الإعجاب من بدء اعتماد إسرائيل كـ»حليف استراتيجي» لأمريكا، وتوقيع الاتفاقيات الخاصة بذلك معها، وتزويدها بكل ما يمكنها استيعابه من معدات وأسلحة، لتمكينها، بداية، ولتشجيعها، لاحقاً، على المبادرة بشن «حرب الأيام الستة».
تندرج «حرب الست ساعات» (طوفان الأقصى) في هذا المستوى والسّياق التاريخي، الذي كان لا بد من سرده وتسجيله، ليكون دليلاً لنا على كيفية قراءته، وتوقّع ما قد يحدِثه ويترتّب عليه من تغيير جذري، على كامل صورة الوضع المستقبلي لـ«أرض فلسطين».
من المهم أن ندرك أن هجمات حماس، (يوم السابع من اكتوبر) لم تحدث من فراغ، وأن هذه الهجمات لا تبرر لإسرائيل القتل الجماعي الذي تشهده غزة
أصاب من قال إن «أرض فلسطين» هي «سُرّة الكرة الأرضية» وأي حدث فيها يطغى على كل ما في سواها من أحداث. من سمع أي خبر عمّا جرى ويجري من أحداث وتطورات وقتال في أوكرانيا، منذ اندلاع «حرب الست ساعات» فجر السابع من أكتوبر؟. أنا لم أسمع إلا خبراً واحداً، فحواه: أن الرئيس الأوكراني، فلودومير زيلينسكي، طلب ترتيب زيارة لإسرائيل، للتّضامن معها، وكان الرّد الإسرائيلي أن الوقت غير ملائم لاستقباله. ذلك أن كل ما يجري هناك، وهو كبير وخطير، لكنه ينحصر في تأثيره على أوروبا: شرقها وغربها، وحلف شمال الأطلسي، والاتحاد الروسي. أما خبر فلسطين وأرضها، خبر «سُرّة الكرة الأرضية» فإنه يصيب بأَبعاده، كامل جسد العالم.
ننتقل من سرد هذا التاريخ الى أحداث أيامنا هذه. ونختصر المعالجة، بسبب ضيق المساحة المتاحة، على موضوعين:
الأول: فقدت إسرائيل أعصابها أمس الأول عندما قال غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، في الجلسة الطارئة لمجلس الأمن: «من المهم أن ندرك أن هجمات حماس، (يوم السابع من اكتوبر) لم تحدث من فراغ، وأن هذه الهجمات لا تبرر لإسرائيل القتل الجماعي الذي تشهده غزة». قامت قيامة إسرائيل من هذا التصريح. وزير خارجيتها، إيلي كوهين، انتقد ورفض تصريح غوتيريش، وألغى لقاء معه، كان مقرراً قبل ذلك التصريح. وزاود مندوب إسرائيل لدى الأمم المتحدة، جلعاد أردان، على وزيره، و«طالب الأمين العام للأمم المتحدة بالاستقالة.. فوراً»!!.
غوتيريش ردّ أحداث السابع من أكتوبر الى تراكمات منذ بدء استعمار الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية، وقطاع غزة، عام 1967. وهذا ما لا تقبله إسرائيل. مشكلتنا مع الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي، أنه يريد تقطيع الأحداث والتطورات على هواه ومزاجه، بغض النّظر عن الحقائق الموضوعية، وترابط الأحداث بين السبب والنتيجة، بين الفعل وردّ الفعل. فإذا ربط، أيّ كان، ما يجري اليوم مع ما سبقه، كما ورد في كلمة غوتيريش، تفقد إسرائيل أعصابها. وبالمناسبة: ربط غوتيريش للتّطورات الحاصلة هذه الأيام، ليس دقيقاً، بالمطلق. جذور هذه الأحداث تمتد من حصار قطاع غزة، الى ما قبلها.. الى استعمار القطاع سنة 1967؛ وتمتد الى «النكبة» 1948، وتحويل أكثر من 75٪ من المقيمين حالياً في القطاع الى لاجئين تم طردهم من قرى ومدن ومضارب بدو «لواء غزة» ومن ألوية فلسطيني أُخرى؛ وتمتد الى وعد بلفور سنة 1917؛ وتصل الى إنشاء الحركة الصهيونية العنصرية سنة 1896.
عند وضع هذه الأمور في نصابها الصّحيح، تهرب إسرائيل الى 2500 سنة الى الوراء، وتستعين بأساطير توراتهم، التي تجعل من الله، سبحانه وتعالى، والأصح أنها تجعل من إله أساطيرهم، سمسار أراضٍ وعقارات، يعطي أبراهام، (وليس إبراهيم الخليل) «أرض فلسطين» له و«لنسله من امرأته سارة» فقط!. كيف يمكن مناقشة من يعود الى أساطير الغابرين؟.
الموضوع الثاني: تعلّمنا من كتب العلوم السياسية، أن الدولة تبني جيشاً وقوة عسكرية، لتحمي مصالحها، وتردع الطامعين بانتهاك حدودها وإلحاق الضرر بمواطنيها وبمصالحها. الأمر الذي يعني أن لجوء الدولة الى استخدام جيشها، يعني فشل سياستها. وهذا ما يثبته واقع الحال في تصرفات دولة الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي. إنه فشل متواصل لكل السياسات الإسرائيلية.
نترحّم على كل شهدائنا جرّاء هذه الهجمات الإسرائيلية الإجرامية المتواصلة، ونتألّم مع كل الجرحى والمصابين، أعانهم الله، ولكننا نتذكر بفرح واعتزاز، انتصار الثورة الجزائرية، وتحرير الجزائر واستقلالها. هذه الثورة قدمت من أبناء الشعب الجزائري الشقيق البطل، بين مليون ومليون ونصف شهيداً. استمرت الثورة ضد الاستعمار الفرنسي البغيض، نحو ثماني سنوات، وتحديدا: 2803 أيام، منذ انطلاقتها يوم 1.11.1954 الى يوم إعلان استقلالها، ما يعني أنها قدّمت في كل يوم من أيام ثورتها المجيدة، من 350 الى 530 شهيداً. رحم الله جميع شهداء أمتنا العربية.
إن كان لي أن أنهي هذه الأسطر بملاحظة شخصية فإني أقول: كنت في بيروت يوم بلغني نبأ وفاة والدي في سخنين، في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 1973. حزنت كثيراً.. وقلت لمن كان معي: عزائي الأكبر بوفاة والدي أنها تمّت بعد حرب السادس من أكتوبر، ولم يمُت كَمَداً، جرّاء حرب حزيران/ يونيو 1967.
هنيئاً لكل فلسطيني وعربي، شهد وتابع السابع من أكتوبر.