تتصاعد موجة الرفض العالمية لحرب إسرائيل الإبادية على الشعب الفلسطيني. برز من قلب التحالف الأطلسي موقف إسبانيا كصوت نشاز عكر صفاء الاصطفاف المطلق إلى جانب إسرائيل، ليضاف إلى صوت الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش الذي «تجرأ» على القول إن ما حدث في السابع من تشرين الأول «لم يأتِ من فراغ» الأمر الذي أغضب إسرائيل التي دعت إلى عزله من منصبه.
أما تركيا فقد تطور موقفها من الدعوة، في بداية الحرب، إلى «ضبط النفس» وصولاً إلى نفي تهمة الإرهاب عن حركة حماس ووصفها بحركة «تحرر وطني وجهادي» على لسان أردوغان، ثم الدعوة لمحاكمة قادة إسرائيل على ارتكاب جرائم حرب في غزة. الواقع أن الموقف التركي، بتطوراته، بالكاد يمكن إدراجه في فئة مواقف دول الحلف الأطلسي الذي ينتمي إليه، بل الأصح النظر إلى تركيا، في موضوع الحرب على غزة، كبلد إسلامي يحكمه، فوق ذلك، حزب إسلامي تعود جذوره إلى تيار «المنظور القومي» بقيادة الراحل نجم الدين أربكان الذي نشأ أصلاً حول فكرة الدفاع عن المسجد الأقصى بعد استيلاء إسرائيل على القدس في حرب العام 1967.
وإذا كانت المواقف التركية قد بقيت إلى الآن على مستوى التصريحات، فقد تجاوزت دول في أمريكا اللاتينية ذلك إلى إجراءات عقابية ضد إسرائيل كقطع بوليفيا علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، واستدعاء كل من تشيلي وكولومبيا لسفيريهما في إسرائيل «للتشاور» أما فينزويلا وكوبا ونيكاراغوا التي تحكمها حكومات يسارية فقد وصفت حرب إسرائيل على غزة بـ«التطهير العرقي».
وباستثناء دولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين وسوريا الأسد، أدانت جميع الدول العربية الحرب الإسرائيلية على غزة، مع بروز مواقف كل من مصر والأردن والسعودية وقطر كدول فاعلة في الجهود الدبلوماسية النشطة من أجل الوصول إلى وقف إطلاق نار فوري، والتحذير من مخطط إسرائيلي لتهجير الفلسطينيين، في «نكبة» جديدة إلى كل من مصر والأردن. وقد تمكنت المجموعة العربية في الأمم المتحدة من استصدار قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة بضرورة الوقف الفوري لإطلاق النار، وهذا ليس بالقليل في ظل الاصطفافات الدولية القائمة. ولا يمكن، في هذا السياق، التقليل من شأن إلغاء كل من الأردن ومصر والسلطة الفلسطينية لاجتماع عمان الذي كان مقرراً ليجمع إلى قادتها الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي جاء لتقديم العزاء لإسرائيل، كنوع من الاحتجاج الدبلوماسي على مجزرة المشفى المعمداني في غزة. فالأردن ومصر دولتان حليفتان للولايات المتحدة، ومعهما السلطة الفلسطينية ترتبط بإسرائيل بمعاهدات «سلام» لكن الخطر الوجودي الذي تشعر به الدولتان والسلطة الفلسطينية من الحرب الدائرة وتداعياتها المحتملة على أمنها القومي، دفعتها إلى اتخاذ هذا القرار الذي لا يمكن تصور اتخاذه في ظروف أخرى.
قسم كبير من الرأي العام العالمي يرى حرب غزة من منظور صحيح على رغم كل الجهود المضادة التي عملت على شيطنة الفلسطينيين بذريعة ما حدث فجر السابع من تشرين الأول، وعلى الدفاع عما تسميه «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»!
أما روسيا الغارقة في مستنقع الحرب على أوكرانيا، والمعزولة دولياً بسبب ذلك، فقد كان صوتها خافتاً في مواجهة الدعم الأمريكي غير المشروط لإسرائيل، وحاولت التغلب على ذلك ولفت الأنظار من خلال استقبالها الرسمي لوفد من حركة حماس في العاصمة موسكو، الأمر الذي لم تفعله تركيا مثلاً إلى الآن.
كل هذا يضاف إلى أصوات متفرقة كثيرة أشارت إلى جذر المشكلة المتمثلة في استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية في خرق مكشوف لقرارات الشرعية الدولية التي جوهرها حل الدولتين الذي ترفضه إسرائيل وتعمل بصورة منهجية على تدمير أسسه. كذلك لا ينبغي التقليل من شأن المظاهرات الشعبية الكبيرة في عدد من العواصم الغربية، كواشنطن ولندن وباريس وبرلين وغيرها، التي خرجت لمناصرة حقوق الشعب الفلسطيني وإدانة الهمجية الإسرائيلية. الخلاصة أن قسماً كبيراً من الرأي العام العالمي يرى حرب غزة من منظور صحيح على رغم كل الجهود المضادة التي عملت على شيطنة الفلسطينيين بذريعة ما حدث فجر السابع من تشرين الأول، وعلى الدفاع عما تسميه «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها!».
وفي الظروف القائمة، كل هذه المواقف والفعاليات الدبلوماسية والشعبية لا تقدر بثمن في التقليل من الخسائر السياسية قدر الإمكان في المرحلة التي ستلي انتهاء الحرب والانتقال إلى السياسة التي سترسم مستقبل الفلسطينيين وشعوب المنطقة لعقود قادمة. إسرائيل تريد نهايةً لهذه الحرب بتهجير سكان غزة إلى شبه جزيرة سيناء، ولديها خطط جاهزة تم الكشف عنها مؤخراً لفرض ذلك كأمر واقع على طريق إنهاء القضية الفلسطينية.
الإدارة الأمريكية تعطي مؤشرات كافية للظن بأنها مستعدة لإعطاء الغطاء السياسي لهذا المشروع، ومعها ألمانيا وبريطانيا وفرنسا بدرجات متفاوتة.
مقاومة الدول العربية والمنظمة الأممية، ومعها دول أخرى بما فيها روسيا والصين، والرأي العام العالمي على المستوى الشعبي، كلها عوامل مهمة لإفشال هذا المشروع الإسرائيلي.
الطريف في هذه اللوحة السياسية هو أن أنظمة «محور الممانعة» بقيادة إيران هي الأقل أهمية وفاعلية في الدور المقاوم لأهداف التحالف الإسرائيلي الغربي. فلا هجمات حزب الله المحسوبة بدقة على أهداف في مزارع شبعا، ولا هجمات الميليشيات التابعة لإيران في العراق وسوريا ضد القواعد الأمريكية، ولا جعجعة إعلام نظام الأسد التافهة، ولا صواريخ الحوثي التي تسقط في الأراضي المصرية بدلاً من إسرائيل، ترقى إلى مستوى التحدي الخطير الذي تواجهه شعوب المنطقة.