سبق أن شهد العالم مثالا حيّا عن نظرية أسطرة العدو، في تعامل الولايات المتحدة مع العراق عام 1991، عندما استخدمت ماكينة هائلة من الدعاية، قدّمت الجيش العراقي على أنه رابع أقوى جيش في العالم، يمتلك أسلحة فتّاكة بما فيها أسلحة الدمار الشامل. وكان الغرض من ذلك تبرير تشكيل تحالف دولي لضرب العراق، واستخدام كل أنواع الأسلحة ضد جيشه وبناه التحتية. وها هي الدعاية الإسرائيلية والغربية منذ 7 أكتوبر لا تتوقّف عن الحديث عن قدرات حركة حماس الخارقة وأنفاقها، التي وصلت، حسب توصيف بعض الخبراء، إلى حد أن هناك مدينة موازية، بنتها “حماس” في الأنفاق، وأنها أعدّت كمائن سوف تبتلع الجيش الإسرائيلي. وبالتالي، أصبحت الحركة قوة ضاربة في تصريحات المسؤولين الإسرائيليين. وحسب أعضاء مجلس الحرب المصغّر، ستكون الحرب معها صعبة وطويلة، وستدور على الأرض وتحتها، في الجو والبحر، داخل حدود غزة وخارجها.
ويعني هذا التهويل أحد أمرين، إما أن اسرائيل لم تعد صاحبة الجيش الذي لا يُقهر، البارع في الحروب الخاطفة، أو أن “حماس” قوة عسكرية أسطورية، يتطلب القضاء عليها كل هذا الجهد العسكري. وفي حقيقة الأمر، يفتقر الاحتمالان إلى الدقّة، فالجيش الإسرائيلي لا يزال قويا، وفشله في رد تحدّي 7 أكتوبر لا يعني أنه بات مترهلا ولا يستطيع خوض الحرب. كما أن “حماس” ليست بالقوة التي يصوّرونها، مهما بلغ مستوى التطوّر الذي وصلت إليه في الأعوام الأخيرة، عدا أنها تخوض معركة غير متكافئة على مساحة من الأرض صغيرة جدا، لا تسمح لها بالمناورة الواسعة.
قد يكون خيار الحرب الطويلة تكتيكا إسرائيليا من أجل عدم المغامرة بأرواح الجنود، والعمل وفق خطّة قضم تدريجي لقطاع غزّة على دفعات، يتم خلالها إنهاك “حماس”، وفكّ ارتباطها بالشارع الفلسطيني الذي يلتفّ حولها، ويدفع من أجل ذلك ثمنا عاليا في الأرواح، حيث يزداد عدد الشهداء كل يوم، أغلبهم من الأطفال والنساء. ولتحقيق هذا الهدف، قطعت اسرائيل الماء والكهرباء والوقود والإنترنت عن القطاع، ولا تسمح بدخول مساعداتٍ ذات قيمةٍ عن طريق معبر رفح. وفي الوقت الذي يمكن أن يوفر فيه هذا التكتيك الأرواح على إسرائيل، فإنه يلعب، من ناحية أخرى، في غير صالحها على مستويين. الأول، الجبهة الداخلية التي تعيش تحت صدمة 7 أكتوبر، وتنتظر انتصارا سريعا على “حماس” يعيد الاعتبار لإسرائيل، كما أنه لا يمكنها أن تتعايش مع الصواريخ والقذائف، التي تتساقط على المدن الإسرائيلية، وهذه مرشّحة أن ترتفع كمّا ونوعا. والمستوى الثاني هو التضامن العربي والدولي الذي يكبر بسرعة وكل يوم من حول غزّة، ومثال ذلك المظاهرات التي تعم المدن العربية، ومدنا عديدة في الغرب، مثال لندن، واشنطن، نيويورك، وباريس. وبالنظر إلى العدد الكبير من الضحايا في صفوف المدنيّين في غزّة، قد يتحوّل عامل التضامن إلى قوة ضغط تُجبر داعمي إسرائيل، وخصوصا الولايات المتحدة، على تغيير في مواقفهم، وضبط إيقاع الحرب على نحو يخفّف من السقف العالي الذي وضعته إسرائيل لنفسها، ويجبرها على تصغير الأهداف التي أعلنت عنها. ولنا في حرب احتلال العراق عام 2003 مثال على المسافة الكبيرة بين الممكن والمستحيل من جهة، وما يمكن أن ينجم من كوارث عن المكابرة السياسية، واعتبار الحرب وحدها طريقا لتسوية المشكلات، من جهة أخرى، الأمر الذي دفعت الولايات ثمنا عاليا جدا من أجله في العراق قبل أن تنسحب من هناك، وتسلم البلد لإيران، وتزرع بذور التطرّف الذي أنتج إرهاب “داعش”، الذي أصاب الغرب والشرق على السواء.