يتصاعد الوضع عسكريا على الجبهة اللبنانية-الإسرائيلية مع انخراط “حزب الله” والجيش الإسرائيلي في اشتباكات يومية وقصف متبادل.
وقد أدت هذه الاشتباكات إلى ارتفاع عدد القتلى من كلا الجانبين، مما أثار مخاوف من اشتعال جبهة حرب جديدة مع استمرار إسرائيل في حملتها العنيفة ضد حركة “حماس” الفلسطينية في غزة.
على هذه الخلفية، يواصل كبار المسؤولين الأميركيين التحذير من قيام “حزب الله” بفتح جبهة جديدة مع إسرائيل.
ومع ذلك، يعكس هذا الخوف سوء فهم لمقاربة “حزب الله” للصراع الحالي. وينبغي النظر إلى عمليات الحركة الشيعية اللبنانية على الحدود الجنوبية بدلاً من ذلك على أنها ما تعتبره “عملا ضروريا” للحفاظ على نفسها.
استراتيجية “حزبالله” العسكرية الحالية في مواجهة إسرائيل
في أعقاب عملية “عاصفة الأقصى”، التي قتلت فيها “حماس” نحو 1.400 مواطن إسرائيلي وأجنبي واختطفت أكثر من 200 آخرين، أعلن “حزب الله” أنه لن يقف مكتوف اليدين عندما بادرت إسرائيل إلى إطلاق ردها.
وفي كلمة ألقاها أمام تجمع حاشد في بيروت، شدد رئيس اللجنة التنفيذية للحركة، هاشم صفيّ الدين، على أن “حزب الله” ليس طرفا محايدا في الأعمال العدائية الجارية.
كما شنت الحركة الشيعية هجوما عبر الحدود على المواقع العسكرية الإسرائيلية في منطقة مزارع شبعا المتنازع عليها، واصفة العملية بأنها عمل تضامني مع الفلسطينيين.
وفي حين تكثفت عمليات القصف المتبادل عبر الحدود بين “حزب الله” وإسرائيل في الأسابيع التي تلت ذلك، فإنها ظلت محتواة في المنطقة الحدودية.
وقد اختارت الحركة الشيعية أهدافها بعناية، مع التركيز على المواقع العسكرية الإسرائيلية في المنطقة. وبالمثل، كانت الأعمال الانتقامية الإسرائيلية على الجبهة اللبنانية محسوبة هي الأخرى، واقتصرت على المنطقة الحدودية.
تؤكد مصادر مطلعة مقربة من “حزب الله”، أن نطاق عمليات الحركة حتى الآن يبدو أنه يدحض فكرة أنها تنوي فتح جبهة ثانية كاملة ضد إسرائيل.
وقال مصدر تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته: “لو أراد ’حزب الله‘ أن يستغل الوضع، لكان قد فعل ذلك مباشرة بعد عملية ’حماس‘ لأن إسرائيل كانت ما تزال في موقف ضعيف”.
وأضاف “أن جميع الأطراف حريصة على تجنب نشوب حرب شاملة”، مؤكداً أن هذا الموقف ينطبق إلى حد كبير على “حزب الله”. وشدد على أن “حربا شاملة تندلع الآن ستكون مكلفة بينما تحشد إسرائيل قواتها في الشمال وترسل الولايات المتحدة حاملات طائرات إلى المنطقة”.
ووصف مسؤولون كبار من الحركة الشيعية اللبنانية عملياتها عبر الحدود بأنها تهدف إلى إظهار تضامنها مع “حماس” وتشتيت انتباه الجيش الإسرائيلي. وصرح الرجل الثاني في الحركة، نعيم قاسم، بأن الهدف هو إضعاف الجانب الإسرائيلي.
وأكد مصدر ثان مقرب من قيادة “حزب الله”، أن الحركة تحاول إرهاق الجيش الإسرائيلي وتقليل تركيزه في خضم الحملة التي يشنها في غزة.
وأوضح المصدر، الذي طلب عدم الكشف عن اسمه، أن “ما يحدث الآن هو حرب استنزاف”. وأضاف “أن ’حزب الله‘ يجبر إسرائيل على تحويل الموارد العسكرية إلى الجبهة الشمالية من أجل إضعاف عملياته العسكرية في غزة”.
الخطوط الحمراء لـ”حزب الله”
مع ذلك، وفقا للمصدر الثاني، يمكن أن تتغير استراتيجية “حزب الله” إذا شنت إسرائيل هجوما بريا كبيرا على غزة، والذي تقول التقارير إنه قادم. وشدد المصدر على أن “جميع الخيارات ستكون مطروحة على الطاولة إذا مضت إسرائيل قدما في القيام بغزو بري لغزة”.
بل إن إسرائيل شنت في الواقع عمليات برية في غزة فيما وصفته بأنه المرحلة التالية من حملتها. ومع ذلك، لم تشن حتى تاريخه غزوا بريا واسع النطاق للجيب الساحلي بعد. وحتى كتابة هذه السطور، لم يصعِّد “حزب الله” إلى ما هو أبعد من استهداف المواقع العسكرية الإسرائيلية في المنطقة الحدودية.
وفي نهاية المطاف، من المرجح أن يتحدد مسار عمل “حزب الله” المستقبلي من خلال كيفية تطور الوضع على الأرض.
وقد شدد المصدر الأول على أن الهدف الإسرائيلي المعلن المتمثل في القضاء على “حماس” يشكل خطا أحمر بالنسبة للحركة.
وأضاف: “إذا بدت إسرائيل على وشك تدمير ’حماس‘، فإن ’حزب الله‘”، إلى جانب الحوثيين في اليمن ولاعبين إقليميين آخرين، سيتدخلون لمنع تحقق هذا السيناريو”.
ينبع الخط الأحمر للحركة من المخاوف من أنها قد تكون التالية على قائمة إسرائيل إذا بدا أن الأخيرة تحقق مهمتها المعلنة ضد “حماس” في غزة. وردا على سؤال حول ما إذا كان هذا هو نهج “حزب الله” بالفعل، أجاب المصدر الأول: “بالتأكيد”.
في الحقيقة، يبدو أن هذه المخاوف لها ما يبررها إلى حد ما، وسط تقارير تفيد بأن وزير الدفاع الإسرائيلي وكبار ضباطه العسكريين كانوا يضغطون من أجل شن هجوم وقائي استباقي ضد “حزب الله” بالتوازي مع الحملة ضد “حماس”.
ووفقا لهذه التقارير، رفض رئيس الوزراء، نتنياهو، هذه الأصوات وقام بتحييدها بإيعاز من الولايات المتحدة.
ومع ذلك، سيكون من شأن تدمير “حماس” أن يحرر الموارد الإسرائيلية، وربما يزعزع واقع الردع المتبادل الذي حافظ على هدوء الجبهة اللبنانية الإسرائيلية منذ حرب تموز (يوليو) 2006.
وفي ظل هذا السيناريو، يمكن للقادة السياسيين الإسرائيليين أن يعتبروا أن شن حملة عسكرية واسعة النطاق ضد “حزب الله” سيكون أقل مخاطرة.
معضلة بايدن
تهدد الخطوط الحمراء التي وضعتها الحركة الشيعية اللبنانية بوضع إدارة بايدن في مأزق. ويعتمد نهج البيت الأبيض تجاه الصراع الحالي على ركيزتين رئيسيتين: إلقاء ثقله الكامل وراء هدف إسرائيل المتمثل في القضاء على “حماس”، مع السعي إلى منع اندلاع صراع أوسع في المنطقة.
وتجعل استراتيجية “حزب الله” تحقيق كلا الهدفين صعبا للغاية، إن لم يكن مستحيلاً. وكما ذكر أعلاه، من المرجح أن تؤدي هزيمة وشيكة لـ”حماس” في غزة إلى تصعيد -ليس من جانب “حزب الله” نفسه فحسب، ولكن أيضا من جانب حلفائه في اليمن. ومن المرجح أيضا أن تدخل وحدات الحشد الشعبي العراقية المعركة في ظل مثل هذا السيناريو.
ويرجع ذلك إلى التأثير الذي تتمتع به الحركة اللبنانية على هذه الجماعات نتيجة التقارب الأيديولوجي والدعم في ساحة المعركة؛ حيث قدم “حزب الله” المساعدة لكل من الحوثيين في اليمن في حربهم ضد التحالف الذي تقوده السعودية، وللميليشيات ذات الأغلبية الشيعية في العراق في حملتها ضد “داعش”.
ومثل “حزب الله”، تلقى كل من الحوثيين والميليشيات العراقية مساعدة كبيرة من إيران.
السيناريوهات الممكنة
بالنظر إلى تقدير “حزب الله” أن إبادة “حماس” ستكون مقدمة لتهديد وجودي ضد الحركة نفسها، فمن غير المرجح أن تردع التحذيرات الأميركية المجموعة إذا ما تكشف مثل هذا السيناريو. وعلى الرغم من نشر مجموعتين ضاربتين من حاملات الطائرات الأميركية في المنطقة، واصل “حزب الله” عملياته عبر الحدود ضد إسرائيل.
في الوقت نفسه، يعتقد كبار المسؤولين الأميركيين السابقين، مثل ستيف سايمون من معهد كوينسي، أن القيام بعمل عسكري أميركي مباشر ضد “حزب الله” هو أمر غير مرجح.
وقال سايمون، كبير مستشاري إدارة أوباما السابق لشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، في تواصل عبر البريد الإلكتروني: “سوف تكون الولايات المتحدة في وضع يمكنها من التدخل إذا اختارت القيام بذلك”. وأضاف: “لكنني أشك في أنها ستفعل، أو أن الإسرائيليين يريدون منها أن تفعل”.
ومع ذلك، ظهرت تقارير تفيد بأن عملا عسكريا أميركيا ضد الحركة اللبنانية قد نوقش على مستويات عليا في الحكومة.
لكن من شبه المؤكد أن عمليات عسكرية أميركية ضد “حزب الله” ستؤدي إلى تكثيف الهجمات على القوات الأميركية من قبل الحلفاء الأيديولوجيين للحركة اللبنانية، بما في ذلك الحوثيون في اليمن والميليشيات المدعومة من إيران في العراق. وهذا يعني فعليا حربا إقليمية تجد فيها القوات الأميركية نفسها مرة أخرى تحت النار.