كشف العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، عن حالة من الوهم، كان يعيشها معظم سكان الكرة الأرضية، تتعلق بما يطلق عليه حضارة الغرب، بما يسمى المنظمات الدولية، بما يعرف بأخلاقيات الحروب، بما يتردد عن احترام الثقافات، بما يشاع عن حوار الأديان، بما تتشدق به عواصم السلاح النووي تحديداً عن حقوق الإنسان، بل وحقوق الحيوان. إلا أن خطورة هذه الممارسات والكشف عن كونها بهذا القدر من التردي والانحطاط، ينذر بعودة كوكب الأرض إلى أزمنة سحيقة من التخلف والمواجهات والكراهية والعنصرية، وكانت في حقيقتها كامنة في أدمغة ومدونات الغرب في آن واحد، تنتظر لحظة الانطلاق إلى العلن، لتنهي بذلك نصف قرن على الأقل من الدجل السياسي والإنساني.
بعد حربين عالميتين راح ضحيتهما ما يزيد على 80 مليون قتيل، أراد الغرب ممثلاً في القارة الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية معاً، تصدير وهْم التحضر والإنسانية إلى العالم، في صور وأشكال عديدة، بدءاً من إنشاء المنظمات الأممية والدولية والإقليمية، مروراً بالكيانات الحقوقية والإنسانية، وحتى التشدق بالمساواة والحريات، رغم استمرار سياسات الغزو والقتل، التي بلغت في أفغانستان وحدها ما يزيد على مليون قتيل، وفي العراق ما يصل إلى مليوني قتيل، ومازال مسلسل المؤامرات مستمراً حتى الآن في معظم دول منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص، ولم تسلم منه القارة الأوروبية في روسيا وأوكرانيا، ودول الاتحاد اليوغوسلافي السابق، وأرمينيا وأذربيجان، ومن نار تحت الرماد بين تركيا واليونان والقبارصة وغيرهم، وحتى في الداخل الأمريكي.
نعيش الآن عصر القوة من أوسع الأبواب، أو بمعنى أصح: عصر الجهل والظلام، بعد أن أصبحت الدول الكبرى تقوم بدور المنظمات الإرهابية في وضح النهار
القضية الفلسطينية وحدها كشفت المستور، غزة وحدها قلبت الطاولة رأساً على عقب، وهْم الإنسانية والأخلاق والقوانين والمواثيق الدولية تبخر في أجواء قطاع غزة، داسته الأقدام هناك، كل ذلك تخضب بدماء طاهرة لآلاف الشهداء، من نساء وأطفال وشباب وشيوخ، هَمهم أنهم ينشدون حياة حرة دون احتلال كبقية البشر في كل القارات، من هنا كان المنطق معكوساً، على كل الأصعدة من خلال مجموعة من الظواهر يمكن رصد البعض منها كالتالي:
أولاً: كل المحادثات بين العواصم الغربية والعربية معاً، تدور معظم الوقت حول كيفية تحرير أسرى دولة الاحتلال، الذين لا يزيد عددهم على 240 شخصاً، دون اعتبار لنحو عشرة آلاف أسير على الجانب الآخر، من بينهم من قضى في السجون 20 أو 25 عاماً دون شفقة أو عطف من الكائنات البشرية بشكل عام، في الوقت الذي تستمر فيه عمليات الاعتقال على مدار الساعة.
ثانياً: كل المحادثات والاقتراحات الصادرة عن دولة الاحتلال، أو حتى عن عواصم الدول الكبرى مدعية التحضر، تتحدث وتتناقش حول إعادة توطين الشعب صاحب الأرض خارج وطنه، سواء في دول الجوار، أو أخرى تبعد آلاف الكيلومترات، بدلاً من التحدث عن إعادة المحتلين إلى أوطانهم الأصلية، أو إعادة توطينهم في دول وبقاع أخرى.
ثالثاً: كل الدول الكبرى مدعية التحضر أعلنت عن مد كيان الاحتلال بأحدث أنواع أسلحة القتل والدمار الهجومية، في الوقت الذي لم ينطق فيه أي مسؤول دولي أو حتى عربي، عن حق المدافعين عن أرضهم، المعتدى عليهم، في الحصول على أسلحة دفاعية على أقل تقدير.
رابعاً: كل المسؤولين الدوليين من عرب وعجم، أجمعوا على حق الكيان الصهيوني في الدفاع عن نفسه، رغم أنهم بحكم دراساتهم القانونية والسياسية، يدركون جيداً أن سلطات الاحتلال في أي مكان في العالم ليس لها هذا الحق، بل الأدهى من ذلك أن أحداً منهم لم يتحدث عن حق صاحب الأرض في الدفاع عن نفسه، اللهم إلا الرئيس التركي أردوغان، عندما أعلن أن حركة المقاومة الإسلامية «حماس» ليست منظمة إرهابية.
خامساً: في الوقت الذي تبث فيه وكالات الأنباء والمواقع الإخبارية صوراً لوصول شحنات السلاح من العالم -المتحضر- لدولة الاحتلال، وقف العالم مكتوف الأيدي أمام منع أصحاب الأرض من الحصول على الماء والغذاء والدواء والوقود، في عملية إبادة لم يشهدها العالم في التاريخ الحديث.
سادساً: في الوقت الذي فشل فيه مجلس الأمن الدولي في التوصل إلى قرار بشأن الأزمة، وفي الوقت الذي فشلت فيه منظمة الأمم المتحدة في تنفيذ قرارها بوقف القصف على المدنيين من خلال هدنة إنسانية، والصادر بأغلبية 120 دولة، مازال العالم يتحدث عن تجاوز حركة حماس للقوانين الدولية في عملياتها المسلحة التي استهدفت دولة الاحتلال في السابع من أكتوبر الماضي، رداً على ممارسات قوات الاحتلال في المسجد الأقصى.
سابعاً: لأول مرة في التاريخ، يستمر العدوان المكثف على مدنيين بالطائرات والصواريخ والمدفعية، براً وبحراً وجواً، دون استنكار من هذه العاصمة أو تلك، بل الأدهى من ذلك مباركة هذا العدوان، والموافقة على استمراره، والتصريح بذلك جهاراً نهاراً وعلى مدار الساعة، خصوصاً من الولايات المتحدة، الدولة الأكثر تشدقاً بالحريات والعدالة، مستضيفة المنظمة الدولية المعنية بالأمن والسلم الدوليين.
ثامناً: إصرار الدول الغربية على إخراج رعاياها من غزة منذ اليوم الأول للعدوان، أكد بما لا يدع مجالاً للشك، ذلك التنسيق الشيطاني المتعلق بالانتقام من جهة، ومن جهة أخرى أكد مدى العنصرية البغيضة التي تعاني منها هذه الدول في القرن الـ21، وهو الأسلوب نفسه الذي انتهجته مع الرئيس العراقي صدام حسين عام 1990 حينما أصرت هذه الدول تحديداً على إخراج رعاياها من العراق تمهيداً لقصف بالطائرات حينها لم يبق ولم يذر.
تاسعاً: إصرار الإعلام الغربي وساسته، على ترديد الروايات المزيفة بقطع المقاومة الفلسطينية رؤوس الأطفال الإسرائيليين، ونسج مزيد من الروايات في هذا الشأن، على الرغم من التراجع الأمريكي عن سردها منذ اليوم الأول للأزمة، واعتذار البيت الأبيض تحديداً، وهو ما يؤكد أيضاً وهْم أخلاقيات الإعلام الغربي، الذي سقط هو الآخر – كما السياسيين- في وحل غزة ودماء شهدائها.
عاشراً: المناقشات المستفيضة تحت عنوان (مستقبل غزة ما بعد الحرب) من يحكم، ومن يدير، ومن يعيش فيها، إنما هو دليل صارخ على المنطق المعكوس، ذلك أن العنوان الأحق بالنقاش هو (مستقبل إسرائيل ما بعد الحرب)، في محاولة لتصحيح الأوضاع وعودة الحقوق لأصحابها، إن أردنا سلام واستقرار المنطقة بالفعل.
أعتقد بعد كل ذلك، أن مقررات المناهج الدراسية المتعلقة بالقانون الدولي، بكليات الحقوق والعلوم السياسية في العالم أجمع، أصبحت بلا معنى، ومن ثم فإن دراستها تصبح تحصيل حاصل، كما أن المنظمات الدولية المعنية بالقانون والأمن والسلم الدوليين لم يعد هناك مبرر لوجودها أو للعضوية بها، وإلا فإننا نخدع أنفسنا، ذلك أننا نعيش الآن عصر القوة من أوسع الأبواب، أو بمعنى أصح: عصر الجهل والظلام، بعد أن أصبحت الدول الكبرى تقوم بدور المنظمات الإرهابية في وضح النهار، بينما تشارك غالبية الدول في الجريمة بالصمت والتخاذل، أو حتى ببيانات الشجب حفظاً لماء الوجه، كما هو حال الدول العربية تحديداً. وهنا يجب أن نتوقف أمام إرسال الغرب حاملات الطائرات والسفن الحربية والفرقاطات إلى المنطقة للهدف المعلن، وهو ردع آخرين عن التدخل في القتال الدائر، حتى تنهي إسرائيل مهمتها المعلنة بالقضاء على المقاومة وتهجير مواطني غزة، وتغيير وجه المنطقة، على حد تعبير قادتهم، فربما كان ذلك هو الدليل الأهم على أننا أمام منظمات إرهابية في شكل دول وأنظمة، حملت على عاتقها نشر الرعب والخوف في نفوس المواطنين الآمنين، ليس في فلسطين المحتلة فقط، وإنما في المنطقة ككل، في غياب قادة بالمنطقة على قدر المسؤولية، يمكنهم رفع راية التحدي والمواجهة، إن أرادوا التحرر الوطني بالفعل. الغريب في الأمر، أن المنطق المعكوس، كان أكثر وضوحاً في الحالة العربية، المعنية بالأمر من الأساس، أو المفترض أنها هكذا، ذلك أن مظاهرات الاحتجاج اجتاحت العواصم الغربية، خصوصاً المدن الأمريكية، بينما تعامل الوطن العربي مع فاجعة قتل الأشقاء الفلسطينيين على مدار الساعة، على استحياء بشكل عام، وفي الوقت الذي تعاملت فيه بعض دول أمريكا الجنوبية مثل، بوليفيا وكولومبيا وتشيلي، سياسياً، بقدر كبير من المسؤولية، سواءً بسحب أو طرد سفير الكيان الصهيوني، كان المواطن العربي يناشد قادته في كل من مصر والأردن والمغرب والإمارات والبحرين، التعامل مع الموقف بالمثل، بعد أن اكتشفوا غياب المنطق تماماً.
أعتقد أن ما ذكره السياسي الأمريكي المخضرم دينيس روس، في صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية، بعد اتصالات أجراها مع عدد من دول المنطقة، بأن حكومات هذه الدول توافق على هزيمة المقاومة الفلسطينية، كان هو المنطق المعكوس بحق، إضافة إلى ما صدر عن دولة الإمارات العربية رسمياً في هذا الشأن منذ بداية الأزمة، وهو الأمر الذي يضع شعوب المنطقة العربية أمام مسؤولياتها في مواجهة الخطر الذي يهدد أوطانهم من الداخل قبل الخارج، ذلك أن دول العدوان أو الاستعمار، تعي أن المقاومة الفلسطينية في هذا التوقيت، هي التي تقف حجر عثرة أمام تنفيذ مخطط (سايكس بيكو) الجديد، أو المخطط الأمريكي-الغربي، الطائفي العنصري، واضح المعالم، ومن ثم فقد تكالبت عليها الأمم.