“الدرزيّة السياسيّة” وفلسطين… علاقة تلفّها “الكوفيّة” (1/2)

“الدرزيّة السياسيّة” وفلسطين… علاقة تلفّها “الكوفيّة” (1/2)

لا تُغادر “الدرزية السياسية” في لبنان الكوفية الفلسطينية. الأخيرة لا تغادر الأولى عند كلّ استحقاق. هذا واقع باشره الأمير شكيب أرسلان عام 1925 على ما يقول المفكّر رضوان السيّد. عمّقه وثبّته “ثالوث” جنبلاطيّ: كمال الأب، ووليد الابن، وتيمور الحفيد.

إثر “عبور” 7 تشرين الذي أنجزته حركة حماس على أرضها المحتلّة تبرّع كُثر بـ “انتقادات” ظالمة لعموم الدروز. بعضهم نشّط وسائل الدعاية عن تشييع جنازات لدروز في الجيش الإسرائيلي. غيرهم تبرّع بتفسير التوشّح بالكوفية على أنّه شيءٌ من “باطنية”. وثمّة بين المسؤولين الإسرائيليّين من استغلّ هذا لبعث خوف أقلّوي من محيط عربي ـ إسلامي.

توصيف “الباطنية” إلى كونه نيلاً من “اعتقاد إيماني” كان يُضمر في السياسة الحديث عن نزعة أقلّوية عند “بني معروف” تستّرت عليها “اشتراكية” استدعاها كمال جنبلاط ليعيد للدرزية ما كانته قبل لبنان الكبير.

لئنّ صحّ أنّ قلق الأقلّيات يصدع الهويّات الوطنية وينقل الجماعات خارج الحدود الوطنية، إلا أنّه بالاستدلال المُعاكس يشير إلى مشكلة البلد الذي تشكَّل من نسيج عنكبوتي جمع على الدوام خارجاً كبيراً مع داخلٍ صغير. لبنان منذ نشأته كان منتفخاً بعقول تفتيتيّة. المراحل الاستثنائية في تاريخه طغت عليها “شوفينية” كانت تراوح بين فينيقية تاريخية انطوائية، وبين عروبة ناصرية ما فوق وطنية. بين الاثنين كان حضور اليسار غير ذي أثر.

لا تُغادر “الدرزية السياسية” في لبنان الكوفية الفلسطينية. الأخيرة لا تغادر الأولى عند كلّ استحقاق. هذا واقع باشره الأمير شكيب أرسلان عام 1925 على ما يقول المفكّر رضوان السيّد

سيل الاتّهامات الذي جرى للطعن بوشائج العلاقة بين “الدرزية السياسية” وفلسطين استحضر عن وعي ما عُرِفَ بـ “حرب الجبل” في الثمانينيات. الحديث وصل إلى حد الإتهام بتعاون درزي – إسرائيلي أعاد لبني معروف نصرَيْن عسكرياً وسياسياً كانا قد تحقّقا لهما أواخر القرن الثامن عشر قبل أن يسلبهما القناصل والمتصرّفون.

اليوم في زمن تحوّلات كبرى ومعارك مصيرية في غزّة، يستعيد المرء سياقات “الدرزية السياسية” وعلاقتها مع فلسطين، وذلك بعد “رباعية” تناولت “المارونية السياسية”، وثلاثية عرضت لسياقات “الشيعية السياسية” وتبدّل أحوالها في التحالف مع الفلسطينيين والانقلاب عليهم.

شكيب أرسلان منذوراً لفلسطين

“الدرزية السياسية” في لبنان على تشكيلها العريض لها سردية ترتدّ إلى عشرينيّات القرن الماضي في الدفاع عن فلسطين بوجه الانتداب الإنكليزي والحركة الصهيونية. البدء كان مع الأمير شكيب أرسلان (1869 ـ 1946) الذي نذر نفسه لفلسطين إلى نضاله ضدّ الانتدابين الفرنسي والبريطاني من فلسطين إلى المغرب العربي. لكنّ ما أخذته أولى القبلتين من الأمير شكيب أرسلان كان عمراً فيها ومن أجلها. ويوم تركها عائداً إلى لبنان عاش فيه ستة أشهر فقط.

يقول المفكّر الدكتور رضوان السيّد لـ “أساس”: “بدأ اهتمام الأمير شكيب أرسلان ومعه أخوه عادل وسكرتيره عجاج نويهض بفلسطين في أواسط العشرينيات وضدّ الصهاينة والانتداب البريطاني. هذا الثلاثي الدرزي مع آخرين كثر شكّلوا نواة نضالية استثنائية في الانتصار لفلسطين وشعبها. وسيصبح الراحل عجاج نويهض لاحقاً سكرتيراً للحكومة العربية العليا في القدس التي تشكّلت عام 1946 واستمرّت حتى عام 1955، إذ انتهت لكثافة الأحداث وتعقُّدها على مستوى المنطقة ككلّ. فالأمير شكيب كان أول من تنبّه إلى ما ستؤول إليه الأحداث في فلسطين نفسها على مستوى العالم العربي. أوّل تصدّيه للحركة الصهيونية كان إثر أحداث البراق (حائط المبكى) بعدما اصطدم الفلسطينيون مع اليهود في سعيهم الأول نحو المسجد الأقصى”.

يضيف الدكتور السيد: “بعد صدامات البراق كتب الأمير شكيب أرسلان في مجلة المنار عام 1925 عن الصهيونية وعن وعد بلفور. واستبق الراهن القائم اليوم قائلاً إنّ الصراع مع الصهيونية إذا ما قُيّض لها أن تنجح في مخطّطها لن يكون قومياً وديمغرافياً وسيكون دينياً لأنّ الصهاينة يريدون الأقصى”.

لم يترك الراحل أرسلان منبراً من منابر كثيرة كتب فيها ومن خلالها إلا وعرض لخطورة الصهيونية على فلسطين والمنطقة حتى عام 1931 يوم عُقد مؤتمر القدس لمواجهة مسألتَي الصهيونية والانتداب البريطاني. المؤتمر الذي عُقد بدعوة من مفتي القدس الشيخ محمد أمين الحسيني خلص إلى تسمية إطار بـ”المؤتمر الإسلامي” الذي انتخب أرسلان نائباً لرئاسته وممثّلاً عنه لدى “الهيئات العلمية الشامية”، وهي أطر كانت تناقش قضايا المنطقة ومواجهة الانتدابين البريطاني والفرنسي.

توصيف “الباطنية” إلى كونه نيلاً من “اعتقاد إيماني” كان يُضمر في السياسة الحديث عن نزعة أقلّوية عند “بني معروف” تستّرت عليها “اشتراكية” استدعاها كمال جنبلاط ليعيد للدرزية ما كانته قبل لبنان الكبير

ذهب أرسلان في نضاله إلى حدّ جمع التبرّعات المالية وتعبئة المقاتلين وإرسالهم للمشاركة في ثورة عزّ الدين القسّام عام 1936، على ما يقول الدكتور السيد، “وقد استمرّت علاقته مع فلسطين على متانتها على طوال سنوات المواجهة مع الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية في سعيها لإقامة وطن يهودي. هذا النضال من فلسطين إلى المغرب العربي استنفر ثلاثيّ فرنسا وبريطانيا والحركة الصهيونية ضدّه في الحيلولة دون عودته إلى وطنه لبنان بسبب تعثّر ظروفه المالية، إلا أنّ وساطات كثيرة سمحت بعودته عام 1946. ومأثور عنه قوله عندما جاءت وفود لبنانية وسورية لتهنئته في بيروت: “أكبر الأخطار الآن على فلسطين”. قال ذلك قبل النكبة عام 1948 وقبل ستّة أشهر من وفاته بعيد وصوله إلى لبنان. قبل ذلك باثنتي عشرة سنة، أي عام 1934، كتب في مجلة المنار ما سيكابده العرب منذ النكبة حتى اليوم “إذا حصل الصهاينة على وطنهم القومي والديني على أرض فلسطين، فهذا سيكون سوراً وسدّاً أمام مستقبل الأمّة العربية”.

الثالوث الجنبلاطيّ والكوفيّة الفلسطينيّة حول الأعناق وعلى الأكتاف

“يا تيمور سِر رافع الرأس، واحمل تراث جدّك الكبير كمال جنبلاط، واشهر عالياً كوفية فلسطين العربية المحتلّة، كوفية لبنان التقدمية، كوفية الأحرار والثوار، كوفية المقاومين لإسرائيل أيّاً كانوا، كوفية المصالحة والحوار، كوفية التواضع والكرم، كوفية دار المختارة. واحضن أصلان بيمينك، وعانق داليا بشمالك، وعند قدوم الساعة ادفنوا أمواتكم وانهضوا، وسيروا قدماً فالحياة انتصار للأقوياء في نفوسهم لا للضعفاء”.

هذا ما قاله الزعيم الدرزي الأبرز في لبنان وسوريا وفلسطين، رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، في الذكرى الأربعين لاستشهاد والده المعلّم كمال جنبلاط، قبل أن يسلّم إلى تيمور جنبلاط الكوفية الفلسطينية. شكّلت هذه الخطوة انطلاقة عملية توريث الزعامة الجنبلاطية.

لآل جنبلاط، ودار المختارة، تاريخ طويل مع القضية الفلسطينية. لا يحيط باحث أو كاتب أو مؤرّخ بتاريخ هذا البيت وهذه العائلة، بعيداً عن تاريخ القضية الفلسطينية. بينهما دمٌ كثير ونضالات وتواريخ وأيام ومعارك وحروب، هي عملياً تاريخ لبنان منذ نكبة عام 1948، أو جلّه.

المحطة المفصلية فيها استشهاد كمال جنبلاط، في عزّ الحرب الأهلية اللبنانية، التي شكّل الفلسطينيون فيها الطرف الأبرز. علاقة معمّدة بالدم لا يمحوها ماحٍ، ولا يمكن لمتغافل أن يغفل ذكرها.

حماة الثغور

الدروز جزء من نسيج بلاد الشام الاجتماعي والديني. في كتابه عن تاريخ “شكيب أرسلان” ينسُب الكاتب زيد الحجار إلى الأمير موضوع رسالته الأكاديمية قوله إنّ “آل معروف عرب أقحاح أجدادهم في الغالب من عرب اليمن نزحوا إلى بلاد حلب”. تركّز وجودهم في لبنان وسوريا وفلسطين والأردن. أصابهم ما أصاب هذه البلاد من ويلات وحروب واحتلالات.

الدروز الآن، في لبنان وفلسطين المحتلّة والأردن وسوريا، صاروا موقفاً أكثر من كونهم عدداً. قرارهم في ماضي بلاد الشام كان ذا فعّالية حاسمة ومُقرّرة. فما كاد يمضي قرن على قيامهم حتى تعرّضت بلاد الشام للحملة الصليبية الأولى “فاضطرّوا إلى الانضواء تحت راية الدولة السُنّية في دمشق ضدّ الغزاة، وفي القرنين التاليين كانوا في حالة حرب دائمة مع الصليبيين في المناطق المحيطة بهم. فاتّخذوا من معاقلهم الجبلية في الشوف ووادي التيم مراكز للإغارة على مواقع الصليبيين في المناطق الساحلية والبقاع وشمال فلسطين. وأثارت شجاعتهم إعجاب الدول السُنّية التي تعاقبت على الحكم في دمشق، فسعت بشتّى الهبّات إلى الاستعانة بهم في الصراع ضدّ الفرنجة”، على ما يقول المؤرّخ كمال الصليبي في “تاريخ لبنان الحديث”.

علاقة الدروز بمقاومة المحتلّ، كلّ محتلّ، عمرها من عمر المذهب الذي انبثق من المذهب الإسماعيلي التقليدي، في أوائل القرن الحادي عشر، بدءاً بمواجهة الحملات الصليبية الأولى، وصولاً إلى التصدّي للعصابات الصهيونية والمشاريع الاستيطانية على أرض فلسطين، وما بينهما من حملات اضطهاد شُنّت عليهم، وسلطات لطالما عصوها على مرّ العصور.

المحطة المفصلية فيها استشهاد كمال جنبلاط، في عزّ الحرب الأهلية اللبنانية، التي شكّل الفلسطينيون فيها الطرف الأبرز. علاقة معمّدة بالدم لا يمحوها ماحٍ، ولا يمكن لمتغافل أن يغفل ذكرها

الدروز في فلسطين: هشاشة وغواية

الدروز في فلسطين المحتلّة اليوم يشكّلون ما نسبته 10% تقريباً من إجمالي عدد السكان العرب فيها. النسبة هذه تنحدر إلى حوالي 2% من إجمالي عدد سكّانها. يتركّز وجودهم في شمالها، وفي منطقة حيفا، وفي الجولان السوري المحتلّ.

عام 1948، حصلوا على الجنسية الإسرائيلية تلقائياً، كما مُنح القاطنون منهم في الجولان الجنسية الإسرائيلية عام 1981، وما زالوا يحتفظون بالجنسية السورية.

قبل النكبة وإعلان قيام إسرائيل، انقسم دروز فلسطين قسمين: قسم حارب الانتداب والعصابات الصهيونية. أمّا الآخر فقد بقي على الحياد ولم يشارك أفراده في المواجهات العنيفة التي نشبت حينها. البعض انضووا تحت لواء القومية العربية وقاتلوا وناضلوا في صفوف الحركات العربية المقاومة والفصائل الفلسطينية، والبعض الآخر تضامنوا مع الإسرائيليين.

عملت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على إبعاد الدروز عن محيطهم العربي، وعمقهم العربي التاريخي. اشتغلت كثيراً على تعزيز شعورهم الديني لتقديمه على هويّتهم العربية. تصدّى لهذا التوجّه الشهيد كمال جنبلاط. وعلى مثله ومثاله مضى نجله وليد.

لم تترك إسرائيل كبيرة أو صغيرة لبعث الشعور الأقلّوي كعلامة جمع بين بني معروف واليهود. ذهبت كثيراً في الدعاية فاستحضرت الدين والاعتقاد. شدّدت على قِدم العلاقة بين بني معروف وبين اليهود. من الأمثلة التي قدّمها الإسرائيليون على ذلك، هو علاقة المصاهرة الشهيرة، بين النبي موسى والنبي شعيب الذي يجلّه الدروز ويولونه أهمية كبيرةً ترقى إلى مرتبة القداسة.

السيّئ الذي حصل

سعت إسرائيل، منذ ما قبل قيامها وفي أثنائه وبعده، إلى إيقاع الشقاق بين دروز فلسطين والعرب، والتقريب بينهم وبينها، وربّما كانت أبرز تلك المحطّات والمساعي إبّان تنكيل الرئيس السوري الراحل أديب الشيشكلي بدروز سوريا عام 1954. كما سعت إلى إبعادهم عن دروز سوريا ولبنان.

الدروز “العُصاة” رابطوا على عروبتهم. كان الردّ الإسرائيلي بأن ألزمت الحكومات المتعاقبة “مواطنيها” الدروز الذكور بالخدمة الإلزامية في جيش الدفاع الإسرائيلي، منذ أصدر رئيس الوزراء الإسرائيلي الأول ديفيد بن غوريون القرار بذلك رسمياً عام 1956.

في المقابل اعترفت إسرائيل، عام 1957، بالهويّة “الدرزية الإسرائيلية”. منحت المدارس الدرزية الاستقلالية وهامشاً من الاختلاف في مناهجها عن المناهج الإسرائيلية، كما تشير دراسات عدّة. عام 1959، فصلت السلطات الإسرائيلية المحاكم الدرزية عن المحاكم الشرعية الإسلامية، استكمالاً لمساعيها في فصل الدروز عن عمقهم الطبيعي.

إلا أنّ السيّئ الذي حصل في حرب غزّة كان من رئيس الطائفة في فلسطين، الشيخ موفق طريف، الذي أصدر بياناً أكّد فيه أنّ الطائفة الدرزية، “هي جزء لا يتجزّأ من دولة إسرائيل”. كان البيان ردّاً على نضال جنبلاطي عميق وضارب في التاريخ الحديث. جاء البيان بعد دعوة الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي لدروز فلسطين المحتلّة بعدم الانخراط في “مواجهة المناضلين من حماس ومن الشعب الفلسطيني”. كان الردّ قاسياً ومؤلماً، إذ كان بيان الشيخ طريف عمليّاً بمنزلة إعلان انحياز إلى جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو.

إقرأ أيضاً: “الشيعيّة السياسيّة” في أقاصي الدم الفلسطينيّ

“الجنبلاطيّة” من لبنان إلى فلسطين

ذلك لا يلغي أنّ المجتمع الدرزي يشهد حالةً من الانقسام الحادّ في ما يخصّ الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي: بين من يرفضها لعدم ثقته بالجيش الإسرائيلي، وبين من يرفضها من باب الانتماء إلى الفضاء العربي الأوسع وبناءً على قناعاته القومية.

الوجهة القومية العربية لـ”الدرزية السياسية” في لبنان، وهي على معنى عريض “قبلة سياسية” لسائر بني معروف في كلّ بلاد الشام، هي اختبار محن الهويّة التي يخوضها على الدوام وليد جنبلاط الذي بكى بالدموع وبالرصاص خروج منظمة التحرير الفلسطينية وزعيمها الشهيد ياسر عرفات من بيروت ذات احتلال لثاني عاصمة عربية بعد القدس.

كان الأب كمال قد ثبّت ذلك بنصرة فلسطين شعباً وثورةً. قاتل في أعالي الجبل دفاعاً عن “منظمة التحرير الفلسطينية” واستقلالية القرار الوطني الفلسطيني الذي سيسقط في الوحول اللبنانية لاحقاً فيتلوّث ويلوّث الحلفاء بدمٍ شطرَ لبنان الهشّ.