لم تقف حرب غزة عند الحدود الجغرافية للحرب، أو عند حدود الطبيعة القانونية للجرائم التي ترتكب فيها، بل دخلت في صلب النقاش الثقافي/ الأخلاقي، بضمنه استخدام التراث الأوروبي لمعاداة السامية لغرض تسويغ الكثير من المواقف التي لا يمكن للإنسان «الطبيعي» فهمها بسهولة!
في هذا السياق، جاءت الرسالة التي وقعها الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، رفقة ثلاثة آخرين، أحدهم، وهو كلاوس غونتر ويعمل أستاذا للنظرية القانونية والقانون الجنائي والإجراءات الجنائية! وكانت بعنوان A Principle of Solidarity، نشرها مركز أبحاث «الأوامر المعيارية» في جامعة غوتة في فرانكفورت قبل أيام.
ورغم أن الرسالة ذات طابع محلي، وموجهة للجمهور الألماني بشأن «التضامن المفهوم مع إسرائيل واليهود في ألمانيا» لكن عبارات وردت في البيان تعكس أزمة أخلاقية حقيقية، ليس في ألمانيا وحدها، بل في معظم العالم الغربي، مع استثناءات نادرة، كما في الحالة النرويجية؛ فالبيان يصف هجوم حماس بأنه «مذبحة مع النية المعلنة للقضاء على الحياة اليهودية بشكل عام» وأن ذلك هو الذي دفع إسرائيل «للرد المبرر من حيث المبدأ». ومع الحديث عن ضرورة أن يكون «مبدأ التناسب» حاضرا في رد الفعل هذا، وفيما يتعلق بعدم وقوع إصابات بين المدنيين، يؤكد البيان أنه على الرغم من القلق بشأن مصير السكان الفلسطينيين، (وليس الواقعين تحت الاحتلال والحصار) فإن معايير الحكم تخطئ تماما عندما تنسب نوايا الإبادة الجماعية إلى تصرفات إسرائيل»!
بالعودة إلى كلام سابق لهابرماس حول « الأصولية والإرهاب» في حوار أجرته معه جيوفانا بورادوري ونشرته في كتابها «الفلسفة في زمن الإرهاب» نُشر بعد أحداث 11 أيلول 2001 مباشرة، قال في سياق سؤاله عن تعريف الإرهاب، وعن التمييز بين أنواع الإرهاب: «لا يزال الإرهاب الفلسطيني يمتلك سمة محددة عفا عليها الزمن، من حيث أنه يتمحور حول القتل، وحول الإبادة العشوائية لحياة الأعداء والنساء والأطفال ضد الحياة» وأن هذه السمة هي التي تميزه عن «الإرهاب الذي يظهر في الشكل شبه العسكر لحرب العصابات» التي اعتمدتها حركات التحرر الوطني في النصف الثاني من القرن العشرين!
يبدو واضحا أن موقف هابرماس ليس موقفا «استثنائيا» من شخص بلغ من العمر عتيا (مواليد العام 1929، ويبلغ من العمر 94 عاما) أو أنه موقف فرضته عُقد معاداة السامية في ألمانيا عام 2023 بسبب البشاعة التي ارتكبت في الحرب على غزة، بل هو موقف «تقليدي» لمثقف ألماني لايزال مطاردا من تاريخه الشخصي، ومن ذكرى المحرقة، ومن تاريخ طويل لمعاداة السامية.
لم تقف حرب غزة عند الحدود الجغرافية للحرب، أو عند حدود الطبيعة القانونية للجرائم التي ترتكب فيها، بل دخلت في صلب النقاش الثقافي/ الأخلاقي، بضمنه استخدام التراث الأوروبي لمعاداة السامية لغرض تسويغ الكثير من المواقف التي لا يمكن للإنسان «الطبيعي» فهمها بسهولة
كتب أومري بوهم، وهو أستاذ فلسفة إسرائيلي، مقالا في صحيفة النيويورك تايمز 2015 تحت عنوان «الصمت الألماني بشأن إسرائيل، وتكاليفه» نقل فيها جواب لهابرماس عن سؤال وجهته له صحيفة هآرتس الإسرائيلية في مقابلة معه عام 2012، عن رأيه في السياسة الإسرائيلية، أجاب هابرماس أنه رغم أن «الوضع الحالي وسياسات الحكومة الإسرائيلية» يتطلب «نوعا من التقييم السياسي» إلا أن ذلك «ليس من شأن مواطن ألماني عادي من جيلي»! ويعلق أومري بوهم على هذا الجواب بالقول إنه «عندما يرفض مؤسس فرع من الفلسفة يسمى «أخلاقيات الخطاب « الحديث، هناك عواقب نظرية وسياسية، الصمت هنا في حد ذاته فعل كلامي، وهو فعل علني للغاية بالتأكيد»!
وفي شرحه لمعنى هذا «الصمت» يعود بوهم إلى معنى التنوير عند كانط أولا، وعند معلم هابرماس المباشر تيودور أودورنو، يقول إن ما يفعله هابرماس، الفيلسوف الذي كان نذر نفسه لإنقاذ فكرة التنوير، والذي يرى أن التنوير بوصفه «مشروعا لم يكتمل» هو أنه «رفض حرفيا اتخاذ موقف التنوير عندما تناول الشؤون اليهودية»! لينتهي إلى أن «العودة إلى كانط لن تتحقق قبل أن يجد المثقفون الألمان الشجاعة للتفكير والتحدث عن إسرائيل» وأن ذلك هو الاختبار النهائي للتفكير التنويري نفسه!
هكذا يتحول هابرماس صاحب نظرية «الفعل التواصلي» التي تنتقد المركزية العرقية بجميع أشكالها، وتقترح مفهوما منطقيا للأخلاق العالمية بعيدا عن المركزية الغربية، فجأة إلى مواطن ألماني عادي من جيل النازية لا يحق له تقييم أفعال إسرائيل!
ويتحول صاحب الدعوة المتحمس إلى «دور المثقف العام في المجال العام» الذي يناقش الشؤون العامة بعقلانية ونقدية للوصول إلى «الحقيقة والعدالة» وينظر أن ردود الفعل في المجال العام «أمر حيوي لإضفاء الشرعية على تصرفات النظام السياسي» وأنه «لا يوجد سبب للاعتقاد بأن المجالات العامة يجب أن تتوقف عند الحدود الوطنية، تحول فجأة إلى مجرد مواطن ألماني عادي يسوغ جرائم حرب ترقى لأن تكون جرائم إبادة جماعية دون أن يقف للحظة من أجل فهم طبيعة الصراع وسياقاته التاريخية!
ويتحول صاحب التمييز بين الفعل التواصلي والفعل الأداتي، في أن الأول موجه نحو التوصل إلى التفاهم/ الاتفاق، فيما الثاني فعلٌ ذرائعي موجه نحو النجاح الفردي، وهو عمل أناني وأحادي، إلى اتخاذ فعل أداتي/ ذرائعي أناني تماما عندما يتعلق الأمر بإسرائيل!
ويتحول صاحب الدعوة لأخلاقيات الخطاب، والذي يميز بين السلوك الأخلاقي بوصفه نظرية معيارية للصواب، وبين الأخلاق النظرية بوصفها نظرية للخير، وهي النظرية التي قام بتطويرها بالانتقال من البحث في «خطاب الأخلاق النظرية» إلى البحث في «خطاب السلوك الأخلاقي» وينتهي إلى أن يعيد تسمية نظريته بـ «نظرية خطاب السلوك الأخلاقي» لكنه انتهى إلى أنه تخلى عن الخير والصواب معا، عندما تعلق الأمر بإسرائيل!
ويعمد صاحب «مبدأ السلوك الأخلاقي» و«مبدأ العالمية» بوصفهما مبادئ الأخلاقيات النظرية للخطاب، و الذي يتبنى مقولة كانط «الإرادة العقلانية هي مصدر الالتزام الأخلاقي» إلى نسيان كل ذلك عندما يتعلق الامر بإسرائيل!
لم يعد هابرماس «العدالة « قيمة سياسية فقط، بل قيمة أخلاقية عليا، والقيمة المحددة لخطاب السلوك الأخلاقي، قياسا إلى الحقيقة في الخطاب النظري، وأن العدالة يجب أن تفهم هنا على أنها «ما هو متساو في مصلحة الجميع، لكنه ينسى مفهوم العدالة هذا ويمارس حكما تمييزيا واضحا عندما يتعلق الأمر بإسرائيل!
في الحوار الذي أشرنا إليه حول الإرهاب والأصولية، يأخذ هابرماس على الحرب التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية على أفغانستان أن «التباين بين القوة التدميرية المركزة لمجموعة الصواريخ المتميزة والمتعددة الاستخدامات التي يتم التحكم فيها إلكترونيا في الجو، والشراسة التقليدية لأسراب المحاربين الملتحين المجهزين ببنادق الكلاشينكوف على الأرض، يظل مشهدا فاحشا من الناحية الأخلاقية» ولكنه ينسى هذا «الفحش الأخلاقي» تماما عندما تعلق الأمر بإسرائيل والفلسطينيين، بل يعده مبررا تماما!