المتتبع لمأساة غزة وجراحها الغائرة والنازفة يومياً ينتفض ثورةً ضد سقوط القيم الإنسانية، حينما تهان الكرامة الإنسانية وتصير سلعة للشعارات الجوفاء لهذا الطرف أو ذاك. كلٌ تحركه سردية النصر والانتقام وتغذية لغة العنف الذي يشكل وسيلة لتحقيق الغايات، حين يتحلل الإنسان من إنسانيته ويتحول إلى وحش كاسر. إن العالم يشاهد مسلسل العنف اليومي من تقتيل عشوائي للأطفال والنساء والشيوخ العجزة، وتدمير البيوت فوق ساكنيها، وصفوف الجثامين مرمية في الشوارع ولا تجد من يواريها الثرى.
فمن جهة، نتابع انتقام إسرائيل من مليوني إنسان من سكان غزة من المدنيين العزل الذين نراهم عبر الشاشات وهم يصرخون “إلى أين نذهب”، والموت يتعقب خطاهم في فرارهم الدائم من جحيم إلى جحيم، والبرد والأمطار يعصفان بأجسادهم وخيامهم العشوائية، فيما يؤكد المتطرفون في الحكومة الإسرائيلية قناعاتهم المتأصلة بضرورة تهجير الفلسطينيين إلى شتات آخر، ليضيفوا 365 كيلومتراً مربعاً هي كل مساحة قطاع غزة إلى أرض إسرائيل، ضمن سردية “مسيانية” عدمية تستحوذ على الفكر الصهيوني، لا تقبل بإمكانية التعايش والتعددية الثقافية والمعتقدية في منطقتنا.
على المقلب الآخر من المأساة الغزاوية، تتصاعد فوق جراح الفلسطينيين نبرة النصر بين أوساط صناع القرار الإيراني، فرحين بانتقامهم بذراع “حماس” لأن أميركا وإسرائيل أرادتا إسقاط النظام الإيراني نهاية العام الماضي بدعمهما لانتفاضة “مهسا أميني”، بينما جاء رد إيران مطبوخاً على نار هادئة، وفشلت كل أجهزة الاستخبارات الدولية في توقعه، وأتى مزلزلاً كدرس لكل من تسول له نفسه الاعتداء على إيران. تعلن إيران على الملأ أنها على استعداد للتسبب بقتل الفلسطينيين والعرب، والدفع بهم إلى مزيد من الجحيم عبر أدواتها الإرهابية المتمثلة بـ “حماس” في غزة، و”حزب الله” في لبنان، و”الحشد الشعبي” في العراق، والحوثيين في اليمن، فقط للدفاع عن دولة الملالي.
وتفاخر إيران بأنها نقلت غضب الفلسطينيين، من انتفاضة أطفال الحجارة في عام 1987، إلى القدرات الصاروخية والمسيرات، في حروب ميليشياتها في غزة، وأنها ستصنع المزيد لإخراج أميركا من المنطقة، وإلقاء اليهود في البحر وإحكام سيطرتها على دولها، وفق نفس السردية التاريخية لسمو وتفوق العرق الفارسي ودنو قدر الشعوب الأخرى التي يفترض بأن تكون خادمة في بلاط الملالي الزرادشتيين المجوسيين الجدد.
رؤيتان عنيفتان تتصارعان فوق جثث وأشلاء الأبرياء وهي تؤمن بـ”النصر الإلهي” المؤزر، فيما ينظر سكان العالم متفرجين بحسرة وعاجزين أمام تلك الطامة الكبرى التي إن تُركت ستقضي على الزرع والضرع في منطقتنا، وستجهض جهود شعوبها لبناء مستقبل زاهر بعيداً من سرديات العنف ومذاهبه ومروجيه.
قراءات اليوم التالي
على رغم كارثية الصورة وضبابيتها وسط نيران ودخان الجحيم الغزاوي، إلا أن العالم بدأ التفكير في خيارات ما بعد الاجتياح الإسرائيلي لغزة. وكنت في مقال سابق بعنوان “هل تقتل الحرب فرص السلام؟” نُشر بعد أسبوع من بدء الحرب التي أشعلتها “حماس” بتوجيه من سادتها في طهران، قد طرحت في الأسئلة الكبرى أمام الفلسطينيين والإسرائيليين والعرب والأميركيين والعالم أجمع، هل سنسلم جميعنا لإرادة الملالي في طهران وعصبهم الإرهابية في المنطقة؟ هل سنسلم لإرادة المتطرفين والمستوطنين اليهود؟ وأضفت أن الحل تكمن مفاتيحه في المبادرة التي أطلقتها السعودية ضمن رؤية حل الدولتين كمدخل للانفتاح على العالمين العربي والإسلامي من بوابة الرياض.
وقلت حينها إن القرار بيد الإسرائيليين لمواصلة السير في طريق “سلام الشجعان” الذي بدأه ياسر عرفات، وإنهم بحاجة إلى وقفة مع الذات في مقاربتهم لموضوع العيش المشترك، وتجاوز فكرة اليمين المتطرف التي تقضي بصنع سلام مع العرب كل على حدة، وبأن العنف وتوسيع الاستيطان هما السبيل لكسر مقاومة الشعب الفلسطيني، بل الانتقال إلى مربع القبول بمقاربة السلام السعودية، التي ستفضي إلى منح الفلسطينيين استقلالهم الناجز بقيادة السلطة الوطنية الفلسطينية، الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، وتحقق التكامل والتطور والازدهار الإقليمي.
لقد عملت الإدارات الأميركية المتتالية على فكرة حل الدولتين، ولكنها سرعان ما كانت ترضخ تحت ضغط اليمين المتطرف في إسرائيل ولوبيه النافذ في أميركا. واليوم يعاود البيت الأبيض طرح الخطوط العريضة لإنقاذ المنطقة من الانجرار إلى ملعب العنف المنفلت الذي تفرضه إيران عبر عملائها، ونظريتها لهزيمة أميركا وحلفائها في جولات حروب متتالية على طريق تحقيق نصر نظام الملالي التدريجي عبر النقاط، وهي تراهن اليوم على أن الضغط الدولي وكلفة الحرب الإنسانية سيوقفان الحرب لتعلن “حماس” انتصارها الخامس على إسرائيل فوق أشلاء الشعب الفلسطيني.
وفي مقال نشرته صحيفة “واشنطن بوست” خلال الأسبوع الماضي يقول الرئيس بايدن إنه ناقش خلال الأسابيع التي سبقت حرب غزة الأخيرة، مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الأفق الرحبة والمتفائلة لرؤية الشرق الأوسط الكبير، وفكرة الممر الاقتصادي الإبداعي الذي سيربط الهند بأوروبا عبر الإمارات والسعودية والأردن وإسرائيل، ما سيخلق مناخات من الازدهار والنماء في المنطقة. ولكن الرئيس بايدن تساءل في بداية مقاله هل أنه بعد انقشاع غبار الحرب سيعيش الإسرائيليون والفلسطينيون جنباً إلى جنب في سلام، وفي دولتين مستقلتين، وحرمان “حماس” من القدرة على ارتكاب المزيد من المجازر؟ وهل سنواصل معاً رؤيتنا الإيجابية للمستقبل أم سنسمح لأولئك الذين لا يشاركوننا قيمنا، في إشارة إلى إيران، بجرنا إلى أوضاع أكثر خطورة وانقساماً؟
وتوجه الرئيس بايدن برسالة إلى الإسرائيليين بعدم السماح للغضب بالتحول إلى الانتقام وارتكاب الأخطاء التي ارتكبتها أميركا في الماضي في إشارة إلى ردود الفعل التي أعقبت أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001. وأكد رفض فكرة التهجير القسري للفلسطينيين من قطاع غزة، وإعادة الاحتلال والحصار أو تقليص الأراضي، ورفض أعمال العنف المنفلت للمتطرفين ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، مضيفاً أن هذه الحرب أكدت بما لا يدع مجالاً للشك حتمة العمل الجاد على حل الدولتين للخروج من دوامة العنف التي تديرها إيران، مؤكداً وجوب البدء بالعمل الآن لأن الشعب الفلسطيني يستحق دولته المستقلة، ويستحق مستقبلاً خالياً من “حماس”.
حتى لا تكون وعود عرقوب!
قد يقول قائل إن الوقت ليس مؤاتياً للحديث عن السلام، لأن الحرب مستعرة وأذرع إيران تختطف المشهد اليوم، إلا أن الرئيس الأميركي يدرك أن النفوس مشتعلة وأن من جوف الأزمات ينبعث الأمل. وأضيف أن أكبر الأزمات التي اشتعلت طوال التاريخ، كانت هي التوقيت المناسب للبحث عن الحلول المستدامة، فقد تم التوصل إلى اتفاق “الجماعة الأوروبية للفحم والصلب” من ست دول أوروبية، فيما كانت أوروبا تعيش لحظات الخروج من آتون الحرب العالمية الثانية، وقامت بذلك بوادر الاتحاد الأوروبي الذي نعرفه اليوم.
وربما يكون المدخل لتحقيق رؤية الرئيس بايدن للمنطقة، والتي عرضها خلال زيارته للسعودية في 2022، والمنطلِقة من مبادئ خمس وهي الشراكة، والردع، والدبلوماسية، والاندماج، والقيم، عبر إعلان مشترك من الدول الرئيسة في المنطقة وإسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية، يؤكد العمل الفوري لإنجاز حل الدولتين وإنهاء الاحتلال، وتمكين الحكومة الفلسطينية الشرعية من إدارة الأراضي في الضفة والقطاع، ضمن مرحلة انتقالية، قبل خوض الانتخابات الفلسطينية، التي سيشكل إجرائها مباشرةً فرصة للإسلام السياسي للوصول عبر بكائية “النصر لدماء الأبرياء”. كما يفترض أن يتناول الإعلان خروج المستوطنين من الأراضي الفلسطينية، وربما يليها الإعلان عن الخطوات التنفيذية بنبذ وإقصاء التنظيمات الإرهابية وفق رؤية أوسلو، الأمر الذي سيجهض مساعي إيران المتواصلة لزعزعة الأمن والاستقرار الإقليميين.
كما أن هناك طروحات عدة حول أهمية عدم التأخر في إنشاء آلية للتعاون العسكري والأمني الإقليمي شبيهة بحلف شمال الأطلسي، وأخرى للتعاون والتكامل الاقتصادي على غرار الاتحاد الأوروبي، تضم في البداية الدول العربية الخليجية ومصر والأردن وبعض الدول الأوروبية.
ويبقى التحدي الأكبر أمام رؤية بايدن للمنطقة هو في قدرته على التأثير بالقرار الإسرائيلي باعتباره الخطوة الرئيسة الأولى والأهم على مسار التسوية الشاملة. وعلى إسرائيل أن تتوقف عن اللعب في الملعب الإيراني وبشروطه وتوقيتاته، وإدراك أن دائرة العنف يمكن كسرها بعودة الحق الفلسطيني لبناء سلام مستدام يؤسس لتعايش صادق ونماء وخير لجميع شعوب المنطقة، تماماً كما تتصوره الرؤية السعودية، ورؤية بايدن، والأفكار العظيمة مثل الممر الاقتصادي. إنها لحظة تاريخية فهل تكون إسرائيل جاهزة لاقتناصها، ووضع حد لسيل الدم النازف منذ عام 1947. إن المنطقة أمام خيارين لا ثالث لهما إما سلام شامل واندماج وتعايش وخير، وإما تغول العنف والإرهاب، ولا ثالث لهما.