خلال أسبوع واحد شهد العالم حدثين خطيرين سياسيا ومحمّلين بالدلالات الرمزية المرعبة: الأول كان انتخاب خافيير ميلي رئيسا جديدا للأرجنتين، والثاني كان الفوز الكبير لحزب خيرت فيلدرز، الزعيم اليميني المتطرّف لحزب «الحرية» الهولندي.
ميلي، المشهور بـ«المجنون» تفوق على نظيريه، الأمريكي دونالد ترامب، والبرازيلي جايير بولسونارو، في الشعبوية، وقد لعبت الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة دورا كبيرا في تمتين تحالفه مع قناتي «لاناسيون ماس» و«إيه 24» اللتين تبنّتا خطاب مظلومية إسرائيلية، وشيطنة للفلسطينيين.
اتبع ميلي خطّا غريبا ولكنه يشابه في عمقه ما نراه لدى ساسة مشهورين في الغرب، بعقد «صفقة» صعود إلى السلطة عبر توكيد فظ عن علاقته الوجدانية بإسرائيل وباليهود، منفذا ذلك عبر سلسلة من الأحاديث والوقائع، من تصريحات عن عودة المسيح كمخلص للشعب اليهودي، وأن اليهودية (وهو الكاثوليكي) هي أقرب دين إلى قلبه (وحتى أن الله كلّمه في المنام) إلى مباركة الحاخام الأكبر للجالية اليهودية (المغربية) في الأرجنتين له، وزياراته لمعاقل اليهود في أمريكا، وحتى إعلانه للحاخام عن رغبته في اعتناق اليهودية.
ترافق التذلل السياسي لإسرائيل والغرائب اللاهوتية لدى ميلي مع التعريض بمواقف الرئيسة السابقة كريستينا كوشنر في «دعم الإرهابيين في غزة» كما كانت التلفزة المؤيدة له تردد، غير أن نسخة فيلدرز الهولندية فتظهر الجانب الاستئصالي الذي تميّزت به العنصرية العرقية الأوروبية منذ أيام فاشية موسوليني ونازيّة هتلر.
استبدل ورثة الفاشية الجدد أولئك ضحيتهم السابقة (اليهود) بالمسلمين، الذين يمثّلون «الضحايا المثاليين» الجدد حيث أن أعدادا كبيرة منهم هم من اللاجئين الجدد الهاربين من مناطق الصراع (التي كان للغرب يد كبرى فيها) والمهاجرين القدامى، من بلدان الاستعمار الغربي السابق، والذين جعلتهم السياسات الاقتصادية والثقافية على الهوامش وفي الضواحي وتم تحميلهم مسؤوليات الأزمات الاقتصادية للحكومات المتعاقبة.
«سيرة» فيلدرز المقابلة لميلي تحفل بالمتناقضات، فأبوه وأمه هولنديان لكن والدته ولدت في إندونيسيا خلال فترة الاستعمار الهولندي هناك، وسبق لفيلدرز أن عاش في إحدى المستوطنات الإسرائيلية، وهو ما يفسّر من ناحية علاقته القوية بإسرائيل، ومحاولته، ليس فقط إبعاد صفة النازية الواضحة عن حزبه فحسب، بل تحميل هذه الصفة للإسلام، وتضمن «كفاحه» ضد الإسلام والمهاجرين إدانته بعدة دعاوى لتصريحات عنصرية ضدهم في وسائل الإعلام، وإطلاقه فيلما بعنوان «فتنة» الذي طالب فيه بحظر القرآن وأعلن أن الإسلام «دين فاشي».
ظهر ميلي وفيلدرز مؤخرا ووراءهما العلم الإسرائيلي، وفي حين أعلن ميلي أنه سيزور إسرائيل قبل حتى تولّيه منصب الرئاسة في 10 كانون أول/ديسمبر «لشكر الرب» والإعلان عن دعمه «إخوته» الإسرائيليين في محنتهم، وربما لإعلان استباقي بنقل سفارة الأرجنتين إلى القدس، فإن فيلدرز كرّر خطابه الماضي عن إبعاد الفلسطينيين إلى الأردن مما استدعى ردا من الجامعة العربية.
يمثّل ميلي وفيلدرز تيارا سياسيا في العالم، وفي الغرب خصوصا، وقد تلقّى هذا التيار دعما كبيرا من مواقف الدول الغربية الأخيرة الداعمة بالمطلق لإسرائيل، وهو ما أعطى خلفيّة عريضة لأقوال الفاشيين الجدد أمثال ميلي وفيلدرز الذي قال مرة إن إسرائيل «هي الجبهة المركزية في الدفاع عن الغرب الحر ضد بربرية الأيديولوجيا الإسلامية» و«نحن لا نريد مزيدا من المسلمين بل على العكس نود أن ينقص عددهم بيننا» وهي طريقة أخرى للتعبير عن فكرة «المحرقة النازية» التي سيكون ضحاياها القادمون من المسلمين.
ما تقوم به الدول الغربية، عمليا، هو تقديم أساس صلب لتقدّم الفاشيّات في أوروبا، وهذا ما يطرح إشكالية كبرى على الحضارة الغربية، وعدم عودة هذه الفاشيات مرتبط، بشكل كبير، بإعلاء المبادئ الإنسانية والحقوقية التي أقرّها العالم بعد الحرب العالمية الثانية لمنع عودة حرب عالمية ثالثة أو عودة المحارق والفاشيات.