تُشكل الضربات المتبادلة المحفوفة بالمخاطر بين القوات الأمريكية وقوات الميليشيات أحد أعراض المنافسة الأوسع نطاقاً بين الجهات الفاعلة المتخاصمة في العراق، والتي يجب على المسؤولين الأمريكيين والأوروبيين العمل معاً على احتوائها.
في 21 تشرين الثاني/نوفمبر، أفادت بعض التقارير أن طائرة حربية من طراز “إيه سي-130” قصفت عناصر ميليشيا عراقية بالقرب من بغداد بعد تعرض القوات الأمريكية في “قاعدة عين الأسد الجوية” للهجوم، في أحدث عملية حتى ذلك التاريخ، ضمن سلسلة من عمليات تبادل إطلاق النار منذ اندلاع الحرب في غزة. وقد تعمدت كل من إدارة بايدن والميليشيات المدعومة من إيران الحد من نطاق ضرباتها وقدرتها الفتاكة حتى ذلك التاريخ، ويبدو أن القصف في 21 تشرين الثاني/نوفمبر كان يهدف أيضاً إلى توجيه الرسائل والردع بدلاً من التصعيد. ومع ذلك، لا يزال هناك خطر كبير بقيام هجمات أوسع نطاقاً، سواء عن قصد أو من جراء نيران ضالّة أو غير ذلك من الحسابات الخاطئة. وتسلط الهجمات شبه اليومية أيضاً الضوء على الديناميكيات السياسية المحلية المعقدة الكامنة وراء ردود الفعل العراقية على الحرب بين “حماس” وإسرائيل، حيث تسعى الكثير من الجهات الفاعلة المتنافسة إلى استغلال النزاع على النحو الذي يعزز مكانتها من دون تعريض السلطة والدخل الذي اكتسبته أساساً للخطر.
أسباب ضبط النفس لدى الميليشيات
تشكل الكثير من الميليشيات الشيعية جزءاً من الحكومة العراقية الحالية – وهو الوضع الذي وصلت إليه بعد سنوات من استخدام أسلحتها، ورعايتها من النظام الشيعي في إيران، وقتالها القوات الجهادية السنّية التابعة لتنظيم “الدولة الإسلامية” من أجل الحصول على مقاعد حكومية. وكما هو الحال مع معظم الميليشيات الشيعية الأخرى في الشرق الأوسط، فقد أعلنت نفسها جزءاً من “محور المقاومة” الإيراني المناهض للولايات المتحدة وإسرائيل، والذي أعيدت تسميته مؤخراً تحت إسم المظلة المحلي “المقاومة الإسلامية في العراق” (وهي تسمية جديدة تمنح، وليس من قبيل الصدفة، منظمتها الأم الرسمية – “قوات الحشد الشعبي”، وهي جهاز رسمي للدولة العراقية – المزيد من الحماية من العقوبات والإجراءات القانونية). ومنذ 18 تشرين الأول/أكتوبر – أي في اليوم التالي الذي أعقب الانفجار الذي وقع في “المستشفى الأهلي” في غزة والذي أدى إلى انتشار الغضب في جميع أنحاء العالم العربي – نفذ عناصر “المقاومة” أكثر من ستين هجوماً بطائرات بدون طيار وقذائف وصواريخ ضد أهداف أمريكية في العراق وسوريا، شملت قنبلة مزروعة على جانب الطريق استهدفت قافلة للتحالف. (للحصول على قائمة شاملة بهذه الهجمات، راجع متتبع الهجمات التابع لـ”الأضواء الكاشفة للميليشيات” والذي يتم تحديثه بانتظام من قبل معهد واشنطن).
ومع ذلك، فلدى الميليشيات العراقية أيضاً سبباً وجيهاً لإظهار ضبط النفس. فقد أصبحت، مثلها مثل حليفها اللبناني “حزب الله”، جهات فاعلة مهيمنة على سياسة البلاد، ومن شأن نشوب حرب شاملة مع الولايات المتحدة أن يهدد قبضتها على السلطة. ومن هنا، تفضل الميليشيات عادةً إبقاء نشاطها العسكري (إن لم يكن خطابها) ضد المصالح الأمريكية إما هادئاً أو منخفض المستوى بينما تواصل ترسيخ نفسها في الدولة وجني الفوائد التي توفرها البلاد. ولطالما وجّه هذا المنطق “فيلق بدر” المدعوم من إيران (والذي أعيدت تسميته “منظمة بدر“)، ويبدو الآن أنه ينطبق على “عصائب أهل الحق”، التي هي إحدى الميليشيات الأكثر تطرفاً ونفوذاً على الصعيد السياسي في العراق. ومع ذلك، لا تشاطر جميع الجماعات المدعومة من إيران هذا الرأي. والأبرز من كل ذلك، أن الميليشيتين “كتائب حزب الله” و“كتائب سيد الشهداء”، المصنفتين على قائمة الإرهاب الأمريكية، تعتقدان أن مهاجمة الأهداف الأمريكية بشكل متكرر هي وسيلة فعالة للتفوق على أخصامها – على الرغم من أنها تحرص أيضاً على معايرة شدة أفعالها وتوقيتها لتجنب الانتقام الكبير.
ينبع ضبط النفس الذي تمارسه الميليشيات أيضاً من واقع أن الزعيم الديني الشيعي آية الله العظمى علي السيستاني لم يحث على العمل المسلح عندما أعلن جهاراً دعمه للفلسطينيين في 11 تشرين الأول/أكتوبر. ولا يزال يحظى باحترام كبير من جانب الميليشيات، على الرغم من أن بعضها يميل أكثر إلى تنفيذ إملاءات المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي.
بالإضافة إلى ذلك، تتصف العلاقات بين الفلسطينيين في العراق والميليشيات الموالية لإيران بتاريخ معقد ومثير للجدل في الكثير من الأحيان، مما يثير تساؤلات حول استعداد هذه الأخيرة للمخاطرة من أجل القضية الفلسطينية الأوسع نطاقاً. فقد قام مؤسسو الميليشيات الحالية بمضايقة اللاجئين الفلسطينيين ومهاجمتهم في الماضي، حيث اعتبرونهم موالين لصدام حسين. وبين عامي 2003 و 2008، انخفض عدد السكان الفلسطينيين المحليين من 34000 إلى حوالي 9000نسمة، مما يعكس جزئياً العنف الذي تعرضوا له.
أسباب القلق
يكمن الخطر الأكبر المتمثل بفتح جبهة عراقية شاملة في التنافس الداخلي بين الجماعات الشيعية – ولا يشمل ذلك الفصائل الموالية لإيران فحسب، بل أيضاً الحركة الشعبوية بقيادة مقتدى الصدر. وعلى خلاف الحال في لبنان، تفتقر الفصائل العراقية الموالية لإيران إلى زعيم واضح، وقد انقسمت بشكل متزايد منذ عام 2020، عندما قتلت غارة أمريكية قائد الميليشيا أبو مهدي المهندس وموجّهه الإيراني اللواء قاسم سليماني من “فيلق القدس” التابع لـ”الحرس الثوري الإسلامي الإيراني”. واليوم، يشغل الكثير من عناصر هذه الفصائل مناصب رئيسية في حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني. ومع ذلك، فإن العديد من الجماعات الأحدث عهداً والأصغر حجماً تريد المزيد من السلطة والموارد، حيث تحسد “عصائب أهل الحق” على تحوّلها من جماعة مسلحة متطرفة إلى جهة فاعلة سياسية رئيسية.
وكما ذُكر أعلاه، تدفع هذه التنافسات بشكل دوري مجموعات معينة إلى تنفيذ المزيد من الهجمات على أهداف أمريكية، وحتى لو لا يعتزم الجناة قتل الأمريكيين، فإن الأخطاء تشكل خطراً دائماً. على سبيل المثال، في كانون الأول/ديسمبر 2019، قُتل أمريكي في غارة شنتها ميليشيا على قاعدة في كركوك، مما أدى إلى جولة التصعيد التي انتهت بقيام الولايات المتحدة بقتل سليماني ورد إيران بإطلاق صواريخ على العراق.
تجدر الإشارة إلى أن مقتدى الصدر هو جهة فاعلة رئيسية أخرى في هذه المنافسة التي كانت محتدمة أساساً قبل حرب غزة على خلفية انتخابات مجالس المحافظات العراقية المزمع إجراؤها في 18 كانون الأول/ديسمبر. فلطالما اعتمد رجل الدين المعروف بأسلوبه الصاخب على المشاعر المعادية لإسرائيل والولايات المتحدة لتحقيق مكاسب سياسية. وفي عام 2022، على سبيل المثال، مارس تياره ضغوطاً لتعزيز قانون قائم لمكافحة التطبيع من خلال فرض عقوبة الإعدام على العراقيين المدانين بـ”التعاون مع إسرائيل”.
وأدت الأزمة الحالية إلى عودة الصدر نوعاً ما إلى المشهد السياسي، بعد أن انسحب منه العام الماضي بعد فوزه بأغلبية المقاعد في مجلس النواب ولكنه فشل في تشكيل حكومة. ولا يزال هو الشخصية الوطنية الوحيدة التي تقود تياراً سياسياً جماهيرياً، وغالباً ما يستخدم هذا النفوذ العام للإعلان عن مطالب قصوى، لإحراج حكومة السوداني وتحدي أيديولوجيات الجماعات الأكثر تطرفاً من تحقيق هذه المطالب. على سبيل المثال، دعا مراراً وتكراراً إلى إنهاء الوجود العسكري الأمريكي وإغلاق السفارة الأمريكية، حتى أنه طلب من أنصاره النزول إلى الشوارع خلال زيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى العراق في 5 تشرين الثاني/نوفمبر. كما أصدر هو وقيادة الميليشيا دعوات منفصلة لتنظيم احتجاجات جماهيرية في الشهر الماضي بالقرب من الحدود مع الأردن، أي “أقرب ما يمكن من إسرائيل”. وقد جمع أتباع الصدر حشداً كبيراً، بخلاف الميليشيات (على الرغم من أن كلاً منهما قد حقق على ما يبدو هدفه الجانبي المتمثل في إثارة قلق عمّان). وسابقاً، اقتحم أتباع الصدر السفارة السويدية هذا الصيف احتجاجاً على حادثة حرق القرآن الكريم في ستوكهولم، مما أدى أساساً إلى مضايقة حكومة السوداني لحفظ ماء الوجه من خلال طرد السفير السويدي.
وفي الواقع، في هذه البيئة التي تحاول فيها الفصائل “التفوق على بعضها البعض من حيث التطرف”، قد لا يكون أمام السلطة القائمة الموالية لإيران التي تحكم البلاد خيار سوى تبني خطاب أكثر صرامة. ففي 30 تشرين الأول/أكتوبر، أصدر هادي العامري زعيم “منظمة بدر” بياناً يدعو إلى انسحاب التحالف العالمي ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”، معتبراً أن التهديد لم يعد يبرر الوجود العسكري الأجنبي. وعلى الرغم من أن التصريحات المماثلة قد لا تؤدي إلى اتخاذ الحكومة أي خطوات عملية، إلا أنها قد تخلق بيئة أكثر تساهلاً مع العنف المناهض للغرب.
التداعيات على السياسة العامة
اعتمدت إدارة بايدن نهجاً مختلطاً تجاه التصعيد الحالي في هجمات الميليشيات. فقبل قيام الطائرة الحربية من طراز “إيه سي-130” بعمليات القصف بالقرب من بغداد في 21 تشرين الثاني/نوفمبر، كان كل رد من ردود واشنطن على الهجمات على المنشآت الأمريكية يحدث في سوريا، وليس في العراق، وذلك تماشياً مع رغبة الإدارة الأمريكية في تجنب زعزعة استقرار أحد شركاء الولايات المتحدة. وعكس هذا النهج الاستراتيجية الخاصة بالميليشيات التي أدركت المخاطر الأكبر التي قد تنجم عن شن هجمات داخل البلاد، وركزت معظم ضرباتها الأخيرة على سوريا، حيث هي أكثر حرصاً على تحقيق انسحاب أمريكي فعلي.
في 17 تشرين الثاني/نوفمبر، فرضت الولايات المتحدة عقوبات جديدة على “كتائب سيد الشهداء” وعدد من شخصيات “كتائب حزب الله”، في خطوة رمزية إلى حد كبير كانت متوقعة على نطاق واسع بعد أسابيع من الهجمات. ولكن باستثناء توجيه رسالة واضحة إلى الميليشيات، لن يكون لهذه العقوبات تأثير عملي يُذكر. فهذه الجماعات وقياداتها تتعامل قليلاً مع النظام المالي الأمريكي، كما أن العقوبات لا تمنعها من المشاركة في النظام السياسي العراقي أيضاً، كما يتضح من الدور البارز الذي تلعبه “عصائب أهل الحق” في الحكومة الحالية.
وربما كاحترام لضبط النفس الذي يمارسه السوداني، أصدرت واشنطن مؤخراً أيضاً إعفاءات تسمح للحكومة بشراء الغاز الطبيعي والكهرباء من إيران، في تمديد للإعفاءات الحالية التي يمكن لبغداد بموجبها إيداع مدفوعات في حساب إيراني في “المصرف العراقي للتجارة”. ووصل المبلغ المستحق منذ فرض العقوبات ذات الصلة 10 مليارات دولار. أما مسألة ما إذا كان سيُسمح لإيران بالوصول فعلياً إلى الأموال المودعة أم لا، فهي قصة مختلفة. (يجدر بالذكر أن إدارة ترامب منحت هذه الإعفاءات أيضاً، وإن كان يتم تقصيرها غالباً إلى ثلاثين يوماً بدلاً من ستين – وهو القيد الذي لم يفعل الكثير لكسر اعتماد العراق على إمدادات الطاقة الإيرانية).
يُعد التنسيق الوثيق مع الدول الأوروبية أمراً بالغ الأهمية أيضاً – فالقواعد العراقية المستهدفة تشمل قوات من دول أخرى أعضاء في التحالف، وقد قُتل الرقيب في “القوات الخاصة الفرنسية” نيكولا مازيربشكل مأساوي خلال عملية ضد عناصر تنظيم “الدولة الإسلامية” في كركوك قبل بضعة أسابيع فقط. وسيكون تبادل المعلومات الاستخبارية بشكل أكبر حول المشهد المعقّد للميليشيات العراقية موضع ترحيب بشكل خاص. فضلاً عن ذلك، تملك بعض هذه الدول سفارات نشطة في طهران وإمكانية وصول أكبر إلى شخصيات رئيسية في السلطة القائمة المؤيدة لإيران والتي تتجنبها الحكومة الأمريكية. ويمكن استخدام جميع هذه المنافذ لاستكمال رسائل واشنطن الدبلوماسية الرادعة. على سبيل المثال، خلال الأزمة الحالية، أخذت فرنسا زمام المبادرة علناً من خلال انخراطها مع “حزب الله”، الوكيل الرئيسي في “محور المقاومة” الإيراني.
لكن في نهاية المطاف، لا ينبغي اعتبار الواقعية وضبط النفس اللذين تمارسهما مختلف الجهات الفاعلة العراقية على أنهما أكثر من مجردأساليب تكتيكية وقصيرة الأمد. ويظل الهدف الاستراتيجي الرئيسي لواشنطن على ما هو عليه، أي تقوية الدولة العراقية وإضعاف الميليشيات.