قد تقدم الوساطة المصرية ـ القطرية التي نجحت في التوصل إلى اتفاق الهدنة المؤقتة بين إسرائيل وحماس إطارا دبلوماسيا وتفاوضيا لتقليل احتمالات تجدد الحرب، وإمداد أهل غزة بالمساعدات الإنسانية اللازمة، والتوافق بشأن ترتيبات إدارة القطاع والربط بين مصيره ومصير الأراضي المحتلة في الضفة الغربية والقدس الشرقية. وبالنظر إلى الموقف المعلن للحكومة الإسرائيلية والسياسات المقترحة من جانب القوى اليمينية واليمينية المتطرفة المسيطرة عليها، لن يكون إنجاز أي من هذه الأهداف بالأمر اليسير.
فحكومة بنيامين نتنياهو، والرجل جال خلال أيام الهدنة المؤقتة على الوحدات العسكرية الإسرائيلية التي باتت موجودة داخل غزة وصرح بعزمه على استئناف القتال ضد حركة حماس حتى تدميرها الشامل، تبدو غير راغبة في تمديد الهدنة وتريد في أعقابها الضغط على حماس والفصائل الأخرى في جنوب القطاع مثلما فعلت منذ 8 أكتوبر / تشرين الأول 2023 في الشمال والوسط. وعلى الرغم من التفاوتات في الرؤى والمواقف بين نتنياهو ووزراء الليكود ووزراء اليمين المتطرف (الديني والاستيطاني) الذين يعتبرون تدمير حماس أهم من تحرير الرهائن وبين المجموعة الوسطية حول بيني غانتس التي تصنف إعادة الرهائن كالهدف الأول من الحرب وتتشكك في واقعية القضاء على حماس عسكريا وسياسيا، فإن التفضيل العام داخل الحكومة هو مواصلة القتال شأنها في ذلك شأن المؤسسات العسكرية والأمنية التي ترفض تحويل الهدنة المؤقتة إلى دائمة.
ولا يختلف تفضيل الحكومة الإسرائيلية عن تفضيلات أغلبية المواطنات والمواطنين الذين تدفعهم حالة الصدمة الجماعية من هجمات 7 أكتوبر / تشرين الأول 2023 (صدمة هولوكوست اليوم الواحد كما يقول كثيرون داخل إسرائيل) إلى المزج بين المطالبة بإعادة الرهائن وبين تأييد الحرب على غزة وهدف تدمير حماس دون اعتبار للعدد الرهيب من الضحايا بين الفلسطينيين، وكذلك دون اعتبار لا للمشاهد المروعة للدماء والدمار والتهجير التي تحيط بالقطاع من كل جانب ولا لشبهات جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي تلحق بإسرائيل وتدفع الرأي العام العالمي إلى الضغط من أجل محاسبة المسؤولين عنها ومن أجل إيقافها.
ليس بمستغرب، إذا، أن ترحب حماس، وهي هنا مدفوعة بحسابات واقعية أنتجتها الأسابيع الماضية وبحسابات المسؤولية الإنسانية والمجتمعية، بالوساطة المصرية-القطرية التي أنتجت الهدنة المؤقتة
غير أن التوافق الواسع بين حكومة نتنياهو وبين أغلبية المجتمع الإسرائيلي بشأن استئناف القتال ضد حماس بعد انتهاء الهدنة المؤقتة قد ينحصر على وقع مجموعة من العوامل، منها التجدد المتوقع للضغوط الشعبية فيما خص صفقات جديدة تعيد مجموعات إضافية من الرهائن ومنها التداعيات الداخلية للامتعاض المتوقع من قبل الرأي العام العالمي ما أن تعود إسرائيل إلى حربها ومنها التداعيات الداخلية للتحفظ الأمريكي المتوقع على تجدد القتال والأعداد الجديدة من الضحايا والمشاهد الجديدة للدماء والدمار. قد ينحصر تدريجيا التوافق الواسع بين حكومة الحرب وبين الرأي العام بشأن استئناف القتال، وقد يتبلور في النقاشات السياسية والإعلامية الإسرائيلية البحث عن بدائل تنطوي على جرعات أكبر من الدبلوماسية والتفاوض وربما التسويات والحلول السلمية.
أما حركة حماس، فهي أفصحت دون مواربة عن تفضيلها لتمديد الهدنة المؤقتة ومواصلة الربط بينها وبين إدخال المزيد من المساعدات الإنسانية إلى غزة والسماح لأهلها الذين تركوا منازلهم في الشمال والوسط بالعودة إليها والإفراج عن مزيد من الأسرى الفلسطينيين في سجون إسرائيل.
والمؤكد في هذا السياق هو أن الحركة وفصائل المقاومة الأخرى قد تعرضت لضربات عسكرية موجعة خلال الأسابيع الماضية، وشاهدت إنسانيا ومجتمعيا المعاناة الهائلة لأهل غزة الذين تعرضوا لأهوال القتل والدمار والتهجير ومحدودية مقومات الحياة من مستلزمات طبية وغذاء وكهرباء ووقود. ليس بمستغرب، إذا، أن ترحب حماس، وهي هنا مدفوعة بحسابات واقعية أنتجتها الأسابيع الماضية وبحسابات المسؤولية الإنسانية والمجتمعية، بالوساطة المصرية-القطرية التي أنتجت الهدنة المؤقتة وأن يصدر عنها إشارات واضحة بشأن تفضيل تمديدها والحيلولة دون تجدد القتال.
ولحماس أيضا حسابات سياسية تبحث في سياقها عن الإبقاء على ما يمكن الإبقاء عليه من قدراتها العسكرية وقدراتها الإدارية التي طورتها خلال العقدين الماضيين من حكم غزة ومن بناء شبكة معقدة من العلاقات الإقليمية والدولية ساعدتها على السيطرة على شؤون القطاع واستبعاد جل أدوار السلطة الفلسطينية. تهدد احتمالية تجدد القتال حسابات حماس هذه، إن في السياق العسكري الذي سيشهد حتما ضغطا إسرائيليا كبيرا على جنوب غزة مثلما شهدت الأسابيع الماضية ضغطا كبيرا على الشمال والجنوب أو في سياق الإمكانات الإدارية وإمكانات حكم القطاع التي ستحد منها عودة القتال والخسائر المتوقعة.
لذلك، وعلى الرغم من مقولات مواصلة مواجهة إسرائيل والاشتباك مع قواتها التي يستمر إنتاجها من قبل حماس والفصائل المسلحة الأخرى، فإن الواقع هو أن حركات المقاومة الفلسطينية لا تريد تجدد القتال أو العودة للحرب وتظهر لديها بوضوح الرغبة في تمديد الهدنة والانخراط في البحث عن تفاصيل مرحلة ما بعد الحرب وبها العديد من الأسئلة المهمة لحماس فيما خص الإدارة الأمنية وحكم غزة وجهود تخفيف المعاناة الإنسانية لأهلها وتطوير ذلك إلى جهود لإعادة الإعمار وربما البحث عن توافق وطني فلسطيني تشترك به السلطة في رام الله وترعاه منظمة التحرير بدعم إقليمي تقوده مصر وقطر وربما أطراف عربية إضافية.