أعطت الأحداث القائمة في قطاع غزة واستمرار حالة الاشتباك والمواجهات على أرض الميدان وتواصل الهجمات العسكرية والمجازر الوحشية بحق الأبرياء من أبناء الشعب الفلسطيني ووضوح حقيقية المواقف التي سبق وان تحدثت بها الأوساط السياسية ومنها النظام الإيراني بوقوفه ودعمه لحركات التحرر ودعوته لتحرير القدس الشريف وتبين أنها أحاديث وتصريحات إتسمت بالكلام وعدم الاستمرار بحقيقة ما تداول في أروقة النظام من توجهات ومواقف باعتماده سياسة اتصفت بالواقعية والتصرف ضمن إطار الحفاظ على مصالحه ومكانته الإقليمية، ورغم أن إيران تدعي دائما أنها متمسكة بايديولوجية واضحة في علاقتها مع إسرائيل ومهاجمتها للولايات المتحدة الأمريكية ضمن إطار توجهات متشددة في منطلقات السياسة الخارجية الإيرانية إلا أنها كانت في حدود معينة وبأساليب مختلفة حيث كانت تراعي وجودها والتمسك بنظامها السياسي واستخدام الرؤية البراغماتية في التعامل والتصرف مع المتغيرات السياسية في منطقة الشرق الأوسط بما يضمن لها دوراً اقليمياً ومؤثراً في أي مستجدات قادمة.
العلاقات الإيرانية الإسرائيلية لها امدادات تاريخية منذ عقود من الزمن واتسمت بالود والتواصل في عهد الشاه محمد رضا بهلوي، فكانت إيران الدولة الإسلامية الثانية بعد تركيا تعترف بإسرائيل وصوتت لقبولها في الأمم المتحدة عام 1949 وعقدت معها عدة اتفاقيات أمنية واقتصادية وعسكرية، وأصبحت إيران تمثل حالة استراتيجية في المشروع التوسعي للكيان الإسرائيلي في المنطقة، وبعد عام 1979 ومجئ الخميني للسلطة في إيران تم قطع العلاقات الدبلوماسية واتخاذ موقف العداء من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، ثم جاءت حادثة الرهائن الأمريكان التي حدثت في الرابع من تشرين ثاني 1979 وشكلت أزمة دبلوماسية اقتحم فيها عدد من الطلاب الإيرانيين مقر السفارة الأمريكية واحتجزوا ( 52) أمريكياً من موظفي السفارة لمدة (444) يوم، واعتبرتها الإدارة الأمريكية في حينها نوع من الابتزاز السياسي وأن المحتجزين ضحايا الإرهاب والفوضى وحاولت القيام بعملية خاصة لإنقاذ الرهائن عبر عملية مخلب العقاب باستخدام السفن الحربية إلا أنها فشلت في 24 نيسان 1980 وأدت إلى استقالة وزير الخارجية الأمريكي آنذاك سايروس فانس وكانت سبباً رئيساً في فشل الرئيس جيمي كارتر بالفوز بولاية ثانية في الانتخابات الأمريكية، مع تطور الأحداث وبدأ الحرب العراقية الإيرانية جعلت القيادة الإيرانية توافق على المبادرة الجزائرية والوساطة السياسية مع الولايات المتحدة الأمريكية لإطلاق سراح الرهائن والتي انتهت بحل الأزمة وتوقيع اتفاق الجزائر في 19كانون الثاني 1981 والذي بموجبه تم إطلاق سراح الموظفين الأمريكان مقابل إلتزام واشنطن بعدم التدخل بالشؤون الإيرانية والغاء العقوبات الاقتصادية واسترداد الأموال المجمدة.
كانت إسرائيل تتابع خطوات العلاقة بين واشنطن وطهران وتطور الأوضاع العسكرية الميدانية على جبهات القتال مع العراق، ورأت أن هناك هدفاً مشتركاً يجمعها مع إيران وهو إسقاط النظام السياسي في العراق وعلمت بحاجة الجيش الإيراني للأسلحةوالمعدات العسكرية والتكنولوجيا الحربية الحديثة لإدامة القتال مع العراق، وكانت هي أولى مراحل الأتصال بين إيران وإسرائيل وبدات ملامح التعاون بينهما عبر فتح مخزون الصناعات العسكرية والاسرائيلية ومخزون قوات الدفاع الإسرائيلية وتضمنت الصفقة ارسال مدافع مضادة للدبابات وقذائف وقطع غيار لمحركات الطائرات والدبابات وقذائف الهاون مختلفة العيار مقابل تصدير النفط الإيراني لإسرائيل، وقدر حجم التبادل العسكري بين تل أبيب وطهران ب(500) مليون دولار للفترة من 1981_1983 وفق أحصائية لمعهد جيف للدراسات الاستراتيجية في جامعة تل أبيب، ثم قامت إسرائيل بشحن معدات لطائرات الفانتوم ومعدات أسلحة مختلفة عبارة عن 3000 صاروخ تاو مضادة للدروع وصواريخ هوك أرض جو وبموافقة مباشرة من مناحيم بيان رئيس الوزراء الإسرائيلي في فضيحة سياسية عسكرية عرفت بأسم ( إيران كونترا) وبعلم الولايات المتحدة الأمريكية التي اعتبرتها مكافأة للنظام الإيراني في موافقته على حل أزمة الرهائن الامريكان الخمسة المحتجزين في لبنان أثناء الحرب الأهلية وبعهد الرئيس ريغان، ومن هنا أصبحت إسرائيل قناة الإرسال بين واشنطن وطهران بسبب الحظر الأمريكي المفروض على توريد الأسلحة والمعدات العسكرية لإيران الذي اتخذ أثر أزمة الرهائن عام 1980.
لا يزال النظام الإيراني على طبيعته السياسية والبرغماتية في التعامل مع الأحداث الدولية والإقليمية في الابتعاد عن التورط المباشر في أي مواجهة عسكرية ميدانية يرى أنها تسبب له انعطافة مهمة في بقائه كنظام سياسي في المنطقة يسعى للاحتفاظ بالمكاسب التي حققها في التواجد والنفوذ والهيمنة على مقدرات الأوضاع الميدانية في بعض عواصم الاقطار العربية التي يعتبرها جزءاً رئيسياً في الدفاع عن أمنه القومي، ويرى أن خوضه لمعركة سياسية وعسكرية غير مضمونة العواقب ستسبب له خروجاً عن دائرة التأثير الإقليمي ولو على حساب ما يدعيه من أهداف وخطابات رنانة تدعو لتحرير الأرض وخروج الكيان الإسرائيلي، وهي ما لبثت أن كانت شعارات براقة أثبتت عدم حقيقتها في المشاركة الفاعلة في الحرب الدائرة بقطاع غزة والدفاع عن الحق الفلسطيني كما يقوله ويدعيه؟!
إن رهان البعض كان أكبر مما حدث في الموقف الإيراني الذي يسعى إلى تحديد سلوكه عبر العديد من الواجهات الفصائل التي شكلها وبدأ بتدريبها واعدادها لتكون الأداة التي يعمل من خلالها للتمسك بمشروعه الإقليمي في الهيمنة والنفوذ وتحقيق أغراضه في السيطرة واعتباره قوة إقليمية وهذا ما فعله في التلاعب الميداني وتوظيف ما حدث في غزة لخدمة الطروحات الإيرانية بعد أن تصدرت القضية الفلسطينية الاهتمام العالمي، محاولاً طرح نفسه مناصراً للحق الفلسطيني والتوسع في علاقته مع الاقطار العربية وارسال بعض الرسائل والمؤشرات التي تدخل ضمن الرؤية البراغماتية والاعتدال السياسي لإيران بانها تدعم حل الدولتين في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ولهذا فهناك قواسم مشتركة وأهداف متنوعة بين كل من واشنطن وطهران وتل أبيب تجاه منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي وهذا ما تحقق بعد إسقاط حكومة طالبان في أفغانستان سنة 2001 واحتلال العراق من قبل القوات الأمريكية سنة 2003 وتغيير موازين القوى المؤثرة في المنطقة وانعكاس الأوضاع الميدانية بحيث لم يبقى هناك عدو مشترك لكل من إيران وإسرائيل، وبدأ المشروع الإيراني بالتمدد والتوسع عبر تشكيل الفصائل والمليشيات المسلحة التابعة للحرس الثوري الإيراني في العراق وسوريا واليمن ولبنان وتطوير برنامج الصواريخ البالستية والتوسع في إنتاج الطائرات المسيرة، وهذا ما أثار انتباه إسرائيل وبدأت تشعر بنتائج السياسة الإيرانية وتوظيفها لصالح أهداف مشروعها السياسي وبدأت تعمل على التمسك بالقضية الفلسطينية عبر مشروعها الذي أعتمده في تشكيل المليشيات المسلحة التي تقوم وحسب توجيه القيادات العسكرية لفيلق القدس والحرس الثوري بعمليات محدودة غير مؤثرة مستهدف القواعد والمقرات التابعة للقوات الأمريكية في العراق وسوريا أو التعرض للسفن والفرقاطات التابعة الأسطول الأمريكي التي تتواجد في البحر الأحمر والخليج العربي واستخدام الحروب السيبرانية والتجسس على منظومات أمنية إسرائيلية من قبل النظام الإيراني وهي محاولات لا ترتقي إلى المواجهة الحقيقية التي توصل لحرب واسعة وإنما هي عبارة عن مناوشات ومضايقات لإثبات الوجود التأثير الإقليمي، وهي سياسة تعتمدها القوى الإيرانية دائما في إثبات وجودها وكما عبر عنها قائد الحرس الثوري حسين سلامي ( ان إيران وصلت اليوم الى قوة ردع في المجال العسكري لا يمكن لأي قوة مراجهتها)، ولكن الأحداث اثبتت ان هذه القوة ليست للمواجهة المباشرة وإنما تركت لعمليات وتعرضات عبر الوكلاء والفصائل المسلحة التابعة للحرس الثوري.
يسعى النظام الإيراني لاستخدام أفضل لسياسته البراغماتية واستغلال الفرص السياسية والأحداث الوقائع الميدانية لخدمة مشروعه في النفوذ والهيمنة والاندفاع نحو تصدير أيديولوجيته المتشددة التي أعلن عنها بعد مجئ الخميني للسلطة عام 1979،ويبقى التعاون بين إسرائيل وإيران قائماً وممكناً طالما أن هناك تهديدات مشتركة تجاه الطرفين وهنا تختفي الأيديولوجية الدينية وتكون البراغماتية حاضرة.
وحدة الدراسات الايرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية