عادت الحرب في غزة بعد أيام الهدنة، ومع عودتها طغت المشاهد المروعة للقتل والدماء والدمار على ما نتداوله كعرب على شبكات التواصل الاجتماعي وما تنقله وسائل الإعلام العاملة أو المهتمة بالشرق الأوسط. اختفت أخبار الهدنة التي توقفت خلال أيامها الأسلحة، وأطلق بها تبادليا سراح رهائن إسرائيليين ورهائن آخرين محتجزين في غزة مقابل الإفراج عن أسرى فلسطينيين، وتسارعت بها وتيرة إدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع ليس فقط في الجنوب، بل أيضا في الوسط والشمال.
ومع عودة الحرب، تصاعدت المخاوف من تجدد مأساة أهل غزة الذين يواجهون القتل وتدمير مقومات حياتهم ويتعرضون لأخطار التشريد والتهجير القسري داخل القطاع ويبحثون عن مناطق آمنة لم تقم بعد، كل ذلك مثلما تصاعدت المخاوف في فلسطين من تفجر الأوضاع في الضفة الغربية والقدس الشرقية، وفي الجوار المباشر والجوار الإقليمي من احتمالية انتقال الحرب إلى ساحات إضافية واحتمالية اتساع انعكاساتها الكارثية في اتجاه مصر المتحسبة لأخطار التهجير وفي اتجاه الأردن المتحسبة من مآلات الأحوال في الضفة والقدس وفي اتجاه عموم الشرق الأوسط الذي لم تتوقف أزماته الكبرى منذ عقود.
خلال الأيام الماضية أيضا، انشغل الشرق الأوسط وانشغل معه العالم بانعقاد قمة المناخ «كوب 28» في دبي وبالقضايا الكثيرة والملحة المطروحة عليها والتي لا نملك ترف تجاهلها، لا في منطقتنا التي تعاني من ارتفاع غير مسبوق في درجات الحرارة ومن تراجع حاد في مواردها المائية ومن تواتر غير مسبوق في الأحداث المناخية الخطيرة كالفيضانات والأعاصير وتواجه في نواح عديدة كوارث التغير البيئي (كارثة درنة في 2023) ولا في العالم الذي يتواصل ارتفاع متوسطات درجة حرارته العامة ولم يتقدم بما يكفي فيما خص تقليل الانبعاثات الكربونية ولم يحقق ما يكفي فيما خص الانتقال العادل من الطاقة الأحفورية (النفط والغاز الطبيعي والفحم) إلى الطاقة المتجددة والاقتصاد الأخضر. غير أن الوقع الإنساني والأخلاقي والسياسي بالغ السلبية لتجدد الحرب في غزة على المزاج العام في الشرق الأوسط دفع البعض في منطقتنا إلى التساؤل عن جدوى انعقاد قمة المناخ ومدى أهمية الانشغال بقضايا كالتغير البيئي العالمي وتداعياته وأخوتنا في فلسطين يواجهون الموت وأخطار التشريد والتهجير يوميا وتتخاذل القوى الكبرى عن حمايتهم. بل أن أصوات متنوعة ارتفعت على شبكات التواصل الاجتماعي وفي قليل من وسائل الإعلام العربية معبرة عن خيبة أملها لكون «كوب 28» قد يصرف الأنظار في الشرق الأوسط والعالم عن معاناة أهل غزة وعن قضية فلسطين وقد يمكن إسرائيل من مواصلة عدوانها على القطاع ويسمح للمستوطنين المتطرفين لاستخدام المزيد من العنف في الضفة والقدس دون رأي عام إقليمي وعالمي رافض لذلك.
عادت الحرب في غزة بعد أيام الهدنة، ومع عودتها طغت المشاهد المروعة للقتل والدماء والدمار على ما نتداوله كعرب على شبكات التواصل الاجتماعي وما تنقله وسائل الإعلام العاملة أو المهتمة بالشرق الأوسط
وواقع الأمر أن مثل تلك الأصوات والآراء تمارس تبسيطا مخلا لما لا ينبغي أن يبسط، وخلطا خطيرا بين ما يستدعي التمييز. فمن جهة، ليست تحديات وأخطار التغير البيئي بقابلة للتأجيل حيث إنها صارت تهدد على نحو شامل وجودنا البشري، وليست قمم المناخ بمؤتمرات شكلية تنعقد لكي يطلق المسؤولون الحكوميون الكثير من الوعود الوردية التي لا تنفذ. بل، وعلى العكس من ذلك تماما، تمثل قمم المناخ «كوب» السنوية الآلية الأهم عالميا لتوافق الحكومات بشأن سياسات وإجراءات محددة للحد من ارتفاع درجات حرارة الأرض ولإدارة التغير العادل نحو الطاقة المتجددة والاقتصاد الأخضر. وبالنظر إلى كون الشرق الأوسط منطقة منكوبة بيئيا، حيث تعاني مجتمعاتنا من ارتفاع درجات الحرارة ونقص الموارد المائية على نحو يغيب الأمن المائي وتراجع في الإنتاج الزراعي ومن ثم غياب الأمن الغذائي وكذلك من أحداث مناخية عنيفة وهشاشة خطيرة لسكان المناطق الساحلية ومحدودي الدخل الذين يعانون أكثر من غيرهم من الانعكاسات السلبية للتغير البيئي، يصبح من غير المسؤول أن تتجاهل الحكومات أو الشعوب قضايا المناخ بسبب وطأة ما يحدث في غزة وعموم الأراضي الفلسطينية المحتلة.
من جهة ثانية، لا يسحب انعقاد قمة المناخ «كوب 28» في موعدها المقرر سلفا بمدينة دبي في دولة الإمارات العربية المتحدة من الاهتمام الإقليمي والعالمي بالحرب في غزة وبتداعياتها الكثيرة على الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة. فبعد أيام الهدنة التي تمنينا أن تتواصل، استأنفت إسرائيل حربها، واستأنف أهل غزة بحثهم عن ملاذ آمن وسط قتل ودماء ودمار ونزوح جماعي، واستأنفت شبكات التواصل الاجتماعي توثيقها بالصوت والصورة للمشاهد المروعة التي تحيط بالقطاع في شماله ووسطه وجنوبه. ولأن المشاهد القادمة من غزة تخاطب ضمائر العرب والشرق أوسطيين مثلما تخاطب ضمير الرأي العام العالمي الذي تتحرك كثير من قطاعاته للمطالبة بإنهاء الحرب، لم يرتب انعقاد «كوب 28» تراجعا في الاهتمام العام بما يعاني منه أهل غزة وعموم الفلسطينيين. ولأن الرأي العام في إسرائيل وفلسطين له امتداداته في مناطق متنوعة، من الشرق الأوسط وأوروبا إلى الأمريكيتين، فإن الحرب لم تغب كقضية عالمية تلاحق تطوراتها وسائل الإعلام مثلما تتفاعل معها شبكات التواصل. ولأن القضية الفلسطينية تجتذب لمركزيتها الاستراتيجية في الشرق الأوسط فعل الدبلوماسيات الكبرى من الولايات المتحدة وأوروبا إلى الصين وروسيا ولأنها في لحظات أزماتها تستحوذ على جل الفعل الدبلوماسي والأمني للجوار المباشر للأراضي الفلسطينية المحتلة ولإسرائيل وللجوار الإقليمي الأوسع، فإن التعاطي معها لم ولن يتراجع بسبب نشاط الحكومات ومعها منظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص في «كوب 28» ولا في سياق الالتفات إلى النجاحات المتوقع تحقيقها بشأن صندوق « الخسائر والأضرار» أو الإخفاقات المرجح حدوثها لجهة غياب التمويل الكافي للصندوق والتوافق فيما خص إدارته بكفاءة وشفافية وسرعة.
لا مبرر للخوف من «كوب 28» على غزة خصوصا أو قضية فلسطين عموما، ولا مبرر أيضا لنسيان التهديد الوجودي للتغير البيئي لنا جميعا، ولا مبرر للتقليل من وظيفة قمم المناخ في إنجاز توافق بين حكومات وشعوب الكرة الأرضية حول سبل الحد الفعال من ارتفاع درجات الحرارة ونقصان الموارد المائية والكوارث المناخية المتتالية. دعونا نرفض اختزال اهتمامنا على نحو استبدالي بين قضايا جميعها مركزي ولا يحتمل التأجيل، لا الحقوق الشرعية والعادلة للشعب الفلسطيني ولا التكيف والتعامل مع التغير البيئي.