خلال حرب غزة، سمع العالم من جديد شعار حل الدولتين، أي قيام دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل القائمة منذ 1948، بناء على قرار دولي خرج في عام 1947 واعترف بكيانين على أراضي فلسطين الواقعة تحت الانتداب البريطاني وسابقاً كجزء من السلطنة العثمانية. إن حل الدولتين في الصراع العربي – الإسرائيلي مدعوم من المجتمع الدولي، والجامعة العربية والاتحاد الأوروبي، إضافة إلى روسيا والصين ومحاورهما. وحتى الحكومات الإسرائيلية اليسارية واليمينية، هي قابلة بهذه الصيغة. والسؤال يبقى: من يرفضها وما القوى التي تعطل هكذا حل؟
الجواب واضح، هناك في أقصى اليمين القومي والديني داخل إسرائيل، تيارات ترفض التنازل عن أراض عبرية تاريخية في “يهودا” و”السامرة”، أي ما يتطابق مع الضفة الغربية بكاملها. هذه القوى السياسية الراديكالية ترفض حل الدولتين وتضغط على التحالف الحكومي الإسرائيلي ليستمر بالتوطين واعتبار فلسطين هي شرق الأردن. إلا أن الأكثرية الكبرى، في الكنيست والرأي العام، حسمت الموضوع منذ عقود، أي تؤيد حل الدولتين بين النهر والبحر. فبعد اتفاقات “كامب ديفيد”، و”مدريد”، و”وادي عربة”، و”اتفاقات أبراهام”، بقيت تسوية الحدود والعاصمة الفلسطينية بين الطرفين.
وبالمقارنة مع صراعات إثنية وقومية أخرى في المنطقة على حدود الأرض، التسوية الإسرائيلية – الفلسطينية لم تكن بعيدة عن الإنجاز، إلا أن من يرفض الإجماع العالمي على “الدولتين”، والقبول الإسرائيلي والفلسطيني، كما هو معروف، هي حركة “حماس” ومن ورائها المحور الإيراني، وقد أعلنا، بشكل دائم، أنه لو فاوضت السلطة الفلسطينية على دولتين، وحصلت على ما تريد وما يرضي العرب، فالقوى الممانعة ستستمر في جهدها (أو “جهادها”) لإزالة الدولة العبرية من النهر إلى البحر، وهنا ترسو المعضلة، السلطة الفلسطينية والتحالف العربي باتا الطرف القابل بالدولتين، في مقابل المحور الإيراني الرافض هذا الحل، مما يعني عملياً أن هكذا حل لن يرى النور إلا بعد انحسار النفوذ الخميني عن غزة وشرقي البحر المتوسط، ولكن السؤال الجديد هو: لو طبقت معادلة الدولتين بين إسرائيل وفلسطين عربية، هل من سيطالب بتنفيذ حل دولتين في أنحاء أخرى من المنطقة؟
أخطر الأسئلة
حل الدولتين عندما يطرح في إطار الصراع العربي يبدو وكأنه طبيعي جداً ولا يعارضه إلا محور واحد وهو الممانعة للاعتراف بإسرائيل “الكيان الصهيوني”. فإعلانات السلام المبنية على قرارات الأمم المتحدة، بغض النظر إذا تم تعديلها وتطويرها، قد حصلت على شرعية عربية جارفة. ولم تعد مسألة وجود أم عدم وجود أي من الدولتين، ولكن مسألة رسم الحدود بينهما، وفي نهاية المطاف سترسم، وسيتغلب السلام والاستقرار على أيديولوجيات الحرب الدائمة، ولكن السؤال الأول هو حول الثمن الذي ستدفعه المنطقة في مواجهة الخمينيين وميليشياتهم ومنافسيهم في الجماعات “الداعشية” والتكفيرية. إلا أن انتصار حل الدولتين قد يفتح أبواباً مثيلة في المنطقة، وأيضاً بشكل طبيعي، ولكن التحديات هي أكبر خارج الحلقة الفلسطينية – الإسرائيلية، لا سيما لدى الدول التي تعاني أزمات داخلية توصف بإثنية أو دينية أو حتى طائفية. فإذا وضعنا جانباً دولاً وطنية موحدة الهوية تاريخياً، كدول الخليج من السعودية إلى الإمارات والكويت والبحرين وعمان، أو دولاً ذات مؤسسات متجذرة وقوية كمصر وتونس والمغرب والأردن، فهناك حالات قائمة في المنطقة، قد تطرح بعض المكونات فيها مشاريع قد تصل إلى حدود “حل الدولتين” ما لم تقتنع بحلول داخلية عادلة. والمفارقة أن أربعاً من هذه الحالات تقع داخل دول عربية تسيطر عليها “الجمهورية الإسلامية” إضافة إلى هذه الأخيرة، وهي العراق وسوريا واليمن ولبنان. وعلى رغم أن دول المنطقة والمجتمع الدولي بشكل عام غير متحمسة لتعديل حدود سيدة وقائمة، وتفضل تحسين الستاتيكو بمساوئه، على إقامة دول جديدة، إلا أن ميليشيات إيران قد دفعت بمجتمعات عدة في المنطقة لاختيار إقامة دول مستقلة جديدة على البقاء تحت سلطة الميليشيات المرتبطة بالنظام الإيراني. والمفارقة الكبرى أن طهران باتت ترفض حل الدولتين بين الفلسطينيين وإسرائيل، فإذ بها قد تفجر أربع حالات لإقامة دول جديدة في أربع دول عربية، وقد يصيبها الفيروس أيضاً!
مع تعاظم التضييقات على كردستان العراق من قبل ميليشيات “الحشد الشعبي” التي تدعمها إيران، ومع اشتداد الخناق الاستراتيجي حول المكون الكردي بتوجيه من “الباسدران” (الحرس الثوري الإيراني)، وبعد تجربة “داعش” الرهيبة، اتجهت القيادات القومية الكردية لتنفيذ استفتاء تقرير مصير في 2017، وعلى رغم عدم اعتراف الغرب بنتائجه لصالح الدولة الكردية المستقلة ولكن المتعاونة مع بغداد، فقد عبر سكان الإقليم عن تفضيلهم حل دولتين بين دجلة والفرات، حتى على فيدرالية ينعمون بها، لأنهم غير مقتنعين بنوايا “الحشد” الحقيقية وهي السيطرة في الأقليم واستيطان بعض نواحيه. لذا، قد نرى تصاعد المطالبة بحل الدولتين في العراق ما دامت الميليشيات الخمينية تتوسع، كما نسمع من عرب الأنبار، بخاصة السنة، أن الوضع بات لا يطاق تحت “حكم الباسدران”، وعلى رغم رابط العروبة مع سائر العراقيين في الوسط والجنوب، فإن شدة القمع من قبل الميليشيات وضعت السكان في موقع اعتماد خيار صعب إذا سنحت الفرصة، حتى عودة الأوضاع الطبيعية.
سوريا
“قوات سوريا الديمقراطية” بما فيها الأكراد والعشائر العربية والمسيحيون، لم تخبئ هدفها النهائي بإقامة دولة مستقلة عن دمشق، لا سيما بعد تجربتها المرة مع “داعش”، ومحاصرتها من قبل ميليشيات النظام وشركاء “الباسدران” المنتشرين في شرق وغرب سوريا. القيادات الكردية لم تخف طرحها لحل الدولتين أيضاً، جمهورية عربية سورية تتحكم بها إيران، وجمهورية شعبية في الشرق أكثريتها من الأكراد. بالطبع، وما في كردستان العراق، سيرفض جيران “سوريا الديمقراطية” أي اعتراف بها، ولكن الملف فتح.
اليمن
اليمن بلد عربي برمته، ليس فيه غير العرب بغض النظر عن أصول المجتمع اليمني، ولكن أكثرية المجتمع الجنوبي باتت مقتنعة، خصوصاً بسبب الهجوم الحوثي المستمر من الشمال، وبدعم إيراني، أن وقت الاستقلال والعودة إلى الجمهورية العربية الجنوبية قد حان، ولو أن الحكومة الشرعية سترفض، والحكومات العربية ستتأنى. إلا أن التوسع الإيراني في اليمن، والسيطرة الحوثية على صنعاء، ووصول “جند الله” إلى أبواب عدن، قد أقنع كثيرين، في الجنوب، بأن حل الدولتين هو الحل المنطقي في ظل غياب القرار الدولي حيال الحوثيين.
لبنان
أما في لبنان، فلا حاجة إلى كثير من التحاليل، فـ”حزب الله” قد وضع الدولة اللبنانية بكاملها تحت سيطرته، خصوصاً منذ انقلابه على الحكومة اللبنانية، في مايو (أيار) 2008، وأمعنت الميليشيات “الإيرانية” قمعاً سياسياً واغتيالاً في حق التيار السيادي نواباً وضباطاً، وطلاباً، وصحافيين، من الطوائف الشريكة الثلاث، أي من المسيحيين والسنة والدروز، وحتى في حق الشيعة الليبراليين. وبسبب ذلك، خرجت دعوات عديدة من داخل المجتمع المدني داخل لبنان ولدى الجاليات اللبنانية في العالم، تطالب بإقامة “منطقة حرة” واسعة من جزين إلى طرابلس فعكار، لتخرج عن سلطة الحزب بحماية الجيش اللبناني، ولكن إن طال الانتظار، فقد يدفع بعض اللبنانيين ومن كل الطوائف، إلى طلاق عن “حزب الله” ويعتمدون خيار الأمر الواقع، أي خيار الدولتين، بين لبنان حر وآخر “إيراني”.
كل هذه الاتجاهات الدراماتيكية قد تتبلور بسبب الانفلاش العسكري والميليشياوي للنظام الإيراني. فالمنظومة الإقليمية لن تكون مسرورة وربما لن تبارك، ولكن الواقع المرير والشعوب لم تعد تتحمل. فإذا حصل الفلسطينيون على دولة مستقلة ولم يحصل العرب والشرق أوسطيون على الحرية والاستقلال، في “المستعمرات الإيرانية”، فسيوضعون في موقع لن يترك لهم خياراً إلى حل الدولتين مع “المستعمرين الجدد”. طهران اجتاحتهم، ولا خيار لهم إلا الخروج عنها.